مَن منّا من لا يعرف قصة الفتى (ماوكلي) فتى الأدغال؟ أو مَن لم يشاهد فلم الكرتون الشهير ماوكلي في الصغر. قصة ماوكلي كانت قصة من نسج الخيال كتباها الكاتب المعروف رديارد كيبلينج في كتابه (كتاب الغابة). كانت أحداث القصة تدورحول فتى فُقد وسط الغابة الهندية اضطر بعد فقده للعيش مع مجموعة من الحيوانات فكان يختلط بالعديد من الذئاب مما مكّنه من إتقان لغتهم وطريقة التواصل معهم (Kipling, 1894).
وبعد العثور على ماوكلي لم يتمكن أحد من التواصل معه لفظياً مع أنه يسمع وينطق جيداً فهو يسمع أصوات الحيوانات ويتواصل معها ولكن عدم إختلاطه مع البشر جعله يعتمد على أصوات الحيوانات للتواصل. في الواقع يوجد العديد من القصص الحقيقية التي تحاكي قصة فتى الأدغال ماوكلي. فقصة الفتى (فيكتور) الذي تم العثور عليه في مقاطعة آفرون في أقصى الجنوب الفرنسي (Cayea, 2006) وكان ما يزال في الثانية عشرة من العمر وكان يعاني من نقص حاد في العديد من العمليات الإدراكية والتواصلية البشرية وخاصة إكتساب اللغة المنطوقة. فبعدما تم العثورعلى الطفل فيكتور تم إلحاقه في معهد باريس للصم وذلك لمحاولة تعليمه اللغة المنطوقة مع تكثيف جلسات تدريب النطق والتواصل اللفظي. ولكن للأسف تعليم الطفل (فيكتور) طفل الغابة أستغرق وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً مع نتائج قليلة (Shattuck, 1980).
كانت أكبر مشكلة تواجه الطفل فيكتور حسب ما يعتقد معلموه أنه لم يكتسب اللغة في المرحلة الحرجة لاكتسابها. حتى مع تقدم فيكتور في العمر ما زالت مشكلة اكتساب اللغة ملازمة له.
ومن القصص الواقعية إيضاً والمشابهة لقصة الفتى فيكتور قصة الفتاة (جيني) التي وجدت في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الامريكية في عام 1970م. تم الوصول لجيني عندما كان عمرها إحدى عشرة سنة وذلك بسب أن والدها قام بحبسها منذ تاريخ ولادتها. للاسف الشديد لم تكتسب اللغة والتواصل بشكل طبيعي كغيرها من الاطفال. حيث بعد أن تم العثور على الطفلة (جيني) تم تصميم برنامج علمي مكثف لتعليمها وتربيتها. وبعد العمل الجاد مع الطفلة جيني ولمدة خمس سنوات استطاعت أن تطور بعض المهارات الشخصية كالمهارات الاجتماعية ولكن بالنسبة للمهارات اللغوية فلم تستطيع تطويرها بشكل يتناسب مع عمرها ومقارنة بالأطفال الآخرين (Cayea, 2006).
هذه الأمثلة والعديد من القصص الواقعية تُظهر لنا أهمية التعرض اللغوي في مرحلة مبكرة جداً من العمر وأهمية ما يسمى بالمرحلة الحرجة لاكتساب اللغة. حيث تعتبر هذه المرحلة العمرية هي العنصر الأساسي من خلال توفر القدرة الذهنية لاكتساب اللغة بشكل سلس وطبيعي (Brown, 1994).
فأشارت العديد من الدراسات والابحاث العلمية لفرضية إكتساب اللغة يكون أسهل بكثير في هذه المرحلة لا أن يكون بعد تجاوز هذه المرحلة العمرية من حياة الانسان. عادة تكون هذه المرحلة العمرية من سن الولادة الى سن خمس سنوات مع أن بعض الأبحاث تشير إلى أن هذه المرحلة قد تمتد إلى مرحلة البلوغ. (Salkind, 2002)
فهل هذه المرحلة الحرجة لاكتساب اللغة مقتصرعلى اللغات المنطوقة فقط؟ وماذا عن اللغات المؤشرة؟ هل تندرج علمياً تحت هذه المفهوم؟ فإذا سالنا بعض المختصين في تربية وتعليم الصم وخاصة ممن يدعمون الطريقة الشفهية في تعليم الصم وهي التركيزعلى النطق والاستفادة من البقايا السمعية لدى الاشخاص الصم عن أهمية تعليم لغة الإشارة بوقت مبكر. قد يعتقدون أن تعلم لغة الإشارة سهل جداً وقد يحدث في اي وقت من عمرالطفل أما اللغة المنطوقة فهي أهم ويجب تعلمها مبكراً في المرحلة الحرجة لاكتساب اللغة (Mayberry, 1998).
