(ما رأيت الحكمة إلى فيه أقرب من أبي حازم)
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
للعقيدة قوة ساحرة وقدرة بالغة على تطويع المستحيل بجعله ممكناً.. وعلى ترويض الصعب بجعله سهلاً.
والعالم المدني المحدث الثقة أبو حازم سلمة بن دينار أحد التابعين الأجلاء ممن نعمت العقيدة في قلبه بفيض من الرحب والسعة والأمان، فكان ممن أوتي الحكمة على لسانه، وتفجرت البلغة من كلامه، وتدفق العلم جمّاً من جني لبابه.
ولما تعلم وتهذّب وتربّى وتخرّج في جامعة الإسلام، انقشع الضباب الذي غشي الدنيا عن عينيه، كما تتجلى الأمور أمامه على حقيقتها، متحرراً من الخوف والخضوع والتبعية لغير الله تعالى، وهذا الأمر مكّنه من العقول والنفوس حتى عند أجلّ الناس مكانة وإمرة في عصره.
وحين قَدِمَ الخليفةُ سليمان بن عبد الملك على طيبة الطيّبة ابتهج أهلها ووجهاؤها، فكانوا في طليعة مستقبليه، أما قاضيها وإمامها سلمة بن دينار فلم يكن بينهم.
عندها أفضى الخليفة سليمان لجلساته بما جال به خاطره فجاد باستفساره: أمَا في المدينة رجلٌ أدرك طائفة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا؟ ائتوني به كي يذكّرني؟
فجاؤوا إليه بسلمة بن دينار الذي همّ به الخليفة معاتباً: ما هذا الجفاء يا أبا حازم؟
فتعجب أبو حازم من عتب الخليفة راداً عليه: وأيّ جفاء وقع مني يا أمير المؤمنين؟ الجفاء أساسه معرفة، لا تعرفني ولا أعرفك فأيّ جفاء هذا؟ لذا.. فقد اعترف الخليفة لجلسائه بخطئه في العتب، وإصابة الشيخ في اعتذاره!
تلا ذلك حديث تجلّت فيه قوة حجة وجودة جدل أبي حازم.. إذ استهلّ الخليفة حواره بسؤاله: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟
وبجرأةٍ استمدّها أبو حازم من عافية إيمانه أجاب: لأننا عمّرنا دنيانا وخرّبنا آخرتنا، فنكره الخروجَ من العمار إلى الخراب. فيرّق قلب الخليفة ويشتد بكاؤه عند استفاضة أبي حازم بإجابات ثريّة بالحكمة، تذكّر بالآخرة وعظم المسؤولية، وتتوالى أسئلة الخليفة ويسترسلان في حوارهما حتى يختتمه أبو حازم بتوصية الخليفة قائلاً: نزِّه الله تعالى وعظّمه أن يراك حيث نهاك، أو يفتقدك حيث أمرك.
فكان للخليفة إجزال العطاء لأبي حازم بدفع صرة ملأى بالدنانير، مؤكداً أن عنده له من أمثالها الكثير.
لكن عفة ابي حازم وزهده جعلته يزورّ عن مطامع الدنيا وملذاتها ازواراً، فرد الصرّة إلى خليفة المؤمنين، ومعها كتاب يحمل الوعظ الكثير.
وناهيك عن أن منزل سلمة بن دينار كان مدرسة علم وصلاح وهداية.. لا يزكي فيها طالب عن غيره، ففي زيارة لعبد الرحمن بن جرير سأله كيف نحظى بالفتوح يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: عند تصحيح الضمائر تُغفر الكبائر، وإذا عزم العبدُ على ترك الآثام فتحَ عليه، ولا تنس يا عبد الرحمن أن يسير الدنيا يشغلنا عن كثير الآخرة.
كما كان عالمنا سلمة بن دينار يرى أن من الواجب تقدير العلم، حيث يؤتى إليه ولا يأتي إلى أحد، ويؤكد لنا ذلك استدعاء أمير أمويّ له ليحدثه ويفقهه، فأعتذر أبو حازم بكتابٍ له فيه يقول: أيها الأمير، لقد أدركتُ أهل العلم، وهم لا يحملون الدين إلى أهل الدنيا، ولا أحسبك تريد أن أكون أول من يفعل ذلك، فإن كانت لك بنا حاجة فأتنا، والسلام عليك وعلى من معك.
فمضى الأمير إليه بعد فراغه من قراءة ردّه وحيّاه وبيّاه، وقال: يا أبا حازم، لقد وقفنا على ما كتبتَه لنا فازددتَ به كرامةً عندنا، وعزةً الدنيا، فذكرنا وعظنا جزبت عنا خير الخزاء، فطفق أبو حازم يعظه ويذكره
هذا.. وقد كان لأبي حازم ـ يرحمه الله ـ الكثير من الوصايا التي تشعّ بما هو مفيد وقيّم، وتدعو لحسن الإصغاء والتأمل ومنها قوله: لكل عضو من أعضائنا حقٌّ علينا من الشكر، فشكرُ العينين: إن رأيت بهما خيراً أعلننه، وإن رأيت بهما شراً دفنته، وشكرُ اليدين: ألا تأخذ بهما ما ليس لك، وألا تمنع بهما حقا من حقوق الله، أما من يشكر بلسانه، ولا يشكر بجميع أعضائه وجنانه، فمَثله كمثل رجل له كساء غير أنه أخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر.
وبعد.. فلا بد أن نشير إلى أهمّ صفات تابعيّنا الجليل الخَلقية، فقد كان قميء المنظر، تقتحمه العيون، أعرج بيّن العرّج، أحدب.
ذاك هو من انغرست العقيدةُ في شعابِ قلبه متغلغلةً حناياه، ومستوطنةً أعماقه، لناهلٍ من منابع القرآن الكريم الصافية والسنة المحمديّة الشريفة فأصبحت سيرته تومض في سطور مصادرنا ومراجعنا علامة مضيئة على طريق الحق، كما غدا أًنموذجاً راقياً يحذو حذوه كلّ من يحرص على الوصول إلى مرضاه الله.
فطوبي لرجل عاش مؤمنا قوياً جريئاً في الحقّ، لا يخشى في الله لومة لائم.. وطوبى لمن وافته المنيّة وسؤال أصحابه يحفه: كيف تجد يا أبا حازم؟ فقال: لئن نجوْنا من شرّ ما أصبناه من الدنيا فما يضرنّا ما رُوِيَ عنا منها.