كان الدكتور صلاح مخيمر في تعريفه للصحة النفسية كعلم يعرف أنها تهتم بأن يكون الإنسان فعالا لا يتوقف ولا يعرف للفشل معنى أو سبيلاً ولا تقهره ظروفه ولا يتعلل لفشله بمبررات قد يقبلها الناس لكنه سوف يشعر بالسوء حينما يجد أن من هم في ظروف أسوأ منه قد تحدى هذه الظروف بل وتجاوزها وسيكون هؤلاء شهوداً على فشله وليس على صدق مبرراته، بل وإن لم يجد فقد يفكر أن يخترق حجاب العادة أو المألوف ويصنع طريقا فالناس عبارة عن: من اتبع خطى الجمع وسار على دربهم وأوصلهم إلى النجاح من خلال السير على خطاهم، وهناك من شق طريقا لنفسه وتبعه الناس، وهكذا كان والد يحيي الرخاوي وهو مدرس لغة عربية، عندما كان يعلم ابنه كان يقول له: عندما ينزل المطر فيكون من الناس من يبتدئ المشي على الأرض وهى مليئة بماء المطر ويدوس على الوحل ليصنع خطى يسير عليها الناس فيما بعد.
وهذا هو حال المبدعين والعباقرة والعظماء.
لذلك فقد عرف الدكتور صلاح منتصر علم الصحة النفسية بأنه (هو دراسة لعلم التوافق ما يعينه وما يعوقه والأشكال المختلفة للاضطرابات، فالتوافق هو الرضاء بالواقع المستحيل على التغيرّ، وهذا جمود وسلبية واستسلام، وتغيير الواقع القابل للتغيير هذا مرونة وإيجابية وابتكار هو يرى أن عملية التوافق تتضمن إما تضحية الفرد بذاتيته نزولا على مقتضيات العالم الخارجي وثمنا للسلام الاجتماعي، أو تتضمن تشبث الفرد بذاتيته وفرضها على العالم الخارجي، فإذا فشل أصبح عصبيا، وإذا نجح كان عبقرياً).
إذن، هناك خط بين العبقرية والعصابية (وهي مجموعة من الأمراض النفسية منها الاكتئاب والقلق والوسواس القهري وفيها يكون الشخص مستبصراً وواعياً بما يعانيه) وقد كان صلاح مخيمر مثالا لهذا الشخص الذي تحدى العجز البصري أو العمى الذي أصيب به…
ودعونا نبدأ من أول الحكاية:
كان صلاح الدين حسني مخيمر من مواليد محافظة المنيا عام 1922 وتخرج من الكلية الحربية عام 1942 وشارك في الحرب العالمية الثانية التي فقد فيها بصره وذراعه وهذا ما حدث (ذات ليلة خرج الملازم ثان صلاح مخيمر مع أحد الجنود في مهمة وكانا يستقلان سيارة جيب، وفي الطريق اعترضت السيارة بعض الأحجار فهبطا ليزيلاها، وفجأة حدث الانفجار، ولما تأخرت عودتهما خرجت قافلة من الجنود للبحث عنهما، ووجدوه بين الموت والحياة، ونقلوه إلى مستشفى العامرية).
وحينها فقد صلاح مخيمر ذراعه وبصره أيضا، وكان بإمكانه الاكتفاء بهذا القدر من خدمة الوطن أو أن يكتفي بهذا التاريخ العسكري، لكن ما وصل إليه بعد ذلك وما قام بإنجازه في مجال علم النفس يدل على أن هذا الشخص لم يكن ممن يقنعون بالتاريخ، بل أراد أن يكون شخصا صانعا لتاريخ وأن يحفر اسمه في تاريخ تطور العلوم والعلماء المصريين والذي انتشر اسمه في كل الدول العربية المحيطة، فقد التحق في عام 1945 بكلية الآداب وتخصص في علم النفس وفي هذا القسم قابل زوجته كما فعل الدكتور طه حسين في فرنسا عندما قابل زوجته ومعينته سوزان، فقد قابل الدكتور صلاح مخيمر زوجته السيدة سامية القطان التي كانت خير معين له والتي أصبحت فيما بعد عميدة كلية التربية جامعة بنها.
وإن كان يقال إن وراء كل رجل عظيم امرأة فقد كانت هاتان السيدتان سببا في صنع علماء أناروا الطريق وضربوا حصار اليأس، وهزموا ما يسمى لدى العامة بالمستحيل تلك الكلمة التي لم يعرفا معناها، ومن الصدف أيضا ان الدكتور طه حسين والدكتور صلاح مخيمر من محافظة المنيا.
