غـني عن القول ما للتعليم من أثر في بناء ونهضة ورقي وارتقاء الأمم التي تسعى بطبيعة الحال إلى تطوير حضارتها والرقي بمجتمعاتها من أجل حياة أفضل ولن تصل لمبتغاها ولن تبلغ مناها إلاّ بتطّور التعليم… إبتداءً وانطلاقا من التعليم الأساسي.
وما التعليم الأساسي سوى تلك النظم التعليمية غير التقليدية ذات الأسلوب والطرح المُصمم بعناية والمعد بإتقان ليتلاءم مع متطلبات واحتياجات العصر.. ومرحلة التعليم الأساسي مرحلة بالغة الأهمية هي مرحله تأسيس وتأصيل وزرع للمبادئ والقيم والمثل إنها اللبنة الأساسية لبناء الشخصيات وصناعة الأفكار وتطور الذات وظهور الميول والرغبات لدى النشء وهي مرحلة اكتساب لأكبر كم من المهارات اللغوية والمعرفية وغيرها حيث تجد ذهن الطفل المتلقي أرضاً طيبة خيرة خصبة ذات تربة متعطشة للرواء والإرتواء وقابلة ومتقبلة لكل بذر طيب أو سواه..
ولأننا نتحدث هنا عن الصم وركب التعليم فيتوجب علينا قبل الخوض في مهام ومتطلبات وأساليب وأفضل الطرق في تعليم الصم.. أن نعرف أولاً آمال وأحلام الأصم.. ما الذي يطمح إليه وما الذي ترنو إليه نفسه!؟ لكي تتوافق مخرجات التعليم مع إمكانيات الصم أنفسهم ومع ما يحتاجه مجتمعهم منهم…
وبإلقاء نظرة سريعة على تعليم الصم في السعودية نجده يتمثل في ثلاث مراحل (الابتدائية المتوسطة ـ الثانوية) بمعدل إثنتي عشر سنةٍ تعليمية وما زالت بعض المراحل تطبق فيها مناهج التعليم الخاصة بالصم وهي ذات طابع مستقل في المضمون والمحتوى وذات مخرجات تعليمية فقيرة جداً وهزيلة تحرم الأصم من حقه في مواصلة التعليم العالي حيث لا تتلاءم مع قدرات الأصم الحقيقية والمتوقدة ولا تؤهله تأهيلاً كافياً كما ينبغي للحاق بركب التعليم العالي والانضمام إلى تلك القافلة لذا كان من المُسلم به إعادة النظر في مناهج التعليم الخاصة بالصم واستبدالها والتحول عنها لمناهج التعليم العام والتي سارعت إلى تطبيقها واعتمادها كثير من الدول بين السامعين وأقرانهم الصم والتي أثبتت نجاحها وجدارتها وحفظها لحق الأصم المشروع في مواصلة ومتابعة التعليم العالي وأتت الخطوات مباركة حثيثة مخلصة من قادة التربية الخاصة والغيورين على الصم ومستقبلهم الذي يشوبه كثير من الغموض..
كانت المرحلة الأولى تطبيق مناهج التعليم العام على المرحلة الأساسية إبتداءً بالصف الأول وتدرجاً وصعوداً إلى سنوات دراسية أخرى بمعنى أنه مع كل سنة دراسية يتم الانتقال إلى الصف الذي يليه لتكون العملية أكثر صواباً ودقة ولتصبح متوازنة ومتدرجة حتى تصل وتضع رحالها على أعتاب السنة الثالثة من المرحلة الثانوية إيذاناً بدنو الرحيل وانتهاء شوطٌ من أشواط حقوق الصم.
