لما كان الأشخاص ذوو الإعاقة من أكثر الفئات احتياجاً إلى نوع من التنمية الفورية لإمكاناتهم، وكذا لتحقيق أمانيهم فربما كان أقصر طريق إلى تحقيق هذه الأماني وهذه التنمية يتم من خلال طرق باب السلوك الإبداعي الذي يعتمد على توفر عدد من الاستعدادات في البناء العقلي لدى كل إنسان، بمعنى أنه لا يوجد أي شخص لا يتمتع بقدر ما من الاستعدادات الابداعية أياً كان هذا القدر.
وحديثنا عن السلوك الابداعي عند الأشخاص ذوي الإعاقة قد يعتبره بعض الناس نوعاً من التزيد أو المغالاة أو التجاوز، وربما يتبع ذلك التساؤل التالي: وهل انتهينا من تنمية القدرات العقلية الضرورية ونجحنا في ذلك، حتى نبحث عن تنمية السلوك الابداعي؟
والسؤال بهذا الشكل قد يرجع أساساً إلى أن بعضنا قد يتصور، كما تصور كثيرون لفترات كثيرة سابقة، أن السلوك الابداعي قاصر على العباقرة والمتميزين من الناس، أو أنه هبة أو إلهام، ولا حيلة لنا في تنميته أو الحد منه.. ربما يكون هذا هو مصدر التشكك والارتياب فيما يمكن لنا أن نفعله بالنسبة لتنمية السلوك الابداعي عند الأشخاص ذوي الإعاقة.
لقد أشارت الدراسات السابقة إلى ان الاستعدادات الابداعية موجودة عند جميع الناس؛ ذوي إعاقة وغير معاقين، بل مرضى وغير مرضى أيضاً.
أما عن المستويات التي توجد لدى كل فئة من هذه الفئات فهي مستويات متفاوتة ولكنها في كثير من الأحيان قابلة للتنمية. فما المدى الذي يمكن أن ننمي من خلاله الاستعدادات الابداعية عند الأشخاص ذوي الإعاقة؟
ربما تتطلب الإجابة عن هذا السؤال الوقوف أولاً على طبيعة السلوك الابداعي وخصائصه بوجه عام، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن تنميته لدى الفئات النوعية.
الابداع يشير على وجه العموم إلى السلوك المتفرد الأصيل الذي يتسم بالوفرة والتنوع والملاءمة للهدف الموجه إليه. فالصورة الفنية مثلاً هي نتاج ابداعي أفرزه جهد فنان مبدع من خلال سلوك إبداعي.
أما خصائص هذا السلوك فهي أنه يتميز بأنه أصيل أي لا يشبه سلوك الكثرة الغالبة من الناس وغير مسبوق بانتاج مماثل، وهو مرن أي انه متنوع ويمكنه النفاذ إليه عبر السدود والقيود بشكل أو بآخر، وهو يتميز بالوفرة، وهو ليس فقيراً في وحداته أو خصائصه.
والسلوك الابداعي يأتي نتيجة تضافر عدد كبير من ضروب أو وجوه السلوك، فهو وإن كان أساساً بمثابة استعدادات عقلية معرفية إلا أن الجوانب العاطفية والدافعية تؤدي دوراً في ابرازه ونموه، كما أن الأبعاد التشكيلية والإيقاعية والتعبيرية التي تتعلق بشكل السلوك وإيقاعه ومداه تعطيه مذاقاً خاصاً وتجعله متميز الملامح.
كما أن الإطار الاجتماعي للمبدع يسهم إلى حد كبير في دفع نشاط المبدع وفي توجيه خطاه وفي تحديد هدفه ووجهته.
وإذا كانت هذه الخصائص أو الأبعاد الأربعة (معرفية، وجدانية، تعبيرية إيقاعية واجتماعية) يسهم كل منها بمقدار يقل أو يكثر في تنشيط السلوك الابداعي، فإن هذا كله يتم من خلال أسس متفاوتة من الفاعلية يكتسبها من فاعلية الأبعاد الأربعة السابقة، بما يؤدي إلى تمدد درجة ما من درجات الطاقة تنبع من بؤرة الالتقاء والتفاعل بين هذه الأبعاد الأربعة التي نمت حتى هيأت للمبدع فرصة الإبداع.
