سألت نفسي ترى لماذا تكون حياتنا دائما سباقاً في سباق؛ جري في طريق بلا نهاية أو لا نريد أن نرى نهايته، ننزل إلى العمل في الصباح الباكر نعمل أو نلهو المهم أننا لا نفكر إلا فيما هو أمامنا، وعندما ينتهي وقت العمل ـ وقد لا ينتهي بالنسبة للبعض الذي يعمل عملا آخر ـ ويرجع في آخر نهاية النهار منهكا يأكل ثم ينام ويصحو ليكرر السيناريو نفسه في اليوم التالي، أو بعد أن ينتهي بعضهم من عمله فيعود إلى المنزل لينام إلى المغرب أو العشاء ثم يصحو ليجلس أمام التلفاز أو ينزل ليجلس في المقهى مع أصحابه..
وهكذا كل يوم يدور في الدائرة نفسها التي لا يخرج منها وإن كان هذا لا يعني أن كلاً منا يفعل هذا ولكن هذه هي الخطوط العريضة لفكرة الوجود بداخل ترس الماكينة الذى يدور باستمرار ولا نستطيع الفكاك من أسره.
دائما ما فسرت نظريات علم النفس سلوكيات الإنسان كلاً حسب وجهة نظر روادها فمنهم من فسر أن الجنس والعدوان هما من يتحكما بالإنسان فهو يبحث عن اللذة وتحركه طاقة كبيرة بداخله تنتصر عند البعض بإظهار شرها بشكل مباشر وتتخفى عند البعض الآخر في أشكال حياتية أخرى.
ومنهم من فسر سلوكيات الإنسان في الحياة على أنه دائما ما يشعر بأنه ينقصه شيء أو يشعر بالنقص في شيء ويريد دائما تعويضه ويسعى طوال حياته في التعويض منهم من ينجح فيه ومنهم من يجنح إلى المبالغة في سلوكيات التعويض فتنقلب إلى عنف أو شكل غريب لسد هذا النقص.
وفسر آخرون سلوكيات الإنسان بأنه دائم السعي في الحياة ليحقق ذاته ويصل إلى ما يريده ليشعر بالسعادة المنشودة وآخرون فسروا سلوك الإنسان أن بداخله ثلاث حالات هي حالة يكون فيها طفلاً ويتعامل بذلك الطفل اللطيف أو المدلل الذي بداخله أو الطفل العبقري الذي يتسم بالذكاء ولكنها في النهاية لا تعدو أن تكون إلا تصرفات طفل وفي الحالة الثانية يتصرف مثل شخص راشد حكيم يوازن الأمور بحكمة وعقلانية ومنطق دقيق وفي أحيان أخرى يتعامل الإنسان كأب، وفي تلك الحالة يتأرجح ما بين العطف والقبول والحنان تارة لمن يعامله، والنقد والتسلط الأبوي تارة أخرى.
كل ذلك نعرفه جميعا وهناك العديد من التفسيرات التي تبين لماذا يفعل الإنسان ذلك؟ لماذا يتصرف الإنسان بهذه الطريقة وينحو هذا النحو وتكون هذه حياته؟
لكنني توقفت لحظة في تفسير سلوك الإنسان وسألت هل الحياة تشغل الإنسان حقاً وتملأ وقته! وتجده في كثير من الأحيان في حالة انشغال دائم لا تعطيه الحياة فرصة للتفكير حتى فيما يفعل؟
لكني اعتقد ان الإنسان هو من يريد أن يشغل حياته بهذه الطريقة، فيكون السؤال التالي ولماذا يفعل الإنسان بنفسه ذلك؟
لأن كل شيء في الحياة قابل للزوال حتى الحقائق قابلة للتفنيد والدحض فما إن تكون هناك قاعدة علمية ثابتة راسخة مثلما كانت قاعدة أن الأرض مركز الكون وأن الأرض بيضاوية والكون يدور حولنا إلى أن جاءت حقيقة علمية أخرى لتغير هذا الاعتقاد فكل شيء قابل للزوال وتبقى حقيقة واحدة: هناك شيء غامض يسمى الموت! حقيقة لا نستطيع إنكارها حتى لو أردنا ذلك، هناك نهاية وفناء لكل شيء وأنا وأنت برغم معرفتنا بذلك إلا أننا دائماً ما نعتقد أن الموت للآخرين! لكن الأنا الخاصة عندما أتكلم عنها لن يصل إليها ولن يمسها هكذا نتصور.
