سيرة ذاتية خليجية
العريمي كاتب عماني طارئ على الكتابة الفنية، أقول هذا لأنني أعتقد أنه لم يكن يدر في خلده يوما أنه سيكون أديبا، وأنه ما كان يطمح إلى أن يكون كذلك حتى بلغ الثلاثين، فسيق إلى الكتابة الأدبية مرغما وليس بطولة، وقد جعلت منه المأساة أديبا مجوّدا بالقوة والفعل، بعد أن مارس الترجمة كمن لا حول له ولا قوة.
ولد محمد عيد العريمي منتصف القرن الماضي بإحدى قرى عمان، ليعيش ككل أبناء جيله الذين خبروا حياة الكفاف متقلبين بين ضنك الصحراء وقسوة طقوسها، ومجاهل البحر وغدر أمواجه، وخذلان المدينة المادي، متقلبا متنقلا جريا وراء الكسب القليل حيث تقتضي ضروريات الحياة آنذاك، جاب مع أسرته أرجاء الخليج على راحلة من عمان إلى قطر واليمن والكويت، كسائر بدو الصحراء حاملين مساكنهم على ظهور جمالهم.
وقد ابتسمت له الدنيا، وفتحت له الحياة أبواب الأمل والطموح بعد أن أنهى دراسته الثانوية في خضم معاناة عسيرة، حيث تيسرت له بعثة طلابية لدراسة الهندسة الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية، فتتلمذ هناك على أيدي أساتذة كبار، منهم من شارك في رحلات الفضاء نحو القمر، وتكللت سيرته بالنجاح والظفر على ما واجه من شظف العيش هناك قياسا بمن هم في سنه ومهمته، عاد مزهوا للعمل في أحد حقول النفط بموطنه وتزوج ممن أحب، ولكن القدر كان أقوى منه حينما وقف له بالمرصاد، فقبل أن يمضي على زواجه الحول، أصيب في طريقه إلى العمل بحادث أعاده إلى ما دون الصفر، أفقده الحركة والإحساس فيما دون رأسه فلم يعد يقوى على حك أنفه، فهل يستسلم للموت حيا؟ أم يقاوم بعقله وإرادته جسدا ميتا بلا إحساس؟ وماذا عليه أن يفعل؟
سؤال ضمن أسئلة شتى تجيبك عنها سيرته الذاتية (مذاق الصبر) التي قد لا يحزنك إذا قلنا حبرها بالدم والدموع كما يحزنك قولنا كان يفكر بكتابتها والقلم مشدود على طرف حمالة خشبية مثبتة على كاهله قبل أن يتعامل مع الحاسوب مترجما لشركة النفط التي كان يعمل فيها قبل إصابته، فأعانته، إذ رافقته في رحلته ورافقها أكثر مما صحبته زوجته وذووه، وأكثر من أي رفيق له في علاجه وتأهيله وتشغيله، لتضرب مثلا للمؤسسات التي تحتضن منتسبيها ويحتضنونها، فكنّ لها الولاء والوفاء عضوا فاعلا ومنتجا قبل محنته وبعدها.. ولايزال.
ولمن يشاء السفر مع عذاب لم يرحم صاحبه، أن يرافقه في رحلة الآلام وغصة الشاب، وحسرة المصاب، وهو يقاوم مخالب الأقدار بصبر وثبات متشبثا بالحياة على ضعف ما أبقت له، فليتمعن في سيرة هذا الرجل الشجاع الذاتية التي نحن بصدد منها، وقد وسمها بـ (مذاق الصبر) حيث تتقلب الحياة بذويها من صبي يتنطط من ظهر جمل إلى آخر في صحارى الخليج، ومن مركب إلى مركب، ومن سوق إلى سوق يبع ويشتري، ليقتني بكل ما ربح في رحلة الطفولة القصيرة الطويلة دراجة هوائية كان يحلم بها، فيزهو بها على أقران له كانوا يمتطون الحمير الخضر، ومن طفل في غرفة تعج بالعفونة بلا مقاعد بمدرسة القرية إلى طالب يشغل مَقعدا دراسيا في جامعة من أعرق الجامعات الأمريكية،ركب الحمار والناقة والمركب، ثم اعتاد ركب السيارة والطائرة، وحين بدأ يخطط لمستقبله ويحلم بما لم يكن يحلم به، يُغدر في غفلة قاتلة ولحظة شؤم يغدو فيها معوقا إثر حادث بدا له بسيطا هينا أول الأمر، ولكن أقصى ما آلت به رحلة علاجه الطويلة أن يجلس على كرسي متحرك أصبح قطعة من جسده، ليجد قارئ سيرته حروفا مخضبة بالمرارة مكتوبة بحد السكين، وبمداد الدم والدموع، وهو يرويها صابرا حامدا عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن أراد أن يتعظ بغيره. وكما شاءت الأقدار لبدوي من عمان كان يلقب براعي البحر أن يطير إلى القارة الأمريكية، شاءت لعراقي قروي كان يتمنى ركوب حمار أبيض (شهري) أن يسافر إلى أكثر من بلد ويحصل على الدكتوراه وبدلا من أن يستقر في بلد عرف الكتابة والقوانين والحضارة قبل غيره ألجأته الأقدار إلى أن يتنقل بين الأردن ومصر وتونس واليمن والبحرين والإمارات ليدرس الأدب الخليجي الحديث فيقع على سيرة العريمي نموذجا ميسرا لكتابة السير الذاتية الخليجية، وقد تكون سيرة العريمي هي الأولى من نوعها في الأدب العماني الحديث كما يبدو.
