مفهوم الانتماء لغة:
الانتساب، يقال: انتمى فلان إلى فـلان إذا ارتفع إليه في النسب. ويشترك تعريف الانتماء اصطلاحاً مع التعريف اللغوي بأن كليهما انتساب، ويمكن تعريف الانتماء اصطلاحاً بصورة عامة بأنه الانتساب الحقيقي إلى أمر معين فكراً وتجسده الجوارح عملاً. أما التعريف الخاص بالانتماء الوطني فهو: الانتساب الحقيقي من الفرد لوطنه فكراً والذي تجسده الجوارح عملاً.
وبما أن الانتماء انتساب الفرد لوطن، فإن هذا ما يعبر عنه بالجنسية؛ لأنها تقوم على أساس فكـرة التبادل بين الفرد والدولة في الحقـوق والواجبات، ويغذي هذه الفكرة إحساس روحي لدى الفرد برغبته في الانتماء إلى وطنه، والانتماء للإسلام يذكي الانتماء للأوطان، فـلا ينكر الإسلام الوطنية التي هي حب الوطن، بل يؤكدها ويغذيها، ولكن بترشيدٍ كريم وبفهم راق، وبما يتفق مع منظومة المنهج الإسلامي بمفرداته التي يتكون منها.
وانطلاقاً من هذا الواقع يمكن تعريف الانتماء الوطني بأنه: عملية انتساب الفرد لوطنه، متفاعلاً معه قولاً وعملاً، ومستعداً لنصرته والذود عنه بكل ما يملك. وهذا التعريف يشير إلى أن الانتماء أهم مقومات الوطنية التي يجب الاهتمام بتربيتها. وقد سعى الإنسان منذ القدم إلى إصدار القوانين التي تحدد طبيعة انتمائه إلى المكان الذي ولد وعاش فيه، فكانت ممارسة الانتماء تابعة لطبيعة النظام ومنحه حقوق المواطنة للجميع ومدى حرص المواطنين على أداء واجباتهم وممارسة حقوقهم في الوطن الذي يعيشون فيه.
والانتماء الوطني هو أحد دوائر الانتماء، والتوفيق بين الانتماءات من محبة الأسرة والعائلة ثم الجماعة ثم الوطن ثم الجماعة الكبرى في الإسلام، لا تلغي فيه الدرجة العليا ما دونها ولكن المنهي عنه التعصب والطائفية التي تؤدي إلى الفرقة والانقسام وتحرض على الظلم. كما يبين الأدب أهمية الانتماء الوطني حيث أنه بمثابة ضمير داخلي يوجه الفرد ويرشده إلى ما فيه صالح وطنه، فكلما وجه الانتماء إلى الوطن توجيها سليماً كان ذلك عاملاً من عوامل بناء المجتمع.
ويعمل الولاء على حماية المجتمع من عوامل الفساد والانحراف، والظواهر السلبية كالفساد والتجسس، وعمليات التخريب والإرهاب وغيرها التي تظهر في غيابهما؛ لأن الفرد الذي يشعر بالولاء والانتماء لوطنه يبتعد عن كل ما يؤدي إلى الإضرار بالمصلحة الوطنية، ولو كان ذلك على حساب مصلحته الشخصية.
وتعتمد صلابة الجماعة وتكاملها وترابطها على درجة انتماء الفـرد لها، فالوطن الذي ينتمي أفراده إليه يكون أكثر صلابة وقوة من غيره. ويؤدي الانتماء إلى التعاطف الوجداني بين أفراد الوطن والميل إلى المحبة والعطاء والإيثار، مما يحقق الوحدة الوطنية، وينمي لدى الفرد تقديره لذاته وإدراكه لمكانته ومكانة وطنه.
والإسلام أول من أرسى دعائم الانتماء للوطن وذلك عندما هاجر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من مكة إلى المدينة المنورة تاركين جميع ما يملكون من متاع وأموال فرارا بدينهم، فنظر إلي مكة وقال قولته المشهورة: (أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ) (المستدرك على الصحيحين)، وقال عز وجل: (قَاَلوُا وَمَاَ لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا…) (سورة البقرة ـ الآية 246)، فهذا يدل دلالة قاطعة علي أن الإنسان لديه ارتباط وثيق بالمكان الذي نشأ وشب فيه.
