كان وما زال موضوع الربط بين التوحد والذكاء الفائق والعبقرية موضوعاً مشوقاً ومثيراً للكثير من التساؤلات والاستفسارات التي دعت العديد من العلماء والباحثين والمتخصصين للبحث فيه ومحاولة سبر أغواره ومعرفة أسراره وفهمه بصورة علمية. ولم يقف الأمر عند حد العلماء والباحثين العلميين، بل ألهم هذا الموضوع الكتّاب والمؤلفين والرواة، فأُلفت القصص والروايات وتم إعداد الأفلام السينمائية والتلفزيونية عن التوحد وما يتميز به الأشخاص ذوو اضطراب طيف التوحد، وقد استقى بعضها أحداثه من قصص حقيقية، واستند جزء منها على الخيال.
والموضوع في حد ذاته مثير للتساؤلات والحيرة، فالبعض يرى في الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد مستويات من الذكاء أقل من المستويات الطبيعية للاشخاص غير ذوي اضطراب التوحد، وفي أفضل الأحوال يرون أن مستوى ذكاء الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد لا يتعدى الوسط. لكن في الجانب الآخر يرى البعض ويقدمون العديد من الأدلة على عبقرية وتفوق ذكاء الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد على المستوى الطبيعي للإنسان غير ذي إعاقة.
وقد تكون هذه الحيرة هي التي دعت جامعة كامبريدج لإجراء دراسة في عام 2015 لما يقرب من نصف مليون شخص. وكشفت هذه الدراسة عن أدلة مثيرة للاهتمام على أن سمات اضطراب طيف التوحد (وإن لم تكن بالضرورة التوحد الكامل) أكثر شيوعاً بين الأشخاص المشاركين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والعديد من المهن والتخصصات التي يُعرف عنها تاريخياً أنها تتطلب الكثير من القدرات العقلية ومستويات عالية من الذكاء.
وفي هذا المقال سنسعى لتسليط الضوء بشيء من الايجاز على هذا الموضوع الكبير والعميق. ولكني أدعو القارئ إلى المزيد من الاطلاع والبحث في الجوانب المختلفة له.
اضطراب طيف التوحد
يعرف اضطراب طيف التوحد بأنه اضطراب معقد في النمو العصبي يؤثر على قدرة المخ على معالجة الأنواع المختلفة من المعلومات ويظهر قصور وتحديات مستمرة في التفاعل الاجتماعي وتراجع في تطور المهارات اللغوية والتواصل غير اللفظي وأنماط السلوكيات والاهتمامات المقيدة او المتكررة.
وقد يواجه الأشخاص ذوو اضطراب طيف التوحد تحديات تتراوح من خفيفة إلى شديدة مع مستويات مختلفة من القدرة والإعاقة. وقد لا تكون لديهم لغة وظيفية أو قد تكون لديهم مفردات غنية، وقد يكون الواحد منهم ذا إعاقة ذهنية أو لديه معدل ذكاء متوسط أو أعلى من المتوسط.
الذكاء
في الغالب تتم دراسة الذكاء البشري من منظور القياس النفسي والجيني والعصبي. وقد أظهرت الدراسات السيكومترية التي تعود إلى سبيرمان (1904) أن جميع مقاييس القدرات العقلية البشرية تقريباً مرتبطة ببعضها بعضاً بشكل إيجابي إلى حد كبير. وتعد اختبارات معدل الذكاء الحديثة كاختبار الذكاء غير اللفظي على سبيل المثال والذي يسمح بإجراء تقييم للأفراد الذين قد يواجهون صعوبات في المهارات اللغوية أكثر دقة، وقد تستخدم فيها تقنيات لتقييم الذكاء بغض النظر من أن الشخص تظهر عليه أعراض اضطراب طيف التوحد أم لا تظهر. ويمكن لنتائج هذه الاختبارات والقياسات النفسية وعلم الوراثة وعلم الأعصاب وعلم النفس وعلم الاجتماع أن تحدد هل الارتباطات الجينية والظاهرية للذكاء العالي يمكن أن تتعلق بالأساس الجيني والارتباطات الظاهرية لاضطراب طيف التوحد.
التداخل الجيني لضطراب طيف التوحد مع الذكاء
ولدراسة الارتباط بين اضطراب طيف التوحد والذكاء، قارنت مجموعة من الدراسات والأوراق العلمية السابقة بين الصفات العامة للذكاء البشري واضطراب طيف التوحد. ولكن لم تناقش أي من هذه الدراسات أو الأوراق الارتباطات الجينية للتوحد مع الذكاء والتفسيرات المحتملة لهذه العلاقة، وإن اقترحت فرضية قائلة إن اضطراب طيف التوحد ينطوي على ذكاء عالٍ ولكن غير متوازن، بحيث يتم تعزيز بعض أو العديد من مكونات الذكاء لدى الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد. هذه الفرضية يمكن دعمها بأدلة متقاربة تظهر أن اضطراب طيف التوحد ومعدل الذكاء المرتفع يشتركان في مجموعة متنوعة من الارتباطات مثل حجم الدماغ الكبير، ونمو الدماغ السريع، وزيادة القدرات الحسية والبصرية المكانية.