ولأن صلاح مخيمر كان من المثابرين فقد كان الأول على دفعته فعينته وزارة المعارف بمعهد المكفوفين في الزيتون، ثم اختارته الوزارة في بعثة لفرنسا ومنحته راتبا شهرياً قدره 62 جنيهاً.
وفي عامين أتم دراسته في علم النفس العام، وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الاجتماعي، ونال درجة الدبلوم بتقدير جيد جد، ولم يكن هذا كل طموحه فقد سافر إلى فرنسا لدراسة علم النفس والتحليل النفسي والحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون وهو بذلك حصل على أرقى الشهادات في مجال تخصصه وهو علم النفس، ليس هذا كل شيء إنما أيضا أراد التدريب على التحليل النفسي وكانت تلك إحدى المشكلات التي واجهته فكيف يعمل محللا نفسيا وهو لا يرى، حيث أن التحليل النفسي من فنياته أن يراقب المحلل النفسي المريض في حركاته وفي تعابير وجهه وانفعالاته، ولكنه أقنع العلماء القائمين على امتحانه للقبول بتدريبه على التحليل النفسي ومن ثم منحه التصريح للعمل كمحلل نفسي، حيث أقنعهم أن السمع من الممكن أن يحل جيدا تلك المشكلة، كما أن المحلل عندما يكون كفيفا فذلك يسمح للمريض أن يتصرف على طبيعته ويسرد خواطره دون أن يخشى نظرات اتهام او اندهاش المحلل… إلخ.
عاد الدكتور صلاح الدين مخيمر إلى وطنه مصر ليعمل أستاذا بمدرسة المعلمين العليا، سالكا طريق الترقيات في يسر كبير نظراً لثقافته العالية وكفاءاته العلمية منقطعة النظير، وقد قام هذا الضابط الضرير بإنتاج أعظم مدونة عربية في علم النفس دون منازع، وقد بلغت جملة مؤلفاته وكتبه وترجماته نحو 40 مصنفا في مجالات علم النفس النظري والتطبيقي، وقد شاركه في انجاز هذه الموسوعة الضخمة بسبب فقد بصره زوجته السيدة سامية القطان التي كانت تكتب له ما يمليه عليها، وكذلك صديقه الدكتور عبده ميخائيل رزق المتخصص في علم النفس، وبذلك كان هذا الكفيف المبصر من أبرز علماء النفس في الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
وفي عام 1953 عندما قابل الصاغ كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة عرض عليه أن ينتقل للعمل بالقسم السيكولوجي التابع لوزارة الحربية آنذاك ووافق الدكتور صلاح مخيمر ولم يكن هذا كل تاريخه فيقول عنه أحد تلامذته وهو الدكتور أسعد شريف الإمارة أستاذ علم النفس المساعد بالسويد.
كان الأستاذ العالم صلاح مخيمر مخزنا معرفيا وموسوعيا في علم النفس الإكلينيكي ومتخصصا فذا في علم النفس بكل فروعه، سريع البديهة، واسع الأفق في الإجابات النفسية المتخصصة. رحم الله هذا العالم الذي ترك الأثر بعد رحيله في مؤلفات يعجز وصفها وفي تراجم من الكتب النفسية يصعب حصرها وبحوث لها الأثر إلى هذا اليوم ومنها ما يتعلق بأحلام المكفوفين.
