لم تتجاوز «سونج كوزال» Song Kosal السادسة من العمر عندما كانت تساعد أمها في زراعة الأرز على الحدود الكمبودية، وفجأة تغيرت حياتها بشكل كبير عندما ارتطمت قدمها بلغم من مخلفات الحرب فانفجر محولا رجلها اليمنى إلى أشلاء لم يجد الأطباء المسعفون بداً من بترها من أعلى الركبة، وبعد أشهر طويلة من المعالجة والمداواة عادت إلى حياتها العادية ولكن بدون رجلها اليمنى، الأمر الذي منعها من الإلتحاق بالمدرسة لفترة طويلة.
اضطرت «سونج» بعد ذلك إلى الاعتماد في تنقلها على عُكَّاز، فأصبحت رحلتها اليومية إلى المدرسة البعيدة شاقة ومؤلمة، كما أنها لم تعد قادرة على مجاراة أقرانها في اللهو واللعب، بل حتى على تجنب نظرات الشفقة في عيون من حولها في الحي والمدرسة.
ما أن بلغت الثانية عشرة من عمرها حتى ساعدها مركز العلاج والتأهيل الذي تتردد عليه في الالتحاق بالحملة الكمبودية الداعية إلى حظر الألغام في العالم، حيث أخذت تتدرب على عرض تجربتها القاسية، وكيف دفعت وهي طفلة، ثمن حرب لم تكن يوماً طرفا فيها بسبب هذه الألغام غير الإنسانية التي لاتميز بين المحاربين والمدنيين الأبرياء، وتبقى في الأرض سنوات طويلة تتربص بضحاياها الأبرياء.
استطاعت هذه الطفلة ببراعة أن تكسب تعاطف كل من يسمعها، الأمر الذي دعا الجمعية الكمبودية التي ترعاها إلى إيفادها لحضور مؤتمر دولي لنزع السلاح في فيينا عام 1995 حيث تحدثت إلى الحكومات المشاركة في ذلك المؤتمر حاملة رسالة كل ضحايا الألغام الأبرياء في العالم التي تدعو إلى حظر هذا السلاح وتطهير الأراضي المصابة من عشرات الملايين من الألغام الجاثمة فيها، وكذلك مساعدة الضحايا في كل مكان من العالم، الذين يزيد عددهم عن ربع مليون شخص ممن فقدوا أطرافهم وأبصارهم بالإضافة إلى تشوهات جسدية مختلفة.
جعلت الحملة العالمية لحظر الألغام التي تضم نحو ألف منظمة من منظمات المجتمع المدني هذه الفتاة سفيرة لها، فسافرت معها إلى عشرات العواصم العالمية تتحدث عن تجربتها وحلمها شأن ملايين الأطفال أن تلعب وتمشي في حقول الأرز دون خوف ودون ألغام.
التقت خلال هذه المناسبات العديد من الرؤساء والملوك والشخصيات العالمية لتسلط الضوء على هذه القضية الإنسانية إلى أن توصل العالم إلى إبرام اتفاقية أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد في عام 1997، ولاتزال «سونج» تشارك في حث المزيد من الحكومات للانضمام إلى هذه الاتفاقية ومساعدة الضحايا في كل مكان في العالم.
التقيتها في «بانجكوك» و«بنوم بن» و«جنيف» وغيرها، خلال مشاركاتي في الحملة العالمية لحظر الألغام، وحدثتني عن تجربتها الشخصية، وكيف أنها كلما ترى حقول الأرز أو حتى تتذكرها ينتابها شعور عارم بالخوف والرعب، وكيف استطاعت رغم ذلك وبمساعدة والدتها أن تواصل دراستها حتى تمكنت أخيراً من إتمام دراستها الجامعية.
نعم.. استطاعت هذه الفتاة الهادئة القادمة من حقول الأرز بفضل رعاية وتدريب هذه الحملة العالمية أن تنقل صوت ورسالة الضحايا والمعوقين في كل أنحاء العالم، من أجل عالم بلا خوف وبلا ألغام.
(*) «عرفتهم»… زاوية ثقافية يكتبها د. غسان شحرور