ومن هنا تبدأ الإجابة عن السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن تنمية السلوك الإبداعي لدى الأشخاص ذوي الإعاقة؟
فإذا عدنا إلى الوراء قليلاً وتعرفنا على الأشخاص ذوي الإعاقة وصنوف إعاقاتهم وكذا على خصائص كل فئة من فئاتهم، وبعد أن تعرفنا هنا في بداية المقال على إمكانات قياس وتقويم خصائص السلوك لدى هؤلاء الأفراد فإنه بذلك يتضح الطريق الذي تمضي فيه خطى من يرغب في بذل الجهد لتنمية السلوك الابداعي لدى فئة أو أخرى من الأشخاص ذوي الإعاقة.
ويمكن تصور أن الجهود التي يمكن بذلها على طريق تنمية الابداع لدى الأشخاص ذوي الإعاقة يمكن أن تمضي وفقاً للمراحل التالية:
- تحديد نوع وفئة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين نرغب في تنمية سلوكهم.
- الكشف عن استعدادات هؤلاء الأشخاص.
- قياس وتحديد طبيعة وخصائص الدوافع الأساسية لديهم.
- تحديد البرنامج وإعداده بما يناسب:
أ ـ جهاز الإحساس والتلقي لدى الشخص ذي الإعاقة.
ب ـ الاستعدادات العقلية لديه.
جـ ـ إشباع الدوافع والحاجات الكامنة لدى كل فرد وكل فئة.
د ـ تنمية الخيال لديه.
وبالنسبة للأشخاص المكفوفين (الذين ليست لديهم إعاقات أخرى) يمكن تصور أن تنمية السلوك الابداعي عندهم يمكن أن تكون في مجال الأدب والشعر والقصة وغيرها.. إلخ، وفي مجال التمثيل (بما يلائم قدرات الشخص الكفيف واستعداده للتخيل والتقمص)، كما يمكن أن توجه الجهود إلى تنمية استعداداته العقلية العادية لتسعفه في التعامل في السياقات الإبداعية المختلفة.
وبايجاز يمكن تنمية مهاراته التي لا تتطلب معالجة بصرية. أما كيفية تنمية تلك المهارات فإن البرامج التي وضعت لتنمية السلوك الابداعي لدى غير المعوقين يمكن بشيء من التعديل أن تصلح للأشخاص ذوي الإعاقة، وهي تعتمد عموماً على تنشيط الخيال والتشجيع على اقتحام العوالم المجهولة والقيام بالمعالجات المبدئية مع التصويب الودي كلما أمكن ذلك والتدريب على تنمية الاحساس بالمشكلات وطرح الحلول (في المجال الذي يتم فيه تدريب القدرة الابداعية).
كما يمكن استخدام أسلوب العصف الذهني الذي يتم في جلسة أولى طرح مشكلة للحل بين جماعة من الأفراد ويُطلب من كل منهم إعطاء أو تقديم الحل المناسب، مع عدم نقد حلول زملائه، ثم يتم عقد جلسة ثانية لتقويم الأفكار المطروحة والتصويت على الحلول الملائمة.
وميزة هذا الأسلوب أنه يشجع الأفراد على العمل والسلوك المتفتح بين الآخرين، ويزود الشخص بثقة تساعده على اجتياز حاجز الخجل أو الخوف أو التردد، كما أنه يسهم في فتح آفاق جديدة أمام خيال المشارك وعقله في جلسة العمل بما يدفعه إلى المشاركة بجهده في تركيب الحلول الابداعية من خلال الحلول المطروحة.
وهناك بالطبع أساليب أخرى يمكن استخدامها في المجال المناسب.
وبالنسبة لباقي فئات ذوي الإعاقة فإن طبيعة الإعاقة هي التي تحدد نوع أسلوب التنمية المجدي.
لذا واجب علينا كأفراد وأسرة ومجتمع أن نعمل جاهدين على تنمية الجانب الابداعي عند الأشخاص ذوي الإعاقة مهما كانت نسبة أو درجة الإعاقة.
وأعتقد أن في تاريخنا العربي والإسلامي نماذج كافية من الأشخاص ذوي الإعاقة المبدعين تثبت صحة ما ذهبنا إليه.
