مفهوم الولاء لغة:
فهو من الولي أي القرب والدنـو، ويقال: بينهما ولاء أي: قرابة، والولي: ضد العدو وهو المحب والصديق والنصير، ووالى فلان فلاناً إذا أحبه، والولاء: ضد المِلْك، والولاية: النصرة. وعليه، فالولاء لغة يعني النصرة والمحبة. ومنه قوله تعالى: (أدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (سورة فصلت ـ الآية 34).
والولاء اصطلاحاً: يشترك مع المعنى اللغوي بأن كليهما يعني القرب والحب والنصرة والصداقة، ويمكن تعريف الولاء بمفهومه العام بأنه مشاعر الفرد وأحاسيسه الإيجابية بالمحبة والنصرة تجاه موضوع معين. أما الولاء بمفهومه الخاص وهو الولاء للوطن: فهو المشاعر والأحاسيس الإيجابية بالمحبة والنصرة تجاه الوطن.
أولاً ـ الولاء الأسري:
ويقصد به مشاعر الحب والود والبر للأسـرة، والحرص على تماسكها وتعاونها. وقد تناول التشريع الإسلامي العلاقات الأسرية بالتنظيم، وعمل على تنمية مشاعر الحب والرحمة بين أفراد الأسرة، وعلى جعل الكيان الأسري سليماً متماسكاً، من خلال الطريقـة الشرعية في تكوين الأسرة، وما ينتج عن ذلك من حقوق لأفرادها وواجبات عليهم. وقد تناولت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفـة الأحكام المتعلقة بالأسرة من بداية التفكير بتكوينها إلى نهايتها بالموت أو حل الرابطة الزوجية. وقد دعت الآيات والأحاديث كذلك إلى أن يسود جو مـن المودة والرحمة بين أفراد الأسرة. قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (سورة لقمان ـ الآية 14).
وقال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا) (سورة الإسراء ـ الآية 23 و24). ففي الآية يأمر االله تعالى بالإحسان والعناية بالوالدين، والتعامل معهما بلين ولطف، ومصاحبتهما بالمعروف. وفي معنى خفض الجناح وجهان: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية، خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في صغرك، والثاني: أن الطائر إذا أراد الارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع. وفي كل هذا تقوية للعلاقات الأسرية وجعلها تقـوم على المودة والرحمة، إذ هي النواة الأولى في تكوين المجتمع، فإذا كانت الأسرة صالحة، فهذا يقود إلى وجود أفراد صالحين قادرين على خدمة وطنهم والتضحية من أجل رفعته.
وكذلك ما جاء من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: (الصلاة على وقتها) قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قال: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) وذكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكبائر، أو سئل عنها، فقال: (الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين) ففي الحديث الأول يبين الرسول أن حق الوالدين يأتي بعد حق الله تعالى في الرعاية والالتزام، وفي الحديث الثاني يبين أن من أعظم الذنوب عقوق الوالدين، وفي هذا حث على الإحسان إليهما وبرهما وعدم إيذائهما بكافة أنواع الإيذاء. وقد جاءت الآيات والأحاديث مطلقة في الوالدين، المسلمين وغير المسلمين فالبر بهما واجب، قال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (سورة لقمان ـ الآية 15).
ويلاحـظ من خلال ما مضى حرص الشريعـة الإسلامية على بناء أسرة متماسكة متحابة متعاضدة، يحرص جميع أفرادها أصولاً وفروعاً على استقرارها، والالتزام بحقوقهم وواجباتهم داخلها.
ثانياً ـ الولاء البيئي:
ويقصد به الحفاظ على البيئة بجميع عناصرها، والابتعاد عن كل ما يؤثر عليها، ومن المعلوم أن من مكونات الوطن المكان الذي يقطنه الفرد أي: البيئة، فلا بد أن تبقى هذه البيئة صالحة للعيش قابلة لاستثمار مواردها، ويعتبر هذا من واجبات التربية الوطنية التي تسعى إلى حماية البيئة الطبيعية ورعايتها، وذلك من خلال بث الوعي بقيمة البيئة سواء من ناحية مادية أو جمالية، وتعليم الناشئـة طـرق المحافظة عليها، وبيان أثرها في حياة الفرد والمجتمع، وطبيعة العلاقة بين الفرد وبيئته المحيطة، فلا بد من تنمية القدرة على الاستمتاع بجمال الطبيعة ونظافتها؛ حتى لا يشعر الفرد بالرغبة في إتلاف وإفساد الطبيعة، وذلك من أجل ضمان بيئة صحيحة سليمة، وهذا هدف إنساني. وقد حظيت البيئة برعاية الإسلام ونهيه عن الإفساد فيها، وذلك من خلال الآيات القرآنية والأحاديث الشريفـة. قال تعالى: (ولاَ تُفْسِدواْ فِي الأَرضِ بعـد إِصلاَحِها) (سورة الأعراف ـ الآية 56).