أما فيما يتعلق بالتداخل الجيني لاضطراب طيف التوحد مع الذكاء فقد أظهرت مجموعة من الدراسات الحديثة عن وجود ارتباطات جينية إيجابية بين اضطراب طيف التوحد ومقاييس القدرة العقلية. واشارت نتائج هذه الدراسات إلى أن أليلات التوحد تتداخل على نطاق واسع مع أليلات الذكاء العالي (الأليل أو الحليل أو البديل بالإنجليزية alleleهو نسخة أو شكل بديل للجين أو موقع كروموسومي وعادة يتكون من مجموعة جينات).
وقد يبدو هذا الحديث متناقضاً مع وجهة نظر البعض، وذلك للإعتقاد بأن الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد يتميزون عموماً بمعدلات ذكاء أقل من المتوسط. إلا أن هذه المفارقة يمكن حلها في ظل الفرضية القائلة بأن مسببات اضطراب طيف التوحد تتضمن بشكل عام مكونات ذكاء معززة ولكنها غير متوازنة.
وقد أظهرت أربع دراسات خاصة بتقييم التداخل في أليلات (allele) التوحد مع الأليلات (allele) الخاصة بالقدرة المعرفية والذكاء (*) استخدمت مجموعات سكانية متنوعة ومستقلة واختبارات (أو روابط)، وأسفرت كل هذه الدراسات عن ارتباطات جينية إيجابية مهمة وجوهرية لاضطراب طيف التوحد مع الذكاء، لقد تم اكتشاف وظائف جين مهم في نمو الدماغ، وأن نقصه يمكن أن يسبب اضطراب طيف التوحد، وهو جين ترميز البروتين. وأظهرت عدد من الدراسات أن أغلب الأشخاص من ذوي اضطراب طيف التوحد قد حدثت لديهم طفرة أدت إلى حذف هذا الجين الذي لا يزال دوره على وظائف الدماغ والآلية الأساسية لكيفية عمله غير معروفة.
الأنماط الظاهرية لاضطراب طيف التوحد المرتبطة بالذكاء
نتناول هنا أبرز الارتباطات المشتركة بين الذكاء واضطراب طيف التوحد، مع التركيز على الأنماط الظاهرية المرتبطة بالذكاء والتي يتسم بها الأشخاص ذوو اضطراب طيف التوحد.
حجم ونمو الدماغ
كما هو معروف ينقسم دماغ الإنسان إلى نصفين، هما النصف الأيسر والأيمن. يقوم كل نصف بمجموعة مختلفة من الوظائف والسلوكيات والضوابط. وغالباً ما يطلق على النصف الأيمن اسم الجانب الإبداعي، في حين أن الجانب الأيسر هو الجانب المنطقي، وهو ضروري لوظيفة اللغة. يمكن أن تسبب الطفرة في بعض الجينات اضطرابات ووظائف عصبية غير طبيعية في النصف الأيسر من الدماغ عند الاشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد وهذا قد يكون أحد اسباب الضعف في تطوير الفهم اللغوي الطبيعي لديهم، حيث يعتقد العلماء أن الذكاء اللغوي يكمن في النصف الأيسر من المخ. كما يعتقد العلماء أن الاشخاص الذين يسيطر لديهم الجانب الأيمن من الدماغ دائماً ما يكونون خلاقين، ذوي تفكير حر، لهم القدرة على رؤية الصورة والمنظور الكبير للأحداث، ذوي حس حدسي عالٍ، ويكونون أكثر قدرة على التصور من التفكير بالكلمات.
يمثل حجم الدماغ الكبير ومحيط الرأس خاصة في مرحلة الطفولة والبلوغ جزءاً مهماً من الارتباطات الظاهرية المثبتة للتوحد، وقد تبين أن الزيادات المرتبطة باضطراب طيف التوحد في حجم المخ تنطوي على أعداد أكبر من الخلايا العصبية وقشرة أكثر سمكاً، وزيادة حجم الحُصين، زيادة معدلات نمو الدماغ في مرحلة الطفولة المبكرة، زيادة معدل ترقق القشرة في مرحلة المراهقة. كما تم ربط الزيادة السريعة في سمك القشرة بين سن 6 و12 عاماً، متبوعاً بتباطؤ أسرع للسمك القشري بين سن 12 و18 عاماً بالذكاء العالي في الأطفال غير ذوي التوحد. تقدم هذه النتائج دليلاً على أن مسارات معدل نمو الدماغ خلال مرحلة الطفولة المتوسطة إلى المراهقة لدى الأشخاص ذوي الالذوي اضطراب طيف التوحد ترتبط بشكل خاص بمعدل الذكاء.
