عادة ما تترك الحوادث التي يتعرض لها الإنسان الكثير من الدمار في الممتلكات المادية والأرواح، وتؤثر في أوجه الحياة الاجتماعية والأقتصادية، وتخلّف دماراً في البنية التحتية، وآثاراً ملموسة على من يتعرضون لها، وهذا ما تحاول أن تركز عليه وسائل الإعلام عند تصويرها للحدث، مغفلة نتائج وتداعيات الحادث الذي مر به الإنسان من النواحي النفسية والانفعالية، وخاصة الأطفال منهم، حيث تركز الكاميرا على مشاهد الدمار المادي والإصابات الجسدية دون قدرتها على الولوج إلى أعماق النفس الانسانية، والتعرف على مدى الدمار النفسي والانفعالي الذي لحق بالأطفال المعايشين لهذه الحوادث على مختلف أشكالها حتى بعد انتهائها.
ما تلبث الأحداث أن تصمت وتتبدد أصوات النحيب على شخص عزيز تم فقدانه، حتى تحاول الحياة أن تعود إلى طبيعتها وتلملم الأسرة المنكوبة جراحها، إلا أن هناك الكثير من المشاهد والأصوات التي ما زالت ماثلة أمام الأطفال وعالقة في أذهانهم، والتي لا يجدون تفسيراً لها، وكأن كابوساً مزلزلاً قد أتاهم بغتة وظل صداه يتردد ملازماً لهم في حياتهم اليومية، حيث تبقى حالة ما بعد الصدمة، من صور وأصوات وتخيلات، ساكنة في صمت في أعماق الطفل، إلى أن يتم استثارتها بين الحين والأخر، فتنفلت من عقالها عبر الأحلام والانفعالات، وبعض السلوكيات اليومية.
تستخدم عادة كلمة (صدمة) للتعبير عن التأثر النفسي الشديد، وهي حالة من الضغط النفسي تتجاوز قدرة الإنسان على التحمل والعودة إلى حالة التوازن الدائم بعدها، دون آثار مترسبة، وهناك من الصدمات التي تهدد بخطورة على الحياة أو الإصابات الجسدية والمفاجآت الخارقة للعادة … فتجعل الإنسان في مواجهة الخوف من الموت، الإبادة، الإيذاء، العجز، الألم أو الخسارة.
إن من أهم تأثيرات الصدمة على الأطفال هي الاضطرابات السلوكية التي تأخذ أشكالاً متعددة، كالقلق الشديد والخوف من المجهول وعدم الشعور بالأمان والتوتر المستمر، فيشعر الطفل بأنه مهدد دوماً بالخطر، وأن أسرته عاجزة عن حمايته، فعلى الرغم من أن الوالدان هما مصدر قوة الطفل وأمانه، إلا أنهما عاجزان عن توفير ذلك.
وكما هو عليه الحال في صدمة ما بعد الحرب والتي تترك آثارها النفسية والاجتماعية بعيدة المدى على الطفل، فهناك الصدمات الأخرى التي تحدث آثاراً عميقة في الطفل وتسبب له في بعض الأحيان ما يسمى باضطراب ما بعد الصدمة Post Trauma Disorder = PTD، ومن هذه الصدمات المؤلمة: صدمة فقدان شخص عزيز على الطفل كموت أحد الوالدين أو الأقارب، صدمة التعرض لحادث سير مروّع، وصدمة التعرض لنوع من أنواع الإساءة الجسدية أو الجنسية، وصدمة التعرض لإعاقة وفقدان أحد أعضاء أو حواس الجسم.
ويعبر الطفل عن هذه مشاعر الصدمة بأوجه مختلفة، منها العدوان نحو الآخرين والتعامل بخشونة مع الزملاء، وسرعة الاستثارة الانفعالية، فنراه يصرخ أحياناً بلا سبب، أو يغضب لأتفه الأسباب، ومن العادات السلوكية التي تعبر عن قلق هؤلاء الأطفال نتيجة الصدمة قضم الأظافر والتبول اللاإرادي، والتي تعتبر انعكاساً لحالة من الأمان التي كان يعيشها الطفل في مرحلة عمرية سابقة، وهو يحن للرجوع إليها كونها تذكّره بمرحلة ممتعة بالنسبة له، أو هروباً من الواقع الموجود حالياً.
وفي ظل هذه الظروف التي عايشها الطفل، لا بد من التدخل لحمايته للحد من تفاقم هذه المظاهر النفسية والانفعالية التي طرأت عنده والتي قد تترك بصماتها على شخصيته على المدى البعيد، ومن أهم استراتيجيات التعامل معهم هي الطمأنة ومحاولة إعادة حالة الشعور بالأمان، نظراً لأن الأمان هو من الحاجات الفسيولوجية الهامة عند الإنسان والتي صنفها بعض علماء النفس بعد حاجات الطعام والشراب والنوم، فإذا لم يتم إشباع هذه الحاجة سينعكس الأمر بالضرورة على مدى قدرة الطفل على اشباع الحاجات النفسية والاجتماعية الأخرى التي ترتكز عليها، كالحاجة إلى الحب والانتماء والتقدير.
وهناك حاجة إلى التفريغ النفسي والانفعالي للمشاعر المكبوتة التي اكتسبها الطفل وقت الحرب، حيث يعجز الكثير من الأطفال عن الحوار اللفظي للتعبير عما يجول في خواطرهم ويشعرون به، لذلك يكون اللعب الحر والرسم وتمثيل الأدوار أدوات هامة لتفريغ هذه الإنفعالات، إضافة إلى محاولة إخراج الطفل من دائرة الحرب التي طوقت عنقه طوال فترة من الوقت، وتوفير الجو الملائم الذي يشبع فيه ميوله واهتماماته، وممارسة الأنشطة المثمرة والترفيهية، إضافة إلى الانخراط في الجو التعليمي الذي يشد الطفل للإهتمام بالمذاكرة بعيداً عن آثار الحرب وترسباتها.
وخلاصة توجيهات المختصين في هذا المجال أنه على الأهل في حال تعرض الطفل لظروف مروعة أن يبدأوا مباشرة بإحاطتهم بالإطمئنان ولا يتركونهم عرضة لمواجهة هذه المشاهد دون دعم نفسي، وذلك عن طريق الحديث المتواصل معهم وطمأنتهم بأن كل شي سيكون على ما يرام وأنهم لن يصيبهم شي مع التركيز على بث كلمات من الحب أو تشتيت فكرهم عن التركيز في الحدث المروع الذي وقع…. فهذه اللحظة هي الأهم في حياة الطفل النفسية وكلما تركناه يواجهها وحده يزداد أثرها السلبي بداخله على المدى القريب والبعيد .
وفيما يلي مجموعة من الإقتراحات العملية المقدمة لأولياء الأمور من أجل مساعدة الأطفال في أعقاب تعرضهم لصدمة ما:
استمع
من المهم جداً أن تجعل أبناءك يعلمون انك تهتم بهم وانك متاح لهم إذا أرادوا التحدث عن مشاعرهم… وأحيانا لا يعرف الطفل من أين يبدأ ، ولهذا حاول أن تشجع الأطفال عن طريق توجيه أسئلة ذات علاقة بالموضوع الذي شكل لهم الصدمة، دون أن يبدو الأمر وكأنه استجواب. وقد تحاول أيضا أن تكون قدوة لهم عن طريق مشاطرتهم مشاعرك الخاصة من أجل بدء محادثة، أو قراءة كتب معهم عن أطفال أصيبوا بنفس المشاعر التي يمرون بها وقد تغلبوا عليها، من أجل تحفيز النقاش مع الأطفال.
استخدم وسائل اتصال غير شفوية
يجد العديد من الأطفال صعوبة في التعبير عن أنفسهم شفوياً. حاول المبادرة إلى إجراء “محادثة” عن طريق ألعاب أو رسومات، عندئذ يستطيع الطفل التعبير عن نفسه أثناء وجودك بجانبه، وقد يكون عناق واحد أحيانا أكثر أثراً من حديث مطّول.
كن صبوراً
يواجه الأطفال الصدمات بطريقة تختلف عن طريقة مواجهة الكبار لها، فهم لا يستطيعون تدبر أمورهم عند فترة وقوع الحدث، بل يفضلون التنقل بين الحزن والحياة الروتينية…حاول الامتناع عن إصدار حكم عندما يريد طفلك مشاهدة أفلام كرتون ضوضائية أو استقبال أصدقاء بالبيت، ولا تنسى أن هذا لا يعني بأن طفلك لا يشعر بحالة الصدمة.. بل هذه هي وسيلته لمواجهة الموقف، ويمكن أن تكون هذه الوسيلة مختلفة عن وسيلتك في المواجهة.
اقبل المساعدة من العائلة والأصدقاء
في الفترة التي تعقب حالة الصدمة، قد تجد مشقة كبيرة في العناية بطفلك أو بنفسك كذلك. فلا تتردد في الطلب من العائلة ومن أصدقاء مقربين مساعدتك في العناية بالأطفال أو مساعدتهم على الترفيه والخروج من حالة الصدمة التي تعرضوا لها وما يرافقها من مشاعر.
قلّص التعرض لصور مزعجة في وسائل الإعلام
لا بد من مراقبة مشاهدة الطفل للتلفاز، بحيث يمتنع قدر الإمكان عن مشاهدة مواقف العنف، أو الأمور المحزنة والتي تذكره بموقف الصدمة، والتركيز على مشاهدة البرامج الترفيهية والتي تجلب تسلية للطفل، وتنقله من مرحلة الصدمة إلى مرحلة التعايش الطبيعي مع الحياة اليومية.
حدّد إن كان طفلك يحتاج إلى مساعدة مهنية
خلال الأسابيع والأشهر التالية للصدمة التي تعرض لها الطفل، قد تظهر على طفلك أنماط سلوك غير مألوفة كالبكاء المتكرر، والانعزال، وتدني تحصيله المدرسي والتبول في الفراش. وفي العادة يواجه الأطفال الصدمات التي يتعرضون لها في حياتهم اليومية دون مساعدة مهنية. غير أنه إذا رأيت بأن طفلك ما زال يجد صعوبة في تأدية وظائفه اليومية العادية بعد بضعة أسابيع من الحدث، وأنه ما زالت تغمره حالة من الحزن ويعبر عن القنوط والضجر، فلا تتردد في طلب المساعدة من المختصين، وقد يكون الأخصائي المدرسي مصدراً جيداً يرشدك إلى نوع الأساليب المناسبة في التعامل مع حالة طفلك.
- دكتوراه الفلسفة في التعليم الخاص والدامج ـ الجامعة البريطانية بدبي
- يعمل حالياً في إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم ـ وزارة تنمية المجتمع ـ دبي.
- له العديد من المؤلفات حول التقييم والتأهيل النفسي والتربوي وتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة.
- باحث مشارك مع مجموعة من الباحثين في جامعة الامارات العربية المتحدة للعديد من الدراسات المنشورة في مجال التربية الخاصة.
- ألقى العديد من المحاضرات والدورات وشارك في الكثير من المؤتمرات حول مواضيع مشكلات الأطفال السلوكية، وأسر الأشخاص المعاقين، والتقييم النفسي التربوي، التشغيل، التدخل المبكر.
- سكرتير تحرير مجلة عالمي الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع في الإمارات.
- سكرتير تحرير مجلة كن صديقي للأطفال.
جوائز:
- جائزة الشارقة للعمل التطوعي 2008، 2011
- جائزة راشد للبحوث والدراسات الإنسانية 2009
- جائزة دبي للنقل المستدام 2009
- جائزة الناموس من وزارة الشؤون الاجتماعية 2010
- جائزة الأميرة هيا للتربية الخاصة 2010
- جائزة العويس للإبداع العلمي 2011