وقبل تناول هذا العمل الأدبي بالنقد والتحليل لابد من الإشارة إلى أني قرأت سيرته الموسومة بـ (مذاق الصبر) وروايته (حز القيد) اللتين كانتا في مكتبة الكلية، وفي التفاتة ودود أهداني العريمي مشكورا نسختين من طبعتين حديثتين، وهنا اعترف بأنني وجدت قراءة الطبعة الثانية من (مذاق الصبر) ألذ من الطبعة الرابعة، وقراءة الطبعة الأولى من (حز القيد) ألذ من الثانية، وتصورت أن المفاجأة والجدة كانتا وراء إعجابي بالقراءة الأولى، حتى ظهر لي أن يد التشذيب والتهذيب أصابت الطبعات المتأخرة فقلمت اجنحتها، ولعل الكاتب في الطبعات الأولى كان يصدر عن فطرة السهل الممتنع، فالفرق بين الطبعتين كالفرق بين منظرين: منظر طبيعي يثير دهشة الروح بتفاعلك معه فتسبح لقدرة الخالق البارئ المصور، ومنظر اصطناعي يعجبك بانتظام تصميمه ودقة مقاييسه إعجابا عقليا بتناسق أجزائه.
وعتبي على العريمي كيف هان عليه أن يحذف سيرة طفولته وصباه التي أثبتها في الطبعات الأولى بأسلوب الارتداد من النهاية إلى البداية وتخلو منها الطبعات المتأخرة، لعل وجود هذا الارتداد كان يذكرنا بمأساة أوديب الملك حينا ارتد بأحداث مسرحيته من النهاية إلى البداية، وواعجبا من ذا الذي أشار عليه بذلك كأن مأساة حادثته التي فقد فيها إحساسه بجذعه وأطرافه كانت أكثر طرافة من ذكريات طفولته وفطرتها التي ألهمته اجتياز مراحل امتحان مأساته الصعب.
نعم لعل حادث اصطدام سيارته بالجمل كانت نتائجها أقسى عليه من أي حادث آخر في حياته، فاستدر بها تعاطف القراء وهو ما ينبغي أن يتوافر لكل سيرة ملهِمة، ولكن حادث اصطدامه يبقى حادثا فرديا معزولا لولا أن ضرب فيه العريمي لنا مثلا حسنا مقدما نموذجا رائعا للمقاومة والتشبث بالحياة والتفوق على اليأس رغم جسامة ما فقد، بوصف ما حصل له بصدق عاطفي، ودقة متناهية، وجسّد صراعه الداخلي هواجسه النفسية فاقترب من الذروة الدرامية، فشد إليه نفوسنا بما أجاد وأبدع وهذا ما نشهد له به.
بيد أن سيرة الحياة من الطفولة إلى الرجولة تعد سجلا شعوريا وتاريخيا طريفا، وهي معادل موضوعي وشعوري لصورة تجارب جيل بأكمله، وتوثيقا لفلكلور مجتمع، وصورة ناطقة لوعي جمعي وحياة جيل شاء له الله أن يكون قصيرا بتطور المدنية الحديثة بثورة مادية نفطية انفجارية غيرت نمط العيش الخليجي بسرعة متناهية، فلم يعد ما بعدي وبعدك من الأجيال يا محمد يا عريمي يعرف الكثير عن حياتنا الأولى وحياة أجيال سبقتنا، كان ويكون التذكير بها ضمن سيرتك أجدى وأجدر من تركها، وهو ما فعلته في الطبعات الأولى وكان عاملا مساعدا لنجاح سيرتك واشتهارها، ولم تفعله في الطبعات التالية فحرمتنا من لذة امتداد صحبة حياتك الجميلة بالعذاب الجماعي قبل عذاب مأساتك وحدك، فالسيرة الذاتية امتداد لتطور التجارب ضمن رحلة الجسد البيولوجية من الطفولة حتى الكهولة، وليست اختزالا للحياة على ما هو مهم من وجهة نظر البعض.