خلق الله الإنسان وخلق الذكر والأنثى وجعل بينهما مودة ورحمة ليكملا معاً مشوار الحياة.. ولكي يكون لهما دور فاعل في مسيرة الحياة فقد زرع الله تعالى في أعماقهما غريزة الانجاب وتكوين الأسرة التي هي خلية من خلايا المجتمع. وما إن يجمع الله بينهما في بيت الزوجية حتى تبدأ أحلامهما بالمولود القادم وتلفهما الحيرة في تسميته.. كل واحد منهما يشد اللحاف إلى طرفه وينتقي له اسماً من أسماء أبويه حسبما يكون المولود ذكراً أم أنثى، ويرسمان له صوراً مختلفة تناسب أحلامها وأذواقهما. وتدفعهما غريزة الأبوة والأمومة للبدء في رحلة الإعداد والتحضير لهذا الحدث التاريخي في مستهل حياتهما الزوجية. وتكون الاستعدادات على قدم وساق في أيام الحمل الأخيرة، فأحد أهم أهداف الزواج ستكشف الستارة عنه ويصبح حقيقة ملموسة تملأ دنياهما بالفرحة والسعادة بعد أن كان حلماً طال انتظاره أكثر من تسعة أشهر. ثم تحصل الولادة بسلامة الله ويكون المولود بنتاً حلوة أنعم الله بها عليهما فأخذاها بالأحضان.. وكأي وليدة بكر فقد نالت من أبويها حصة الأسد من مشاعر الحب والعطف والحنان.
ولأن أحلامهما في تكوين الأسرة كعجلة الزمن لا تتوقف عند هذا الحد فقد تكرر الحمل وتكررت الولادة وكانت المولودة الثانية بنتاً أيضاً لكنها كانت أكثر روعة وجمالاً إلى درجة أذهبت عن والديها رغبتهما الباطنة في أن يكون المولود ذكراً. وكانت بالنسبة لهما ـ وكما يقولون بالعامية ـ ظفرها بألف صبي.
تكبر الطفلتان ويكبر معهما الحلم والأمل في أن يكون لهما أخاً يشد أزرهما وأزر والديه ويكون لهم جميعاً سنداً بعد الله عند الحاجة حسبما نعتقد به هنا في بيئتنا العربية بشكل عام.
ورغبة منهما في تحقيق هذا الأمل فقد تكرر الحمل ثالثة مصحوباً بدعوات الجميع بأن يكون المولود ذكراً. وما إن يأذن الله بالفرج، ومع أول صرخة من صرخات المولود تتعالى في البيت زغاريد النسوة من الأقارب والأصحاب معلنة ولادة طفل ذكر ـ إذ كما هو معروف غالباً فإن الزغاريد لا تسمع إلا عند ولادة الصبي ـ وتأتي البشيرة إلى الأب الملهوف طالبة حلاوة الصبي المنتظر بعد اختيه البنتين فيشكر الله ويحمده كثيراً لاستجابته ويدعو الله أن يجعله خلفة صالحة.
لم يكن أحد يعلم ما ينتظر هذا الصبي وما ينتظر هذه الأسرة! ولأن أحداً منهم لا يعرف شيئاً عن ظاهرة الإعاقة فلم يلحظ أحد منهما أي شيء على هذا الطفل سوى أنه صغير نسبياً وأنه سيتحسن بالتأكيد مع الأيام، حتى أن الطبيبة التي أشرفت على عملية الولادة لم تلحظ شيئاً غير عادي!
تمر الأيام ويبلغ الطفل من العمر حولاً كاملاً، ويقام له حفل متواضع بمناسبة يوم ميلاده حضره العديد من الأقارب والأصدقاء. وبعدها بأيام يصاب الطفل بنزلة برد يأخذه والده على إثرها إلى الطبيب لمعالجته.
نظر إليه الطبيب نظرة استغراب وراح يتفحصه بدقة ويقيس محيط رأسه ووزنه و.. و.. الخ. لكن الأب المسكين الجاهل بمثل هذه الأمور فسر ذلك بأن الطبيب يهتم بطفله مراعاة لأواصر الصداقة التي تربطه به. وما هي إلا لحظات حتى فاجأه الطبيب بطلب لم يكن يتوقعه أبداً.. لقد طلب منه أن يعرضه على طبيب أطفال آخر في مدينة أخرى وسمى له ذاك الطبيب. وعندما سأله لماذا؟ أجاب هناك شيء أريد التأكد منه! ما هو هذا الشيء؟ قال الأب. فأجاب: أمر بسيط سأخبرك به لاحقاً بعد أن تعود من عند ذاك الطبيب.
ورغم أن الشك راح يساوره من عدة نواح لكنه لم يستطع تحديد أي شيء من هذه المخاوف والشكوك إلى أن حلت بسمعه صاعقة القدر التي لم يكن يتوقعها أو تخطر على باله أبداً.. صاعقة قاسية ترجمها لسان الطبيب الثاني قائلاً بعد تقديم وتأخير في الكلام.. إن طفلك عنده حالة من حالات صغر حجم الرأس تسمى طبياً Micro Ciphaly. ورغم أنه قالها بأرق الكلمات لكن وقعها على الأب كان كالصاعقة أو أشد قسوة، خاصة عندما علم من الطبيب وبعد استفسارات طويلة أن لا علاج لهذه الحالة اللهم إلا عناية الله.
عاد به إلى البيت والحزن يكاد يشل تفكيره عن كل شيء اللهم إلا عن أحلامه التي تبعثرت هنا وهناك على جانبي الطريق الذي سلكه. دخل إلى البيت، واستقبلته زوجته بسؤال الأم الملهوفة على ولدها: ماذا به؟ ماذا قال لك الطبيب؟ ولماذا تأخرت؟ و… و… ؟ أجابها والحسرة تخنق صوته الذي حاول أن يجعله طبيعياً ما أمكن ذلك: لا شيء.. أمر بسيط.. نزلة برد.. تذهب بسرعة مع الدواء إن شاء الله.
ورغم عدم قناعتها بهذا الرد لكنه كرر كلامه وفضل أن لا يخبرها بحقيقة الأمر خشية أن لا تتحمل أعصابها مثل هذا الخبر. واحتفظ بسره لنفسه عدة شهور حتى هيأ الله له سفراً إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وبالتحديد إلى إمارة الشارقة فاستقر فيها مع عائلته.
وشاء الله أن يتكرر الحمل مرة أخرى فسارع لعرض الأمر على الأطباء في المستشفى وأطلعهم على قصة ولده المريض وأبدى لهم تخوفه من تكرارها مرة أخرى مع الجنين الجديد، فقاموا بإجراء الفحوصات السريرية والمخبرية وكانت النتيجة التي خرجوا بها: لا شيء يدعو للقلق والأمور عادية!!
ورغم أن الأم الحامل ظلت تحت الملاحظة الدورية طيلة فترة الحمل، لكن أحداً منهم لم يتنبه لشيء غير عادي! حتى حان موعد الولادة وكان الطفل الوليد وللأسف كأخيه السابق وبنفس حالته المرضية. ورغم أن وقع هذا الحدث على الوالدين كان مؤلماً ـ ولا شك ـ لكنهما تغلبا عليه بقوة الإيمان بالله وبقضائه خيره وشره.. وحمدا الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
ثم تتابعت الفحوصات والتحاليل على اختلاف أنواعها وفي عدة مستشفيات دون أي بصيص أمل في المعالجة الطبية، وأحيل ملف الطفل المولود إلى مركز الطفولة والأمومة في الشارقة لتلقي الرعاية الصحية كغيره من مئات الأطفال الذين يترددون على المركز.
ولأن الله سبحانه وتعالى لم ولن ينسى أحداً من خلقه وأنه تعالى يتكفل بمن خلق فقد جاء الفرج عبر رنين الهاتف والصوت الملائكي الهادىء الذي قال: آلو.. السلام عليكم.. هل أنتم أسرة الطفل فلان؟.. نعم.. نرجو منكم الحضور إلى مركز التدخل المبكر في الشارقة..
وفعلاً تم عرض الطفلين على أخصائيي المركز ودونت لهما ملفات خاصة، وما هي إلا أيام قلائل حتى تفجرت الآمال في أوصال تلك الأسرة من جديد عندما طلبوا الأخ الأكبر ليكون ممن تشملهم عناية هذا المركز. ويا لها من عناية ورعاية تبذل فيها جهود مضنية جبارة ـ يعجز اللسان.. بل وتعجز الكلمات عن وصفها مهما بلغت من القوة والبلاغة والفصاحة ـ يقوم بها أناس قد عقدوا العزم على مد يد العون والمساعدة بصدق واخلاص وتفان منقطع النظير لأولئك الأطفال الذين هم بأمس الحاجة لهم. ويشرف عليهم أناس قد زرع الله بين ضلوعهم قلوباً ملائكية مفعمة بتقوى الله وحب الخير.. نذروا أنفسهم ـ طواعية ـ لرعاية الأطفال المعوقين أو من كانوا يسمون بذوي الحاجات الخاصة، وهي تسمية رقيقة حكيمة تدل بحد ذاتها على حقيقة وجوهر من أطلق هذه التسمية عليهم. فجزاهم الله عن هؤلاء الأطفال وعن ذويهم أفضل الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم تمر الأيام والشهور، وتبدأ تلك الأسرة مع غيرها من الأسر بقطف ثمار هذا المركز الذي أولاه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة حفظه الله ورعاه اهتماماً كبيراً مما ساعد على توسيع نطاق عمل هذا المركز وتطويره والذي امتد ليشمل الأطفال في البيوت والذين لكثرتهم لم تستطع فصول المركز استيعابهم وذلك عبر برامج الارشاد الأسري التي كان لها أبلغ الأثر في نفوس أسر الأطفال من جهة ودورها الفاعل في تهيئة الأطفال أنفسهم لبدء مشوار الحياة قبل التحاقهم بالمركز في وقت لاحق، وذلك من خلال تدريبهم وتعليمهم وتدريب ذويهم على كيفية التعامل مع أطفالهم.
وهكذا تفاعلت الأحداث وتضافرت جهود المشرفين والعاملين في المركز فتمخضت عن تلك النتائج الباهرة المذهلة التي فاقت كل التصورات بالنسبة لأي متتبع لأحوال أولئك الأطفال قبل وبعد دخولهم المركز. لقد استطاعوا بفضل الله وبفضل جهودهم المضنية وتفانيهم في العمل والأداء المتميز أن يصعدوا مع أولئك الأطفال الدرجات الأولى في سلم الحياة تاركين لمن يليهم في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية ومدرسة الوفاء لتنمية القدرات ومدرسة وروضة الأمل للصم متابعة المشوار والصعود بهؤلاء الأطفال درجات أكثر عدداً وعلواً في سلم الحياة، وأن يجعلوا منهم أناساً قادرين على خدمة أنفسهم وخدمة مجتمعهم الذين هم جزء منه كما فعلوا ذلك مراراً وتكراراً مع من سبقهم من الأطفال من ذوي الإعاقة.
التوقيع: أسرة تقطف مع طفليها ثمار المركز والمدينة