فهل هذا الاعتقاد صحيح علمياً؟ حيث أن العديد ممن يعتقد بهذا المفهوم في تعليم الطلاب والطالبات الصم ينظر إلى لغة الإشارة بأنها ليست لغة حقيقية. ولكن في الواقع لغة الإشارة لغة حقيقية غنية بمفرداتها وقواعدها كأي لغة آخرى. وهذا يعني أن إكتساب لغة الإشارة في مرحلة إكتساب اللغة ايضاً مهم جداً للتطوراللغوي لدى الاطفال الصم. حيث إن الاطفال الصم الذين يكتسبون لغة الإشارة بعد المرحلة الحرجة لإكتساب اللغة -وهذا ما يحدث للأسف الشديد في العديد من الدول العربية- يواجهون صعوبة بالغة في إتقانها بشكل كامل. فالعديد من المختصين وخاصة مترجمي لغة الإشارة السامعين يجدون صعوبة بالغة في فهم وترجمة بعض الكلمات من بعض الاشخاص الصم وذلك لعدم وضوح لغتهم الإشارية وطلاقتها. فيوجد ما يسمى بالطلاقة الاشارية كما هو موجود في اللغة المنطوقة. حيث أن العديد من الابحاث والدراسات أوضحت أن الاطفال الصم ممن يكتسبون لغة الإشارة في وقت مبكر أفضل في المهارات الاكاديمة من الاطفال الصم الذين أكتسبوا لغة الاشارة في وقت لاحق. وكذلك الاطفال الصم ممن أكتسب لغة الإشارة في وقت لاحق أفضل من الاشخاص الصم الذين أكسبوا لغة الاشارة في مرحلة المراهقة وهكذا (Mayberry, 1998).
كذلك يوجد العديد من التربويين والمهتمين بشوؤن تعليم الصم ممن يعتقد أن تعليم الاطفال الصم اللغة المنطوقة ـ كاللغة العربية – في وقت مبكر أفضل وأهم من تعليمه لغة الاشارة. في الواقع تعلم وإكتساب لغة الإشارة كلغة أولى تساعدهم على تعلم واكتساب اللغة الثانية (Cummins,1979).
أشارت دراسة مايبيري 1988 لوجود تأثير إيجابي على تعلم اللغة الثانية من خلال تعلم واكتساب اللغة الاولى في وقت مبكر من العمر. حيث أن مجموعة من الاطفال الصم ممن لم يكتسبوا لغة الإشارة أو لديهم معرفة قليلة بلغة الإشارة قبل التحاقهم بالمدرسة (5 ـ 7 سنوات) يبدأون بتعلم لغة الإشارة واللغة الانجليزية في نفس الوقت حيث يؤثر سلباً على ادائهم الأكاديمي مقارنة بالأطفال الصم ممن اكتسبوا لغة الاشارة قبل عمر المرسة. وهذا ينطبق على اللغة العربية كذلك. فما توصلت له هذا الدراسة والعديد من الدراسات في هذا المجال يتماشى مع نظرية النمو الترابطي. حيث تشير هذه النظرية إلى وجود علاقة قوية بين إتقان اللغة الثانية واللغة الاولى. حيث أن إتقان اللغة الاولى يساعد بشكل كبير على إتقان اللغة الثانية (Cummins,1979).
فلذلك يجب على الاطفال الصم تعلم وإكتساب لغة الاشارة في مرحلة إكتساب اللغة وذلك لتساعده على إكتساب اللغة الثانية قراءةً وكتابةً حيث أن الاشخاص الصم يعتبرون ثنائي اللغة.