تعتبر الخلايا الوحدات الأساسية المكونة لجسم الإنسان، وتتألف الخلية إجمالاً من نواة في قلبها ومادة هيولية تحتوي على مكونات عديدة تحيط بالنواة، ويحيط بالجميع غشاء خلوي بديع التركيب.
لنواة الخلية غشاء خاص، كما أنها تحتوي على مواد وبنى متنوعة من بينها مادة وراثية هي الأهم في الخلية، ومجموع تلك المادة الوراثية هو ما يدعى بالمجين أو الموروث (Genome) الذي يتوزع على 23 زوجاً من الصبغيات (Chromosomes)، ويتكون كل صبغي من سلسلتين من مادة الـ (DNA) أو الحمض النووي منقوص الأوكسجين، وإن المكونة الأساسية في بناء سلسلة الـ (DNA) هي مادة تدعى النوويد (Nucleotide) الذي له أنواع أربعة، ويرتبط كل نوويد مع نوويد مقابل له من السلسلة المقابلة ليشكلا وحدة أو زوجاً من قواعد النوويد.
يتألف الموروث البشري (المجين) من (3) مليارات من هذه الوحدات أو الأزواج القاعدية من الـ (DNA)، وكل الأهمية تكمن في تلك القواعد لأن تسلسلها على طول سلسلة المادة الوراثية هو الشيء الوحيد الذي يؤدي إلى اختلاف التركيب.
إن تلك المليارات الثلاثة تشفر أو ترمز مئة ألف من المورثات Genes قد تقل وربما تزيد، والمورثة هي منطقة من الـ (DNA) يمكنها أن تحدد بروتيناً معيناً أو أي مركب آخر يقوم بمهمة معينة في جسمنا.
تتضمن المادة الوراثية المعلومات الخاصة ببنية الخلايا ووظيفتها وتكاثرها، وذلك على شكل شيفرة وراثية، حيث أن المورثة الواحدة تشفر (10 ـ 20) وظيفة مختلفة وذلك حسب النسيج الذي تتواجد فيه ضمن البدن والظروف التي تحيط بها، وليس كل المورثات في خلية ما ستعمل بل جزء منها فقط سيعمل، وذلك حسب الوظيفة المقدرة لتلك الخلية.
لقد كان حلماً راود مخيلة العلماء طويلاً أن يتعرفوا على التركيب الدقيق والكامل للمادة الوراثية عند الإنسان، حتى كان عام 1985 حيث عقدت العديد من المؤتمرات وتوالى ذلك حتى عام 1987 حيث تمخض ذلك عن نشوء فكرة مشروع المجين (الموروث) البشري، والذي انطلق جدياً في الولايات المتحدة عام 1990، ومن ثم صار لأمم كثيرة أخرى برامج بحث مماثلة كجزء من هذا البرنامج العالمي.
يمثل مشروع المجين (الموروث) البشري جهداً كبيراً لإنجاز خريطة وراثية حقيقية وذلك لفهم التعليمات الوراثية التي تجعل من كل فرد منا كينونة مميزة، والهدف من ذلك إجراء قراءة كاملة للمليارات الثلاثة من أزواج القواعد مع وضع خرائط فائقة الدقة والنوعية للمادة الوراثية البشرية وإيجاد مواضع المورثات البشرية على الصبغيات ورسم خرائط لذلك، وهي مهمة شاقة بكل المعايير.
إن التعرف على المورثات يمكن أن يكون أصعب من إيجاد إبرة في كومة قش، والسبب هو الحجم الهائل للموروث البشري والذي يكمن في مكان ما من حروفه الخلل المسؤول، ومن أجل تذليل تلك الصعاب تعاون العلماء ومن فروع كثيرة مثل علم الأحياء (البيولوجيا) والفيزياء الهندسة وعلماء الحاسوب (الكمبيوتر) لتطوير تقنيات مناسبة، وقد أثبتوا مقدرتهم على ذلك ـ والحمد لله.
إن النتيجة المتوقعة ستكون مذهلة، وهي عبارة عن قاعدة معلومات واسعة وبمستويات عديدة من الدقة والوضوح والتفصيل، ولقد بدأت كنوز تلك النتائج وثمارها تهل علينا تباعاً، فلقد عينت المورثة المتورطة بإحداث الداء الكيسي الليفي Cystic Fibrosis وهو الدواء الوراثي واسع الإنتشار والذي يؤدي للكثير من الاختلاطات والوفيات، وأصبح هناك اختبار متاح لتحديد حملة المورثة المعيبة ذات الخطورة العالية في العائلات، كما اكتشف العلماء في مطلع عام (1994) مورثتين متورطتين في الشكل الوراثي من سرطان القولون، واكتمل في بداية عام (1996) وضع الخرائط لأكثر من (4000) مورثة، وتم ربط (1000) مرض وراثي بعيب معين في مورثة معينة، وارتفع عدد المورثات التي تم تحديدها في منتصف عام 1999 إلى (7700) مورثة، وقبل نهاية عام 1999 أعلن الباحثون في الولايات المتحدة واليابان والسويد التسلسل الكامل للمادة الوراثية المكونة للصبغي (22) وهو ثاني أصغر صبغي في جسم الإنسان، ويحتوي على (33.5) مليون من أزواج القواعد، وله علاقة بعمل الجملة المناعية وأمراض القلب الولادية والفصام والتأخر العقلي والعيوب الولادية وبضعة سرطانات من بينها ابيضاض الدم وسرطان الثدي وغيرها، وما سنعلمه مستقبلاً أكثر.