الوظائف الحسية والانتباه والقدرات الخاصة
أما بالنسبة للقدرات الحسية ومهارات التمييز الحسي فقد وجد أنها ترتبط ارتباطاً إيجابياً قوياً بالذكاء العالي. بالرغم من أن أسباب الارتباطات بين الذكاء العام وقدرات التمييز الحسي تظل غير معروفة إلى حد كبير ولكن يبدو أنها مرتبطة ضمن عدة عوامل بالقدرة على التركيز بشكل مكثف مع تجاهل المنبهات غير ذات الصلة، ووجود علاقة جينية إيجابية قوية بين الذكاء وسرعة المعالجة الحسية العصبية، وسرعة التذبذبات العصبية التي قد تكمن وراء كل من مهارات التمييز الحسي والذكاء.
وقد أظهرت مجموعة كبيرة من الأدلة أن التمييز الحسي وقدرات حدة الحس يتم تعزيزها بشكل شائع في الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد مقارنة بالضوابط السمعية والمرئية والملموسة وبالتالي يمكن أن تمثل مكوناً أو ارتباطاً قوياً لاضطراب طيف التوحد بالذكاء.
وفي ذات السياق يأتي الاهتمام الكبير للأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد بالتفاصيل كمؤشر لارتباط اضطراب طيف التوحد والذكاء العالي والمعدلات العالية من التوحد لدى الأطفال الذين يظهرون قدرات متقدمة للغاية في مجالات مثل الموسيقى والرياضيات والشطرنج أو الفن.
هذه النتيجة ذات أهمية ملحوظة خاصة بالنظر إلى أن اضطراب طيف التوحد يتميز، على أساس التشخيص العام، من خلال الاهتمام المتزايد بالتفاصيل، والصعوبات في تحويل الانتباه، والتحفيز المتعمد (الانتقائية المفرطة) على جوانب معينة من البيئة المادية.
بالنظر إلى هذه النتائج مجتمعة، نجد أنها تشير إلى أن زيادة القدرة على التمييز الحسي في التوحد تمثل مكوناً أو ارتباطاً قوياً بالذكاء الذي يتم تعزيزه في كثير من الأحيان إلى درجة عدم التوازن مع جوانب أخرى من معدل الذكاء.
أخيراً، يعد اضطراب طيف التوحد الحالة النفسية الوحيدة التي تتميز بمعدلات ملحوظة من المهارات العلمية، والتي تمثل في هذا السياق قدرات عالية التنظيم وقائمة على القواعد تقتصر إلى حد كبير على عدد قليل من مجالات القدرة العقلية: حساب التقويم، والذاكرة عن ظهر قلب، والحساب الرياضي، والذاكرة الموسيقية، والرسم الواقعي وغير ذلك من المهارات الفائقة للمعدلات الطبيعية.
المراجع:
- Davies G., Marioni R. E., Liewald D. C., Hill W. D., Hagenaars S. P., Harris S. E., et al. . (2016). Genome-wide association study of cognitive functions and educational attainment in UK Biobank (N = 112 151). Mol. Psychiatry 21, 758–767. 10.1038/mp.2016.45 [PMC free article] [PubMed] [CrossRef] [Google Scholar].
- سبيرمان (1904)
- غالتون (1883) وسبيرمان (1904)
- (Melnick et al.، 2013)
- (لي وآخرون، 2012)
- (موراي وآخرون، 2005؛ بلوج، 2010)
- روثساتز وأورباخ، (2012). بارون كوهين وآخرون (2009)
- (Howlin et al.، 2009؛ Snyder، 2009؛ Treffert، 2014؛ Meilleur et al.، 2015).
نانا عبد الله منصور محمد
[email protected]
بلد الإقامة: دولة الإمارات العربية المتحدة ـ الشارقة
ماجستير تربية خاصة بعنوان “فاعلية برنامج إرشادي تدريبي لأسر الأطفال من ذوي التوحد على تحسين مهارات التواصل لديهم (دراسة تجريبية على أسر الأطفال من ذوي التوحد في إمارة الشارقة)”، جامعة أم درمان الإسلامية، معهد بحوث ودراسات العالم الإسلامي، 2009 – 2011.
شهادة: (IC3 Internet & Computing Course Certificate).
مشرفة تربوية بمركز الشارقة للتوحد، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية 2013 – الآن.
معلمة صف بمركز الشارقة للتوحد، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية 2001 – 2012
معلمة متطوعة بمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية – العام الدراسي 2000-2001 في الفترة من 15/11/2000 حتى 30/5/2001.
عضو الفريق البحثي لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
عضو مجلس الاختصاصيين النفسيين والمشرفين التربويين لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية