لقد مر ما يزيد عن ستة عقود منذ بدايات التحول في طبيعة الأنظمة المتبعة والخدمات المقدمة للأشخاص من ذوي الإعاقة، من خدمات الرعاية والعناية الأولية التي كانت تقدم في مؤسسات مغلقة معزولة عن المجتمع إلى خدمات تربوية تعليمية شاملة تقدم في مدارس التعليم العام للدولة، وذلك بعد ظهور المفاهيم المجتمعية الجديدة نحو الأشخاص ذوي الإعاقة وحقهم في الانخراط بجوانب الحياة الاجتماعية والتربوية والثقافية.
ولم يكن واقع الخدمات المقدمة لذوي الإعاقة البصرية أقل سوءاً من غيرها، فقد مرّت التجارب الأولى لاحتواء المكفوفين في مدارس التعليم العام بعقبات كثيرة تمثلت بالافتقار إلى الوسائل التعليمية البصرية المستخدمة، والمنهاج القادر على ايصال المعلومة المجردة، ووسائل القياس والتقييم التي يستخدمها معلمون مؤهلون أكفاء.
وكم نحن في وطننا العربي بحاجة إلى خوض تجارب من هذا النوع، نصل فيها إلى الاحتواء الشامل بمعناه الحقيقي الذي يضمن للشخص ذي الإعاقة الاستفادة من التعليم الجامع حسب قدراته الفردية وبالوسائل التي تناسب إعاقته، دون أن تكون الإعاقة سبباً في حرمانه من حقه في التعليم والاندماج في الأنشطة الحياتية الاجتماعية والثقافية وحصوله فيما بعد على فرصة عمل.
وإيماناً بدور هذا التيار المتصاعد والداعي للاحتواء التعليمي للأشخاص ذوي الإعاقة عامة والأشخاص المكفوفين خاصة، فقد ارتأت (المنال) تسليط الضوء على تجربتين من أهم التجارب العالمية في احتواء المكفوفين وضعاف البصر ضمن مدارس التعليم العام.
التجربة الأولى كانت في ولاية تكساس الأمريكية ومن مدرسة تكساس للمكفوفين وذوي الإعاقة البصرية بعد أن تجاوزت هذه المدرسة دورها كمدرسة داخلية تقليدية لتطرح برامجها التربوية والتعليمية على مستوى الولاية، ورفعها لمستوى الوعي العام ليس للمشتغلين بهذا المجال أو المهتمين به فحسب ولكن للمجتمع الأمريكي بأسره.
أما التجربة الثانية فهي تمثل التعليم الاحتوائي في نيوزيلاندا والتي اتخذت منحى رسمياً قانونياً تمثل بسن التشريعات التي تؤمن بحق المعاقين بالدمج الكامل ومجانية التعليم والتحول في الخدمة من النظام الطبي الذي ينظر للمعاق بأنه مصدر الخلل، إلى النظام البيئي الذي يطالب بتغيير البيئة المقيدة لحرية المعاق وحركته بكل عناصرها.
وقد انبثق عن هذا الاهتمام الحكومي المتزايد شعار (تربية خاصة 2000) ومشروع المصادر المستمر، وتطبيق المنهج الموسع الذي يشمل التعليم بواسطة لغة برايل، وتطوير خطة وطنية للمكفوفين تتعاون في تطبيقها المؤسسات والاتحادات التي تقدم خدماتها كذوي الإعاقة بمشاركة مجتمعية واسعة.
آملين أن يستفيد القارئ العربي من هذه التجارب العالمية الرائدة والتي تمثل انعكاساً حضارياً لنظرة المجتمعات الغربية نحو قضية الإعاقة والانتقال الطبيعي الذي عاشه المعاقون بصرياً من مرحلة العزل والانغلاق في تلقي الخدمة إلى مرحلة الاحتواء والخروج إلى المجتمع الذي يرحب بالتنوع والاختلاف في القدرات، دون أن نغفل أن ديننا الإسلامي الحنيف كان سباقاً في الدعوة لهذا الاحتواء الشامل منذ نزول الآية الكريمة {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} على قلب نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
خلاصة الكتاب
قدّم لنا هذا الكتاب تجربتين عالميتين في دمج الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر، لاحظنا من خلالهما عملية الانتقال في طبيعة المدارس التي تقدم برامجها وخدماتها لهؤلاء المعاقين، من مدارس معزولة تقتصر على المكفوفين إلى نظام الاحتواء ضمن التعليم العام، وبالتالي التغير من منظور تقديم الخدمة والرعاية للمعاق، إلى عملية تقديم التربية والتعليم له بما يشمل مختلف المواد العلمية عبر مختلف المصادر والوسائل التعليمية التي تناسب المكفوفين وضعاف البصر عبر مناهج تراعي احتياجاتهم وقدراتهم الفردية.