وبهذا الانجاز يكون قد انتهى الفصل الأول من الموسوعة الوراثية المرتقبة، حيث أنها المرة الأولى في التاريخ البشري التي يتسنى فيها للعلم عرض هذه الأسرار، وكان الأمر أشبه ما يكون بانقشاع الضباب عن بحر محيط زاخر بالبواخر المحملة بالمعلومات الثمينة.
وتهاوت حصون الصبغيات وأسرارها ففي العام (2000) وضع العلماء الخرائط البدائية للصبغيات (5 و 16 و19)، وفي مايو من العام نفسه تلتها أنجز (62) عالماً في اليابان وألمانيا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا الخريطة الدقيقة والكاملة للصبغي (21)، وتم الإعلان عن ذلك، وقد تبين أن هذا الصبغي يحتوي على أكثر من (23) مليون زوج من أزواج قواعد مادة الـ (DNA)، وتم الكشف عن عدد من المورثات المتعلقة باضطرابات بشرية نوعية، وكذلك لا ننسى علاقة هذا الصبغي الشهيرة بمتلازمة داون المعروفة والتي تتميز بتثلث الصبغي (21)، وبهذه الاكتشافات ستتاح معلومات قيمة لاستقصاء جذور تلك المتلازمة والوصول إلى حلول قد تكون مذهلة وحاسمة في تدبير حالة متلازمة داون، كما أن إكمال الخرائط الخاصة بالصبغيين (21 ـ 22) يعني أننا انتهينا من (2 ـ 3%) من إجمالي العمل، هذا بالإضافة لإنجازات مهمة على صعيد مرض (ألزهايمر Alzheimer أي: اعتلال الدماغ الإسفنجي العائلي عند الكهول) حيث أعلن العلماء في يونيو 2000 أنهم قد عينوا أنزيماً يعتقد أنه يلعب دوراً بتطور هذا المرض، وسيكون ذلك الأنزيم هدفاً جيداً لعلاجات نوعية ـ بإذن الله ـ وهناك إنجازات أخرى لا تقل أهمية بخصوص بعض أشكال السرطانات. ومن الانجازات التي تستحق الذكر أنه تم تحديد مورثة يبدو أنها تلعب دوراً في منع سرطان الثدي من الانتشار إلى أجزاء أخرى من البدن، بالإضافة لآمال علاجية جديدة لمعالجة مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز).
إن المشروع المذكور يعدنا وحتى قبل نهايته بأن يحول مفاهيمنا الحيوية (البيولوجية) والطبية، حيث أن المورثات لا تؤثر فقط في كيف سنظهر نحن، وإنما تعني ما هي الأمراض وبالتالي الإعاقات التي قد تحصل لنا في المستقبل ـ لا سمح الله.
لقد بدأت تلوح في الأفق ملامح طب جزيئي لا يعالج الأعراض بقدر ما يستهدف جذور المرض السببية، وإن الإختبارات التشخيصية النوعية ستسمح بمعالجة مبكرة لعدد لا محدود من الحالات، وسيساهم الطب القادم بشكل حاسم في تحسين تشخيص المرض الوراثي وذلك من ناحية الدقة والثقة والوقت، وكذلك الكشف المبكر عن التأهب أو الاستعداد لحدوث مرض ما عند شخص ما، وامكانية كشف المرض مورثياً قبل ظهور أعراضه أو الإعاقات الناجمة عنه بزمن طويل، وهكذا تتخذ الاحتياطات التي قد تمنع ظهور المرض، وكذلك سيمكن توفير أدوية جديدة تماماً فائقة الدقة في أهدافها، وستكون هناك قفزات هائلة في مضمار المعالجة المورثية وذلك بتصحيح أو تقوية أو استبدال المورثات المعيبة، بالإضافة لتقنيات المعالجة المناعية الحديثة، ولإمكانيات تجنب الحالات البيئية التي يمكن أن تثير المرض.
لا يخفى علينا مدى علاقة الإعاقات بالأمراض وتحديداً الأمراض الوراثية والصبغية، وكل تقدم يحزره الإنسان في مجال مكافحة تلك الأمراض سينعكس ايجاباً بالتأكيد على قضية الإعاقة سواء من ناحية الوقاية أو العلاج.