وتبقى غصة.. تجدنا عندما نلقي نظرة بسيطة وسريعة على مناهج التعليم المطبقة على الصم نجد أنها تحتاج إلى إعادة نظر لتواكب هموم أبنائها الصم وتحكي بعض آمالهم وتشرح شيئاً من تطلعاتهم.. تجد بعض المواد التعليمية لا تهتم بمتطلبات الصم نظراً لافتقارها الحديث عن خصائص الصم النفسية والاجتماعية.. فمثلاً ـ مادة القراءة وعند الحديث عن الأسرة تجد أن الدرس لم يتطرق إلى وجود أصم في الأسرة! وأيضاً لغة الإشارة وأهميتها ودورها في ربط أفراد العائلة بابنها الأصم لغة لم يتم الحديث عنها أو حتى التلميح لها.. والافتقاد للوسائل البصرية التي تعتبر من أهم وسائل نجاح العملية التعليمية التربوية للصم والتي تقرب المعلومة وتختصر الوقت في إيصالها ووصولها.. غالبية المواد تركز على الجانب النظري الإلقائي وتفتقر إلى الجانب التطبيقي العملي وذاك جانب يبدع فيها الأصم كالحاسب الآلي ولعب الأدوار والمختبرات والفنون التشكيلية والتصوير والتصاميم..
حتى مهام المعلم بحاجة إلى كثير من التعديل والتغيير والتطوير حيث يتلقى الطالب الجامعي مقررات دراسية ذات تخصصات بعيدة تماماً عن مجال تربية وتعليم الصم تجد مجموع مقررات الجامعة التي تصب في صلب موضوع متطلبات الصم لا تمثل سوى 20% من هذه المقررات.
أضف إلى ذلك غياب البرامج التربوية المقننة التي تخدم الصم مثل ـ طرق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية والرياضيات والعلوم والحاسب الآلي وبقية التخصصات الخاصة بالصم.. ويقع على عاتق وزارة التربية والتعليم ممثلة بالأمانة العامة للتربية الخاصة وإدارات التربية الخاصة في إدارات التعليم رفع مستوى المعلمين بالدورات التدريبية المساندة للتعليم الأساسي وتكثيف دورات لغة الإشارة وتأصيلها ودراسة قواعدها وأسسها حتى للإداريين وأولياء الأمر…
ومن أساسيات نجاح التعليم الأساسي لدى الصم عملية التدخل المبكر تلك عملية نفتقدها في كثير من البرامج التعليمية وأن وجدت لا تؤدي الغرض المطلوب بأكمل وجه حيث يلتحق الطفل الأصم في سن ست سنوات بركب التعليم الأساسي وحصيلته اللغوية تعادل ما لدى طفل سامع بعمر سنتين مما يسبب تأخره في التحصيل العلمي المتوافق مع أقرانه السامعين… ويتفاجأ الطفل الأصم بعملية التشخيص والتقييم إذ يقوم الإختصاصي بفحص درجة الذكاء والسمع من أول لقاء له مع الطفل حيث يفتقد طفلنا الأصم الفهم والاستيعاب لما يريده منه الشخص المقابل وبالتالي عدم تقبله لما يقوم به أو عدم قبوله إياه كشخص وعدم تهيئة الطفل الأصم لهذا الأمر هو أمر بحاجة إلى إعادة نظر حيث أن نتائج التشخيص والتقييم هي المعيار الأساسي لما سيقدم له في التعليم الأساسي.
ومن المهام المفقودة في التعليم الأساسي للصم غياب البرنامج التربوي الفردي الذي يشترك في مجموعة من المعلمين والإختصاصي النفسي والاجتماعي والمرشد الطلابي والطبيب ومدير ووكيل المدرسة والأسرة بكاملها.. بل لا أبالغ إذا قلت إن غالبية من في الميدان لا يستطيع تطبيقها بتلك الكفاءة لعدم إلمامهم بها.
ومع هذا كله ورغم كل ما سبق يبقى الأمل أننا نعيش حقبة زمنية ستنتعش آمال وطموحات الصم أنفسهم وكل المنافحين عنهم والمهتمين بهم من حيث تطوير المناهج التعليمية أو من جانب تطوير أداء المعلمين أومن جهة تغير نظرة المجتمع لهم لنجعلهم قدوة لسواهم باكتشاف مواهبهم وإبراز قدراتهم وتمهيد الطريق لهم وإزالة أية عوائق أو أخطار أو عقبات من أمامهم.
همسة:
إذا لم تزد شيئاً في عالم الصم..
فأنت زائدٌ عليهم