وقد أشرف على العديد من الرسائل والتدريس الممنهج لعلم النفس وخاصة علم النفس الإكلينيكي هذا الفرع الذى يهتم باستخدام فروع علم النفس لتطبيقها على من يعانون من سوء التوافق أو عدم التكيف وهو ما يعرف باسم علم النفس العيادي أو علم الأمراض النفسية أحيانا
ويبدو أن الأشخاص الذين يرفضون دائما الرضوخ للظروف المحيطة دائما ما يحاولون كسر سقف التوقعات وعدم التصديق بأنه يوجد ما يمنع النجاح او بالأدق عدم الثقة بفكرة أنه هناك شيء يستطيع أن يعيقهم عن أحلامهم عن نجاحاتهم عن أهدافهم عن غايتهم وبالرغم من أن ما قلناه في سيرة الدكتور صلاح مخيمر يكفي أن يثبت ذلك إلا أننا عندما نرى مشاهد من حياته كالتي يرويها تلميذه الدكتور أسعد الامارة من الممكن أن نعرف كيف كان يسير في طريق نجاحه العلمي والمهني، يقول الدكتور اسعد الإمارة:
(وكانت لمحاضراته مع تلميذه في الدكتوراه آنذاك الاستاذ الدكتور حسام الدين عزب الأثر الواضح في تعلمنا سلوكية الدراسة العلمية ومناهج التقصي في الظواهر النفسية وخصوصا في مادة (موضوع خاص) وهي مادة تناولت العلاج السلوكي الحديث رغم أن قسم علم النفس في آداب عين شمس عرف عنه أنه قسم متخصص في التحليل النفسي وترأس القسم على التوالي في تلك الفترة العالم الشهير المرحوم الاستاذ الدكتور سيد محمد غنيم (رحمه الله) ثم تلاه الاستاذ الدكتور محمود الزيادي ثم المرحوم العالم الجليل الأستاذ الدكتور فرج أحمد فرج (رحمه الله) وكان من أساتذة القسم العالم الكبير الأستاذ الدكتور مصطفي زيور وهو أستاذ غير متفرغ يقوم بتدريس السنة الأخيرة لمادة علم النفس المرضي وتدريس طلبة الدراسات العليا في القسم).
ومن أسماء بعض الكتب التي تركها الدكتور صلاح مخيمر هي:
- نظرية الجشطلت وعلم النفس الاجتماعي.
- علم الاجتماع عند ماركس الشاب لجريفتش.
- سيكولوجية الإشاعة لأولبورت وبوستمان.
- المدخل إلى الصحة النفسية.
- نظرية التحليل النفسي في العصاب لأوتوفينخل (3 أجزاء).
- الأنماط الانفعالية للمكفوفين.
- تاريخ تأهيل المكفوفين.
- مقالات الاشتراكية في دوائر المعارف العلمية.
- مقدمة في العلاج السلوكي عند ديفيد مارتن.
- المجال الفيزيائي والمهني للمكفوفين.
- العمى (رعاية المكفوفين) للأب كارول.
- في مجال الحياة الوجدانية الاجتماعية للمكفوفين.
- سيكولوجية الشخصية: دراسة الشخصية وفهمها.
- سيكولوجية الشخصية لتوتكات
- .خمس حالات من التحليل النفسي لسيجموند فرويد (جزءان)
- الدعاية السياسية لدومنياك.
- سيكولوجية المرأة لماري بونابارت.
- المدخل إلى علم النفس الاجتماعي.
وقد توفي الدكتور صلاح مخيمر عام 1988 بعد أن ترك بصمة في تاريخ علماء النفس في الوطن العربي وكان أحد علماء النفس المكفوفين الذين يمارسون التحليل النفسي، وحينما تصادف كتابا مترجما لرواد التحليل النفسي في أواخر القرن العشرين سوف تجد المترجم إما الدكتور مصطفي زيور أستاذ التحليل النفسي في مصر أو الدكتور صلاح مخيمر وهما من أعلام التحليل النفسي في مصر والوطن العربي، وإن كنا نعرض لسيرة الدكتور صلاح مخيمر فإما لأننا نجد فيه قدوة مشرفة، أو لكي نعرف نضال علمائنا في صنع مستقبل للعلم في بلادهم كأحد سبل التقدم في أي دولة متقدمة.
وللقارئ أهدي كتاب علم النفس الجشطلت لبول جييوم الترجمة للدكتور صلاح مخيمر وعبد ميخائيل والمقدمة والمراجعة بقلم أحد أهم وأكبر شيوخ علم النفس في مصر وهو يوسف مراد، ويتناول الكتاب العديد من تجارب الإدراك لمدرسة الجشطلت والقوانين التي استخدم معظمها فيما بعد في المنحى العلاجي للجشطلت وبعض الاختبارات النفسية وهناك فصل يبدأ من ص 147 يسمى باثولوجية الإدراك يتم ذكر فيه حالة مرضية وكيفية تمييز الاضطراب العضوي باستخدام قوانين الجشطلت.
http://hotfile.com/dl/62615146/9f8bc3b/alm-alnfs-aljshtlt-jee-ar_ptiff.pdf.html
مراجع
- صلاح مخيمر (1979). مدخل إلى الصحة النفسية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية
- https://www.facebook.com/turath.masry?ref=stream
- https://groups.google.com/forum/#!msg/abohabibas/jCiv0nfoKeM/JK6EE9qjYOwJ
- http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD_%D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85%D8%B1
- http://www.tunipresse.com/article.php?id=33382