أود حذف كلمة معاق من اللغة، نعم لا أقبلها، ولا أستسيغها.. فالمعاق الحقيقي هو من جف قلبه عن النبض بكامل الإحساس.. وهي الحقيقة الربانية التي أنزلها الله تعالى في كتابه الكريم، (قل إنما لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
فالعجز الحقيقي والإعاقة التي تعوق كامل الحياة – لنراها بنورها الرباني الأبيض – فيما يحمله الصدر الأسود من الضغائن والكراهية. وهو ما يبعد تماماً عن تلك الفئة التي أحسبها أنسب تعبير عنها هو (ذو احتياج خاص) ومن منا لا يحمل احتياجاً خاصاً جدا لأن تمتد إليه اليد تسند خطوه؟! تعلمه أنه كائن وحي وموجود. فقط يحتاج لقلب كبير، وعقل واع يمنحه حقه في الحياة..
نعم أتوا إلى الدنيا.. وبفيض من نور الله. تقبلوا حرماناً عوضهم مولاهم عنه خيراً. فمن فقد البصر وهبه جل علاه البصيرة. ومن حجزته أسوار كرسي ذي أربع أركان.. وسعت له أفكاره مفاتيح الحياة ليجتهد ويخطو بعجلاته.. وعزمه وكامل إرادته نحو ما يريده..
- رأيته يتحرك هنا وهناك… يدير بعقله وكامل كيانه مؤسسة كاملة تدعى (ناس) ودفعني النور الذي أضاء وجهه للسؤال عنه ليفاجئني الرد أنه أستاذ بكلية التربية الرياضية… حدثت له إصابة في العمود الفقري أسلمت منه الأقدام لموضع كرسي لكنها أبداً لم تسلم منه الروح والعقل والوجدان… اسمه أشرف مرعي… على البعد صافحته. أحترم داخله.. وحين تحدث زاد تقديري إليه..
- هي أم لخمسة رجال أعترف أنها (أم فوق العادة) صبرت، وعبرت بأبنائها محنة الصمت… لأرى بالعيون كلمة عرفان تغني عن مئات الكلمات… ومن نجاح لآخر مضوا تحمل أنفسهم ابتسامة لا يعرفها أصحاب الكلمات المدوية بفرط حقد وكراهية… أحسب صمتهم أجدى من نعمة تحولت مع غيرهم لنقمة.
-
(عذرا لا أسمعك) …
عنوان اخترته لندوة حضرتها… لفتت نظري بجمالها المفرط في الهدوء… حاورتها وجاءني الرد مجرد ابتسامة صامتة… وإشارة نحو الأم الصامدة في مكانها… توشحت بالسواد نعم… لكن الأبيض يملأ منها القلب الذي احتوى أمل… من سن ثلاث سنوات لم تنطق الأحرف… وانتظرت كلمة (ماما) منها لكنها لم تسمعها… حاولت… أحضرت بالونة كبيرة لتحدث صوتاً مدوياً.. لكن الصغيرة لم تستجب بعد.. بكت.. ذهبت لجلسات العلاج بالتخاطب. ولم تستسلم.. فنعمة الذكاء.. جعلت النبتة تكبر على فهم لقراءة حركة شفاه. وتخرجت من المعهد العالي للفنون التطبيقية وكانت الأولى على دفعتها السامعة وأصبحت معيدة في المعهد الذي درست فيه.
-
(أتنفس لأعيش)
عنوان آخر لتحقيق دوّنته. أحسب أنهم طالما هم موجودون نشاركهم نحن نفس الهواء، وذات الطعام، وتلك المياه.. فلهم الحق في معيشة كريمة.. لفت انتباهي (لافتة بالمترو) خاص بالأشخاص ذوي الإعاقة. ونظرت إلى الجالسين لأجدهم من غير ذوي الإعاقة، لكن القلب طاوعهم على أخذ حق غيرهم، كيف؟ لا أدري!!! نحن بحاجة لإحساس كبير يضمهم.. لا نلفظهم أو نواريهم أو نغض الطرف عن وجودهم.. بل الأخذ باليد.. التربيت على الكتف.. التصفيق للنجاح.. الخطو نحوهم.
لنأخذ موقعاً بجانب قلوبهم البريئة التي تذكرني دوماً بطير مر بنافذتي ورحل. ولا زلت أنتظر قدومه مرة أخرى.
- قابلت أحدهم يوماً… ارتدى بدلة كاملة… وبادرني بكلمة واحدة… أظنها اخترقت منى القلب.. قال لي.. أحبك يا صفاء.. وظللت أرددها بيني وذاتي كمقطع لأغنية قديمة لفيروز. أو موسيقى لموتسارت.. وعلمني يومها.. كيف أقول كلمة حب بلا خجل.. لكن هم الذين لهم كامل القدرة على الحب.. يقفون على البعد في الانتظار.. وأحلم معهم بالالتفاف بينهم.. لنصنع دائرة كبيرة.. ونلتف.. بأيدي متماسكة.. متشابكة.. لأعود معهم وبهم وبينهم لبراءة الأعوام الأولى، وأخطو.. على البعد.. هم القريبون جداً جداً من القلب.
أعرف أنى أحمل بقلبي رسالة
وبقلمي.. بضع كلمات
انا صار لازم ودعكن وخبركن عني..
انا كل القصة لو منكن ما كنت بغني
أنا كل شي بقوله عم حسّه وعم يطلع مني
دايماً في الآخر في آخر في وقت فراق
لكنى لا أملك أن أفارق اليتيم المعاق.. إذا كان المعاق في حاجة لعون، فاليتيم المعاق يحتاج للضعف ووحدي معهم بنهر الخير أرى زيهم القديم المهلهل البالي.. ودعوة.. لحنان وأستند إلى قول الرسول الكريم.. داعياً للخير فأدعو لأن نعاملهم بحنان.. فهم كالملائكة بيننا على الأرض.
وما نكتبه لا يؤذي مشاعرهم.
حتى لا ينكمشوا داخل ذواتهم.
فهم الأفضل عند الله.
صفاء صالح
رئيس قسم المرأة بجريدة الجمهورية المصرية
ليسانس آداب قسم إعلام 1988.
محررة منذ عام 1987، ومهتمة بمتابعة ونشر قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة منذ 20 عاما. وكرمت من عدد من الجمعيات العاملة في مجال الإعاقة للجهد الإعلامي تجاه قضاياهم ومنها (حنين، شموع، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، دار الأورمان، معهد شلل الأطفال).