(من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
دارت رحى الصراع بينه وبين نفسه.. عندما طفق الآمادَ باحثاً عن مفاخر.. وعروض تجارة.. وأرزاق.. لكنه ما لبث أن تلمّس الومض داخله، فأخذ، فأخذ به صادق النبض إلى انكشاف الرؤية الحقّة في انقشاع الظلام بنور عظيم، حين غرّد السلام في ثرى الكون وسمائها، حتى تبدّل الحال إلى أجلِّه، واستقرّ الأمر إلى أفضلِه.
فبعد أن كان سيّداً في جاهليّته.. كبيراً من كبراء قومه.. وقائداً من قاداتهم.. يهاب على سلطانه وصولجانه.. يحارب ويشاقق وينازع في صفوفهم.. تخلى بالإسلام عما هو أسمى مفخرة ومكانة.. حيث غرست الهداية غرسها في جوفه.. فأخذ يشحذ سيفه.. ويمتطي جواده.. كي يقف باختلاف الصفِّ الذي كان فيه يقف.. وهو يبدّل اتجاه المِقْوَد نحو الهدف الصائب.
ذاك هو أبو سفيان: صخر بن حرب بن أميّة القرشيِّ.. ابنه معاوية ـ رضي الله عنه ـ أحد كتّاب الوحي.. وابنته أمّ المؤمنين رملة بنت أبي سفيان ـ رضي الله عنها.
منَّ عليه الله تعالى بنعمة الإسلام ديناً وعقيدة يوم أن فتحت مكة الفتح المبارك.. وفي ذلك أعز الرسول صلى الله عليه وسلم داره ومقداره.. بقوله: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
حرص أبو سفيان على أن يقمع وجه الكفر.. ومعاركة الدامية.. بروح المدافع وعزيمة الذائد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ودينه العظيم.. فنجده يشهد حنيناً.. كما يشهد الطائف التي فيها فقئتْ عينه.. فانداحت أواصرُه تبحث خير الجزاء وثواب الأجر غير مبال بما ألمّ به.
وهذا نفحٌ طيب من دروس محمد صلى الله عليه وسلم.. التي تمنح للصبر معنى، وللثبات إرادة تديرها دواخلُنا.. إذ قال أبو سفيان للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئتَ دعوتُ الله فردّت عليك، وإن شئت فالجنة، قال: فالجنّة.
فهل أطيب من الجنة وريحها أيّها الأعزاء!!؟.
أما واللهِ.. فما برحت نفس أبي سفيان تستصرخ بين جوانحها، تستنطق ماضياً يشتاط لذكره غضباً.. فيكتظّ شوقاً لساعةٍ يكفّر فيها عمّا بدر منه حين أعرض عن نداء الحق في مطلعه.
فنجده في الركبِ مسارعاً للانضمام إلى قافلة الإيمان.. محارباً بين أبطال معركة اليرموك يحرّض ويحثّ.. يكرّ ويفرّ.. يصول ويجول.. حتّى أن فقئت عينه الأخرى.
وفي ذلك قال المسيّب: (فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل يقول: يا نصر الله قريب، قال فنظرت.. فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد).
فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى.. كأن أيو سفيان عامله على نجران.
ولم يكن لفقد بصره ـ رضي الله عنه ـ بدٌّ أن يتنحّى عما يكلف به.. فكان علماً من أعلام الإسلام الذين أوصدوا أبواب عوائقهم.. وسجّلوا فعالهم.. ونضالهم.. في صفحات مذهبة مشرقة.
فرحمةٌ من الله واسعة على أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ وطوبى لعينيه اللتين سبقتاه لأجلّ مكانٍ وأزهى.. وطوبى لجسده الطاهر.. وهو ينام نوم الشرفاء في بقيع الغرقد بالمدينة المنورة.