(ربّ أشعث أغبر ذي طمْرَيْن لا يَؤُبُهُ لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ، منهمُ البراءُ بنُ مالك)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقوةٍ جامحة تسرّب الايمان إلى قلب الفتى الأنصاريّ البراء بن مالك.. ذلك الكميّ الباسل الذي وصفوه فقالوا: كان أشعث أغبرَ ضئيل الجسم معروق العظم تقتحمه عين رائيه ثم تزور عنه ازوراراً إكبار وإعجاب عند خلفاء المسلمين وقادتهم.. ومنهم الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه حيث قال: (لا تولوا البراء جيشاً من جيوش المسلمين مخافه أن يهلك جنده يإقدامه).
ولطالما كان نور الله مالئاً فؤاده.. نما بين أضلاعه لتزهر أمنياتٌ بكر في روحٍ فدائية.. أثمرت بشغف الجهاد والنزال والقتال..تلهث في سؤالها الذي لا يستريح عن شرف الشهادة.
لذا لم يكن صحابيّنا الجليل يغيب عن مشهد.. أو يتخلف عن غزوة.. إذ كان دائماً في طليعة المجاهدين مقداماً مغواراً.. يضرب بسيفٍ قاطعٍ بتار.. لا يكبو.. ولا ينبو.
فعندما حمي وطيس معركة اليمامة واشتدّ.. التفت قائد المسلمين خالد بن الوليد (رضي الله عنه) إلى الـبـراء بن مالك مخاطباً إياه: إليهم يا فتى الأنصار، فالتفت البراء إلى قومه.. وقد لاحت له أمنياته في طهرها ونزاهتها.. فنادى: يا معشر الأنصار لا يفكّرنّ أحد منكم بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينة لكم اليوم، وإنما هو الله وحده.. ثم الجنة.
وانبرى البراء بعدها إلى مسيلمة الكذّاب وأصحابه في حديقة عالية الجدران كانوا قد تحصّنوا بها خوفاً.. فما كان من بطلنا إلا لينزل الحديقة كالصاعقة يزلزل أركان الكفر والردة.. يبارز وينازل ويفتح باب حديقة الموت ليسّجل أحد انتصارات التاريخ الإسلاميّ.. وبه بضع وثمانون جراحة.. ضمدتها أمنياته التي خالجت نفسه.
وطفق الفتى الانصاري يخوض معركة تلو أخرى يتوق إلى شرف الشهادة.. ففي أحد حروب العراق.. تحصنّ الفرس في إحدى القلاع، فأحاط بهم المسلمون حتى طال حصارهم.. فجعل الفرس يدلون من فوق أسوار القلعة سلاسل من حديد، علقت بها كلابيب حميت بالنار حتى غدت أشدّ توهجاً من الجمر فكانت تعلَق في أجساد المسلمين قتلاً وتعذيباً..
التقط كلاب منها أنسَ بن مالك أخا البراء بن مالك، فوثب البراء وثبة الليث على جدار الحصن، وأمسك بسلسلةٍ كانت تحمل أخاه، فأخذت يده تحترق وتدخن، وراح يعالجها وملؤه الصبر والاحتساب حتى قطعها غير آبهٍ بما يحدث.. حتى أن كتب الله النجاة لأخيه أنس.. بعدها ألقى بنظرة على كفّيه فلم يجدهما مكانهما.. فأخذ زمناً بطيئاً في علاجهما ليستعد لمعركة أخرى يحقّق فيها أمنياته التي لم تغادر حقول توقه وشوقه.
ففي معركة (تُستر) لبت نفسه نداءها.. واستجاب الله دعائها.. فقضى نحبه شهيداً في ساح معركة خالدة من معارك الحقّ والإيمان.. تعلو وجهه ابتسامة هادئة نديّة.
