ولكن يجب ألا ننسى أن للإعاقة أسباباً أخرى عديدة، ومع ذلك فقد تدخلت الأبحاث الوراثية في ذلك فعلى سبيل المثال هناك الأبحاث التي أجريت على الجراثيم والتي ستساهم كثيراً في خدمة قضية الإعاقة من خلال المراقبة البيئية لكشف الملوثات، وكذلك من خلال الحماية من الحرب الكيميائية والحيوية وكذلك الإزالة الفعالة والأمينة للفضلات، كما تدخلت علوم الوراثة في مجال تقييم الأذية الصحية والأخطار الناجمة عن التعرض للإشعاع ولو بدرجات تعرض قليلة، وكذلك في حالات التعرض للكيماويات والسموم المحدثة للطفرات الوراثية والسرطانات، مع أبحاث لإنقاص احتمال حدوث الطفرات المورثة.
كما أن هناك اختلافاً في التأهب لحدوث إصابة ما عند البشر بالتعرض لبعض العوامل وبكشف ذلك يمكن إبعاد الأشخاص ذوي الخطورة عن العمل في مجال ما.
إن لمشروع الموروث البشري أوجهاً أخرى اجتماعية وأخلاقية وقانونية، فمثلاً تم توفير اختبار لكشف الذين سيحدث عندهم مرض هنتنغتون Huntington Disease أو العته ما قبل الشيخوخة ضمن العائلات ذات الخطورة العالية ـ ومنذ سنوات ـ ولكن لم يقرر إجراء هذا الاختبار إلا عدد قليل ممن يعنيهم الأمر، وذلك بسبب عدم وجود طريقة للشفاء أو الوقاية من المرض. إن العديد من الناس يفضل أن يعيش بدون (وجع رأس) لأن إيجابية الاختبار ستعني ببساطة أنه سيبقى في هاجس أنه سيصاب بمرض قاتل لاحقاً، وكذلك ما الذي يمكن أن يحدث فيما إذا علمت شركات التأمين الصحي أو أرباب العمل بذلك في عالم غلبت فيه المعايير المادية للأسف.
هناك أيضاً خوف من استخدام المعلومات الوراثية من قبل المحاكم والمدارس والجيوش وغير ذلك، وهناك قلق حول من سيملك تلك المعلومات ومن سيضبطها، وكذلك حول التأثيرات النفسية والاجتماعية.. وهناك تساؤل جدي فيما إذا كان يجب إجراء الاختبارات الحديثة عندما لا تتوفر معالجات؟ وهل للوالدين الحق في إجراء اختبارات تشخيصية لأطفالهم الصغار لأمراض لا تظهر إلا في مرحلة متقدمة من العمر؟ وهناك اهتمام بحدود وإطار استخدام التقنيات الوراثية في مسائل الإنجاب والحمل، وكذلك مدى النفع الممكن من تلك الاختبارات عند الأجنة.
إن المعالجة المورثية ستصبح واقعاً، وآنذاك ينبغي تحديد ما هو طبيعي وما هو الشذوذ أو الاضطراب الذي يجب علاجه، ويجب تحديد من يقرر ذلك؟ وهل سيؤثر البحث عن الشفاء في بعض حالات العجز على الشخص بشكل أخطر مما يعاني منه الشخص بالأصل؟
لكل تلك الأسباب الوجيهة والبالغة الأهمية فإن المشروع خصص ـ ومنذ بداياته ـ ما يقارب من (5%) من ميزانيته الإجمالية للبحث المركز في مجال استباق وحل المشاكل الأخلاقية والقانونية والاجتماعية المحتملة الظهور، وهذه واحدة من الأعمال المشكورة التي امتاز بها المشروع وعمل بها كي يتسنى الحصول على العسل بدون لدغات ـ ما أمكن ذلك.
من مواليد صماخ ـ حماة في سورية عام .1965
حائز على شهادة الطب البشري MBBCH، وعلى شهادة الماجستير MA في طب الأطفال من جامعة دمشق، وعلى شهادة البورد العربي (الدكتوراه Ph) في طب الأطفال من المجلس العربي للإختصاصات الطبية، وعلى الزمالة البريطانية في طب الأطفال AMRCPCH من لندن.
يتمتع بعضوية العديد من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والمهنية والإنسانية العالمية.
حاضر في العشرات من المؤتمرات والندوات والمحاضرات العلمية والطبية والأدبية في العديد من البلدان، وساهم بتقديم دورات تدريبية للأطباء.
له العشرات من الكتب والأبحاث والدراسات والمؤلفات والقصص.
حاز على براءة اختراع لتصميمه تقنية جديدة تمكن الشخص الأعمى من استخدام الحاسوب (الكمبيوتر) وما يتبعه من نظم.
نال العديد (15) من الجوائز وشهادات التقدير والشكر والثناء من جهات رسمية ومهنية وعلمية وطبية عديدة.
له أكثر من (1200) مقالة منشورة في أكثر من ستين من المجلات والصحف والدوريات في الدول العربية والدول الأوروبية، بالإضافة إلى مئات المقالات على العشرات من مواقع الإنترنت.
له سبق في مجال إدخال خدمات الطب عبر الإنترنت إلى المنطقة العربية.
عمل سابقاً كمدير لأحد مراكز الأبحاث.
يعمل حالياً كاستشاري في طب الأطفال وحديثي الولادة وأمراض الوراثة عند الأطفال في مجمع الأسد الطبي في مدينة حماة.