فقد استطاعت مدرسة تكساس للمكفوفين وضعاف البصر في الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون ملاذاً حيوياً لكل المكفوفين في الولاية إضافة إلى تقديم برامجها المختلفة في سبيل رفع مستوى وعي الجمهور العام تجاه المعاقين بصرياً وتعريفهم بحاجاتهم وقدراتهم وأهمية دمجهم في المجتمع.
لقد تجاوزت هذه المدرسة خطوة بخطوة دورها كمدرسة تقليدية داخلية، إلى دورها كمدرسة لدمج المعاقين في المجتمع عبر البرامج التوسعية التي تبنتها في مجالات تطوير الهيئة التدريسية والبحث والتطوير التربوي وإعداد المناهج والعمل الصيفي والوصول إلى المستهدفين أينما كانوا، وقد جاء دورها هذا انسجاماً مع الدعوات التي تعالت في النصف الثاني من القرن العشرين والتي تنادي بالاحتواء الشامل للمعاقين في مجتمعهم.
أما التجربة النيوزيلندية في التعليم الاحتوائي للمكفوفين فقد كانت مبنية على أساس احترام حق الجميع بالالتحاق بالتعليم العام والاستقلال والاستفادة من مصادر التربية الخاصة، اعترافاً بالتنوع البشري في المجتمع وعدم عزل المعاقين والاعتراف في حقهم بالحصول على فرص متساوية مع أقرانهم.
لقد أظهرت تجربة دمج (ميتشل) ظروف معاهد المكفوفين التي كانت سائدة في منتصف الخمسينات والتي تفتقر إلى الخدمات التربوية والتعليمية، واستخدام طرق بدائية في التوجيه والحركة، إلى أن تنامت شيئاً فشيئاً الحركة الداعية للدمج المجتمعي والتي باركتها القوانين والتشريعات في نيوزيلندا والتي نقلت المعاق من مجتمع الإعاقة إلي مجتمع الدمج، فظهرت استراتيجية نيوزيلندا، والتي نقلت المعاق من مجتمع الإعاقة إلى مجتمع الدمج، فظهرت استراتيجية نيوزيلندا المتعلقة بالمعاقين وظهر المنهاج الواسع المعد من قبل وزارة التربية والتعليم الذي يتيح للمعاقين الحق في الحصول على نوعية عالية من التعليم وتلبية احتياجاتهم الفردية، وأهمية الشراكة بين المدرسة وأسرة المعاق لتحقيق هذه الأهداف.
وقد أظهرت تجربة (سام) أهمية وجود معلمين للمعاقين يؤمنون بقدراتهم وباستطاعتهم ويقدمون لهم الدعم الكافي والتشجيع من أجل تحقيق أهدافهم، كذلك دور اهتمام الأسرة في تأهيل الطفل المعاق والمشاركة في البرامج التربوية المقدمة له.
ونستخلص من التجربتين مجموعة من العوامل الضرورية للاحتواء الناجح، والتي أهمها توفير المعلمين المدربين والاختصاصيين ذوي الاتجاهات الايجابية نحو المعاقين، والبيئة الأسرية الداعمة والمشاركة والمستقرة، والمناهج التربوية والمصادر التعليمية الملائمة والمتكيفة مع قدرات المتعلمين وحاجاتهم الفردية وأهمية احتكاكهم بأقرانهم من غير المعاقين.
وعلى الرغم من نجاح هاتين التجربتين باعتبارهما نماذج عالمية هامة في دمج ذوي الاعاقة البصرية، إلا أن الأمر لا زال بحاجة لمزيد من التمحيص والتقييم للخطوات الاجرائية والبرامج المتبعة، من أجل تجنب العقبات التي تواجه تطبيق الاحتواء الشامل، وإشراك كافة فئات المجتمع ومؤسساته بهذه العملية، مع إتاحة الفرصة لكل أعضائه للمشاركة الفاعلة، للوصول إلى مستوى عال من التعليم والتأهيل لذوي الإعاقة.
الكتاب تأليف: فيل هاتلن، جيون ناجيل وكارين ستوبس
ترجمة: محمد مساعد محمد
مراجعة: روحي مروح عبدات