لذلك تكون سلوكياتنا دائما إما ببحثنا عن أشياء نريد أن نخلد بها ذكرانا وحياتنا وكأننا نريد أن نحيا من خلالها ونقاوم فكرة الموت والفناء والنهاية فمن خلال النسل والكتب والأعمال التي نعملها كلها تكمن خلفها الرغبة في الخلود، وعلى المنحى الآخر يقابلها بشكل خفي الهروب من الموت أو التفكير فيه أو الوقوف للحظات لنفكر أننا قد نموت فعلا، فتجد الحياة دائما مليئة بالأشغال حتى أن البعض يخشى لو أنه جلس يوما بدون أن يطحن وقتها عملا وركضا هنا وهناك حتى لا يعطي للتفكير وقته، ويمر العمر ونحتفل بأعياد ميلادنا التي تمر… نحتفل باقترابنا من الموت وننسى أن نفكر ولو للحظة أننا كل يوم نمضى في طريقنا إلى المصير الذى نخشاه ونهرب منه بعقولنا، ننسى أننا كل يوم نكبر عاما بعد عام وما مضى من وقت لن يعود تبقى ذكراه حية فقط، ذكريات طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وهكذا… فنقول إننا في الأمس كنا في العشرين وبعدها كنا في الثلاثين وفي الأمس القريب كنا قد ودعنا الأربعين لكننا لا نرى ماذا يعنى ذلك… يخيل إلي أن كل نشاطات الإنسان هي في حقيقة الأمر عبارة عن هروب من فكرة الموت هروب من الموت ذاته ووجوده على مستوى الوعى على مستوى اللحظة، فنحن وإن أنكرناه في لحظتنا هذه فلن نخفيه إنه يعمل داخل عقولنا في منطقة وكأنها غرفة تحكم غير مرئية تتم منها إدارة حياتنا بشكل يحقق لنا الراحة الوهمية والسعادة الزائفة التي يشعر بها طالب راسب في الاختبار ولكنه لا يصدق رسوبه فيظل واهماً أن هذه النتيجة ليست حقيقة وأن المفروض أن ينجح ويتناسى الأمر على هذه النهاية المتخيلة ظناً منه أن ذلك الوهم سيغير الواقع الذى هرب من مسؤولياته، وكأنه هروب من الموت الى الحياة.
ولكن هناك شكل آخر للهروب وهو الهروب من الحياة إلى الموت وذلك عندما يفقد الإنسان إحساسه بالواقع لثقله أو هروبا من تحمل ألمه مسؤولياته الملقاة على عاتقه ولكي يهرب من ذلك قد يتخذ أشكالا مختلفة من الهروب إما أن يجن أو أن يصبح شخصا حاقدا ومدمرا لنفسه وللآخرين وإما أن ينضم لجماعة تعتنق أفكاراً هدامة تدعو إلى الموت بأفعالها وبرغم أن نهايته متوقعة إلا أنه يدخل بها هروبا أيضاً من الواقع ليرتمي في أحضان الموت.
وهناك أشكال أخرى من تدمير الذات كذلك الشخص الذي يموت بجرعة عالية من المخدرات هروبا من ألم الواقع وثقله وأعبائه التي رفض تحملها فهرب منها.
وفي بعض الأحيان قد يحمل الهروب من الواقع وعدم تحمل مسؤولياته إحباطا واكتئاباً مدمراً للفرد خاصة من يكابر ويظن أنه لا يمكن أن يحزن ولو لدقائق فيلجأ إلى العدوان والعنف والتدمير لتفريغ هذه الشحنة وهذا الكره الذى أخذ مساراً غير طبيعي في الخروج إلى أرض الواقع، في بعض الأحيان بدل أن نقول أكرهك بشكل مباشر نقولها بأشكال أخرى مع أننا ننطق بأفواهنا وللشخص نفسه كلمة أحبك ولكننا نتصرف أحياناً معه بطريقة تدمره وتدمر العلاقة بيننا وكأنه عقاب لنا أيضاً على هذا الكره الذي لا نستطيع إخراجه.
لعل الفرصة قد تأتي لنتكلم بشيء من التفصيل في هذا، ولكن أرأيت كيف أن الحياة قد تحمل في طياتها الدمار!!