والإفساد هو إخراج الشيء عن حالة الاعتدال والنفع والصلاح، من غير أن يترتب على ذلك نفع أو مصلحة أعظم، والأرض تشمل العناصر البيئية التي تهيئ للإنسان ولغيـره من الكائنات الحية مقومات الحياة وعوامل البقاء، فمضمون الإفساد في الأرض يتضمن الاعتداء على البيئة بجميع عناصرها.
قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها) (رواه البخاري). ففي الحديـث تشجيع على استغلال الأرض وعدم تعطيلها، إذ لا يصح تركها؛ لكيلا تتحول إلى أرض لا منفعة فيها أي: أرض ميتة، وفي هذا دلالة على عناية الإسلام بالبيئة واستثمار مواردها. وعن مُعَاذٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ) (روَاهُ أَبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ). وقال: أيضاً: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) (صحيح البخاري).
وفي هذا نهي من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البراز أو التبول في الموارد البيئية حرصاً منه على سلامة البيئة الطبيعية من كل ما يؤدي إلى تلوثها ويسبب انتشار الأوبئة، كما نهى الإسلام عن الابتعاد عن كل ما يؤثر عليها من نشاط الإنسان بما يستخدمه الآن من أسلحة في الحروب تعمل على تدمير عناصر البيئة، كما في استخدام الأسلحة النووية والبيولوجية، وما تتركه هذه الأسلحة من آثار خطيرة على البيئة، فهي مناقضـة للولاء البيئي.
ثالثاً: الولاء الوطني:
الولاء الوطني ولاء كلي لمجموعة ولاءات فرعية، تُقسم إلى ثلاثة أنواع، وفي كل قسم مجموعة من المظاهر، وفيما يأتي بيانها:
الولاء للنظام السياسي:
يعتبر النظام جزءاً من أجزاء الوطن وركناً من أركانه ولقد أولى الإسلام طاعة ولي الأمر اهتماماً كبيراً فجعل طاعته واجبة إن أطاع االله ورسوله، وهي قاعدة من قواعد النظام السياسي للدولة وقد أوجب القرآن الكريم والسنة المطهرة ذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) (سورة النساء ـ الآية 59). وقـد أمر االله تعالى المؤمنين على اختلاف فئاتهم بطاعة أولي الأمر أصحاب الولاية الشرعية في الأمة. وقد أوجبت الشريعة طاعة ولي الأمر؛ لأنه بطاعة ولي الأمر تنتظم أمور الدولة وأحوالها، فيحصل التماسك والأمن والاستقرار، وهذا من أعظم مطالب الشريعة الإسلامية، لما لذلك من أثر في أن تتمكن الدولـة من تحقيق مصالحها والمحافظة على الرموز الوطنية كالراية والنشيد الوطني والتراث الوطني؛ ولأن ذلك يؤدي إلى استقرار الأوضاع واستتباب الأمن في الدولة، والمحافظة على البلاد وصون كرامتها واستقرارها وكرامـة مواطنيها، وأداء الواجبات على النحو المطلوب، ويحقق المصلحة العامة ويؤدي إلى المحافظة على مصالح الأفراد وحقوقهم.
الولاء للمكان:
يقصد بالمكان هنا رقعة الأرض التي هـي ركن من الأركان التي يقوم عليهـا الوطن، ومن أهم مظاهر الولاء للمكان أن يحمل مشاعر الحب لأرض الوطن، والتضحيـة من أجله، وذلك بالدفاع عنه ضد العدو، والسعي في كل ما يعمل على تقدم الوطن ورفعته، ولقد وجب حب الوطن في كافة الثقافات والأمم، إذ يرتبط الوطن في وجدان الإنسان بذكرياته وحياته.
وحب الوطن من الغرائز المودعة في نفس كل إنسان، فلا غرابة أن تؤكد الشريعة الإسلامية على هذا المظهر في مجموعة من الإشارات القرآنية والأحاديث الشريفة يقول تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (سورة التوبة ـ الآية 24) فأصل الحب لهذه الأشياء التي ذكرتها الآيات موجود ومنها حب المسكن، الذي مما يعنيه وطن هذا الإنسان، ولا مؤاخذة على هذا الحب؛ لأنه أمر فطري جِبِلِّي لا يمكن تركه، إنما رتبت المؤاخذة على تفضيل هذه الأشياء في الحب على حب االله ورسوله والجهـاد في سبيله، وقال تعالى (إِن الَّذِي فَرض علَيك الْقُرآن لَرادك إِلَى معادٍ) (سورة القصص ـ الآية 85)، والمقصود بقوله تعالى: (إِلَى ميعادٍ) أي: إلى مكة المكرمة وطن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الـذي أُخرج منه، وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً، فلما بلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فقال له جبريل: (أتشتاق إلى مكة)؟ فقال: (نعم) فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية التي راعت مشاعر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحبه لوطنه مكة؛ لذلك يبشره االله تعالى بالعودة إليها. وقال تعالى أيضاً: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (سورة الحج ـ الآية 39 و40)، وتدل هذه الآية على أن الديار أي: الأوطان شيء عزيز ومحبوب، ويستوجب الإخراج منها القتال والاستشهاد.
الولاء لشعب الوطن:
ومن أهم مظاهر الولاء لشعب الوطن الحب والتكامل والتعاون بين الأفراد الذين يعيشون على أرض هذا الوطن والمحافظة على العادات والتقاليد، والتفاعـل والتعايش مع مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه، وقد حثَّ الإسلام على بناء أواصر المحبة والتعـاون بين المسلمين، وجعلهم أخوة في الدين، فعلاقة المسلمين فيما بينهم تقوم على أساس التراحم والألفة والتكامل، وقد أشارت آيات قرآنية وأحاديث شريفة إلى هـذه المعاني. قال تعالى: (إِنَّما الْمؤْمِنُون إِخْوةٌ) (سورة الحجرات ـ الآية 10)، وقال تعالى: (واعتَصِمواْ بِحبلِ اللّهِ جمِيعاً وَلا تَفَرقُواْ واذْكُرواْ نِعمتَ اللّهِ علَيكُم إِذْ كُنتُم أَعداء فَأَلَّفَ بين قُلُوبِكُم فَأَصبحتُم بِنِعمتِهِ إِخْواناً) (سورة آل عمران ـ الآية 103)، وقال تعالى: (والْمؤْمِنُون والْمؤْمِنَاتُ بعضهم أَولِياء بعضٍ) (سورة التوبة ـ الآية 71)، وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (سورة الحجرات ـ الآية 10)، وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ) (أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير).
فهذه النصوص جاءت لتظهر العلاقة القائمة على التعاون والتكافل تكون بين جميع المسلمين في الوطن الواحد مهما اختلفت أوطانهم وأجناسهم ولغاتهم، ومن المعلوم أن المجتمـع الإسلامي يشتمل على مواطنين غير مسلمين، والعلاقة بين المسلم وغير المسلم في الدين الإسلامي تقوم على بناء علاقات اجتماعية قويـة بين جميع الناس أساسها التسامـح والتعاون مما يولد الثقة بينهم، ويسعون جميعاً إلى تقديم الخير للوطن.
ويمكن تحديد العلاقة التي ينبغي أن تكون بين جميع المواطنين مسلمين وغير مسلمين من خلال قوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (سورة الممتحنة ـ الآية 8)، حيث تشير الآية إلى إشاعة البر والمودة والإحسان إليهم، وأن تقوم بين المسلمين وهؤلاء صلات طيبة. فهذا التعامل مطلوب من المسلم مع كافة الناس سواء آمن بالإسلام أو لم يؤمن به ما دام أنه يدخل ضمـن هذا القسم، فمن باب أولى أن تسود هذه العلاقة مع من يشاركون المسلمين في الوطن؛ لما لهم من حق الجوار ما دام أنهم مسالمون قائمون بواجباتهم تجاه الدولة.
وعلى هذا الأساس من الاحترام المتبادل بين مواطني الدولة يتحقق الولاء لشعب الوطن، ويصبح المجتمع مجتمعاً متعاوناً، ومتكافلاً ضمن وطنٍ واحد تسوده الألفـة والمحبـة ويتسامى على الخلافات العقائدية التي يدين بها أفراده، ومن أجل تحقيق مجتمع تسوده الوحـدة.
رابعاً: الولاء العالمي:
ويقصد به التفاهم والترابط بين جميع الشعوب، حيث ينظر إلى العالم كوحدة واحدة متكاملة الأجزاء، يسود التعاون والتسامح بينهم جميعاً. ويعتبر الولاء العالمي بهذا المعنى من صميم الشريعة الإسلامية؛ إذ أن الإسلام جاء ليعم الخير ويسود الأمن جميع الشعوب، قال تعالى: (وما أَرسلْنَاك إِلَّا رحمةً لِّلْعالَمِين) (سورة الأنبياء ـ الآية 107)، ففي هذه الآية دلالة على أن رسالة الإسلام رسالة رحمة للعالم أجمع، فلم تكن مخصوصة لشعب دون شعب أو أمة دون أخرى.
كما تبين القاعدة الإسلامية في العلاقات الدولية وهي دوام البر والعدل والصلات الطيبة، ويستثنى من هذه القاعدة حالة العدوان، وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء وضرورة رده. وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل بين الناس أجمعين، فالله لم ينـه عن البر والعدل مع من لم يقاتل المسلمين من جميع أصناف الملل والأديان. فالأصل إذا حافظ غير المسلمين على حالة السلام، فهم والمسلمون إخوان في الإنسانية، يتعاونون من أجل خيرها العام، لكلٍ دينه يمارسه كيفما شاء، دون الإضرار بالآخر أو انتقاص حقه. وقال تعالى أيضاً: يا أَيها النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وأُنثَى وجعلْنَاكُم شُعوباً وقَبائِلَ لِتَعارفُوا إِن أَكْرمكُم عِند اللَّهِ أَتْقَاكُم) (سورة الحجرات ـ الآية 13).
فالله تعالى أقام الحياة على التنوع والاختلاف بيـن الجماعات البشرية، وجعله طريقاً إلى التآلف والارتباط والتعارف، وإن هذا التعارف يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان، فلا يختص فريق بخير إقليمه، ويحرم منه غيره، فإذا كانت الأرض مختلفة فالإنتاج كله للإنسانية كلها، ولا سبيل لذلك إلا بالتعاون والتعارف الإنساني، وهو الذي تدل عليه هذه الآية؛ إذ إن خطاب االله تعالى كان عاماً لكافة الناس دون الاختصاص بمجتمع دون غيره، أو جنس دون غيره.
ومن خلال ما سبق يترتب على الانتماء والولاء الوطني تضامن اجتماعي يؤديان إلى توجيه العمل نحو المصلحة العامة؛ ويعد الولاء والانتماء مقومات أساسية للوطنية، فالأمة اليوم تحتاج إلى التعرف على هذه الرؤية لتأكيد حقيقة مسلمة وهي أن الإسلام يقدم نموذجاً عملياً للولاء والانتماء الوطني، من خلال تحديد طبيعة العلاقات التي تربط الأفراد بعضهم بعضاً من جانب، وعلاقتهم بالدولة من جانب آخر، بالإضافة إلى تحديد طبيعة مسؤوليات الأفراد التي تفرضها هذه العلاقات.
ويعد بناء هذه المفاهيم وتعزيزها المسؤولية الأساسية للتربية الوطنية. وتظهر أهمية التربية الوطنية في كونها شعور حب الفرد لوطنه مكان ولادته ونشأته، وإلمامه بتاريخه وقضايا حاضره وطموحات مستقبله، واستعداده لبذل كل ما يملك للدفاع عنه، وخدمته في شتى المواقع، والدفاع عن الوطن الأكبر، والذي يضم رقاع الأمة كلها. وأما التربية فهي الجهة المسؤولة عن إعداد الأفراد وتهذيبهم، وتنمية ولائهم وانتمائهم إلى عقيدتهم وتراثهم الثقافي وأوطانهم، ويتطلب هذا الإعداد ـ بالضرورة ـ تنمية الولاء والانتماء للوطن. وبذلك تُعد علاقة التربية بالوطنية علاقة عضوية كعلاقة الجزء بالكل، وأنه لا تربية بغير وطنية ولا وطنية بغير تربية. ويمكن توضيح هذه العلاقة بأن الفرد لن يصبح مواطناً حقيقياً دون فهم لمعنى المواطنة، ومعرفة ما له وما عليه من حقوق وواجبات، وكذلك ترجمة هذه المعرفة إلى ممارسة عملية على أرض الواقع بالمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات.
إن الذي يدفع الفرد للمطالبة بحقوقه وأداء التزاماته تجاه دولته هو الشعور بالانتماء والولاء للوطن. فكما ذُكر في تعريف الوطنية بأنها تشتمل على جانب فكري وعاطفي، فالفكر يمثل جانب المعرفة، والعاطفة تمثل جانب المشاعر. فلو نظرنا إلى وظيفة التربية لوجدناها تشتمل على أمرين لا يستغنى بأحدهما عن الآخر وهما:
أولاً: تحقيق المعرفة لدى المربى،
وثانياً: تنمية المشاعر في نفسه فالتربية مهمة لتحقيق الوطنية سلوكاً وعملاً واقعاً من خلال إيصال المعارف للأفراد، وكل ما يحتاجونه من معلومات عن وطنهم، وما لهم وعليهم من حقوق وواجبات، وكذلك غرس المشاعر وتنميتها وتأصيلها داخل نفس الفرد تجاه وطنه.
وأخيراً من خلال التوضيح للمفهومين الانتماء والولاء تظهر العلاقة بينهما فمفهوم الولاء يتضمن الانتماء؛ لأن الفرد لن يحب وطنه وينصره إلا إذا انتسب إليه، والانتماء يوجد بوجود الفرد، أما الولاء فيكتسبه الفرد من أسرته وبيئته ومدرسته ومجتمعه، إذاً الانتماء أولاً ثم يأتي الولاء. كما أن الولاء يظهر صدق الانتماء، أي إن الولاء وسيلة للتعبير عن الانتماء. ويدفع الولاء الفرد إلى التضحية بنفسه في سبيـل الحفاظ على وطنه ورفعته.
نسأل الله أن يديم الوحدة والخير والرخاء والأمن والآمان والسلام لوطننا العربي الكبير..
- مسؤول التخطيط والمتابعة، والمشرف العام لبرنامج العلاج بالموسيقى ، والمشرف للفريق البحثي في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية ، ورئيس رابطة التوعية البيئية في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية حتى الآن
- حاصلة على بكالوريوس من جامعة بيروت العربية ، وعلى العديد من الدبلومات المهنية والتخصصية العربية الدولية في مجالات التخطيط والجودة والتميز والتقييم والتدريب
- اختصاصي في التخطيط الاستراتيجي والاستشراف في المستقبل – LMG – جنيف ، سويسرا
- مدرب دولي معتمد من الأكاديمية البريطانية للموارد البشرية والمركز العالمي الكندي للتدريب وجامعة مانشستر وبوستن
- خبير الحوكمة والتطوير المؤسسي المتعمد من كلية الإدارة الدولية المتقدمة IMNC بهولندا
- مقيم ومحكم دولي معتمد من المؤسسة الأوربية للجودة EFQM، عضوة مقيمة ومحكم في العديد من الجوائز المحلية والعربية والدولية خبيرة في إعداد تقارير الاستدامة وفق المبادرة العالمية للتقارير – GRI
- مدقق رئيسي في الجودة الإدارية أيزو 9100 IRCA السجل الدولي للمدققين المعتمدين من معهد الجودة المعتمد بلندن – CQI
- أعددت مجموعة من البحوث و الدراسات منها ما حاز على جوائز وقدم في مؤتمرات
- كاتبة و لديها العديد من المقالات المنشورة في الصحف و المجلات وبعض الإصدارات
- قدمت ونفذت العديد من البرامج والمشاريع والمبادرات الهادفة والتطوعية والمستدامة لحينه
- حاصلة على العديد من الجوائز على المستوى المحلي والعربي منها : جائزة الشارقة للعمل التطوعي ، جائزة خليفة التربوية ، الموظف المتميز ، جائزة أفضل مقال في معرض الشارقة الدولي للكتاب
- حاصلة على العديد من شهادات الشكر والتقدير على التميز في الأداء والكفاءة.
- شاركت في تقديم العديد من البرامج التدريبية في مختلف المجالات الإدارية والجودة والتميز
- عضوة في العديد من الهيئات و المنظمات التربوية والتدريبية والجودة والتميز والتطوعية داخل وخارج الدولة