أصدرت إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم بوزارة تنمية المجتمع، مجموعة قصصية لأطفال من أصحاب الهمم من تأليف روحي عبدات الاختصاصي النفسي التربوي بالإدارة، وتمثل هذه المجموعة المكونة من (20) قصة، حكايات واقعية عن أطفال من أصحاب الهمم الملتحقين بمراكز التأهيل التابعة لوزارة تنمية المجتمع.
(المنال) وبالتنسيق مع الكاتب تقوم تباعاً بنشر هذه القصص على صفحاتها، وقد نشرت في العدد السابق 11 قصة هي: ضحكة تعلو الكرسي المتحرك، وفيصل الابتسامة التي لا تغيب، رحلة مستمرة في تطوير الذات، رائحة الإبداع في الهوية الوطنية وأنامل منهمكة وذوق رفيع، عبد الله.. مستقبل مشرق يلمع في عينين صامتتين، ميداليات على صدر فارسة إماراتية وجبال شامخة.. شمس ساطعة وصحراء ذهبية، أسرة مُتعاونة ومركز مُتفانٍ، ذكريات سريعة، وصورة وابتسامة في لباس إماراتي. وننشر في هذا العدد 3 قصص هي: أحبك يا أمي، مفاجآت تضجُّ في عالم صامت وصداقة مع الكاميرا.
أحبك أمي
كانت (حور) الطفلة الخجولة التي تنطوي على نفسها في الساحة، تحتضن ألعابها بقوة وترفض أن يشاركها إياها أحد، تتأمل في الوجوه، في الأشياء، في مرافق المركز، تحاول معلمتها جذبها للانخراط مع أطفال المركز دون جدوى، أحياناً تبكي، وأحياناً تغضب، وتهرب أحياناً أخرى.
إلى أن جاء يوم كانت فيه المعلمة تروي لأطفال الصف إحدى القصص الجميلة الخيالية، فما كان من حور إلا أن تفاعلت مع القصة، شدَّتها لغة المعلمة وأسلوبها التشويقي الذي يتضمن لغة الجسد ونبرات الصوت انسجاماً مع أحداث القصة، فبدأت تظهر معالم الانفعالات على وجه حور الصغير، تارة تبتسم على وقع أحداث القصة، وتنفعل تارة أخرى متلهفة لمعرفة نهاية القصة.
كانت حور الطفلة التي تحب أن تجلس وحدها، فصارت الطفلة التي تحاول تمثيل القصة بحركات جسدية معبِّرة، تحث معلمتها على قراءة المزيد من القصص، تشارك زملاءها اللعب في الساحة، ومشاهدة التلفاز.
هذا التغيير لاحظته الأسرة أيضاً، عندما تعود حور من المدرسة منطلقة نحو والدتها لتريها رسوماتها التي أنجزتها في المدرسة، أو تحاول التعبير عما عملته من أنشطة وألعاب، وعن كل ما هو بخاطرها، شعور جديد يكتسي بالزهو والافتخار بما تنجزه من أعمال. وعلى الطرف الآخر تقوم بإحضار بعض الأشياء والممتلكات إلى المدرسة حتى تريها لمعلمتها وزملائها، متحدثة عن أغراضها الشخصية، وعن الزيارات الترفيهية التي قامت بها مع أسرتها.
لم تكن المعلمة تعرف سبب إصرار حور على رسم وتلوين لوحة فنية جميلة، واستخدام ألوان متعددة فيها، لقد كانت مهتمة حتى بأدق تفاصيل تلك اللوحة، لدرجة أنها أخذت وقتاً طويلاً منها، فكانت تنتقل من لون إلى آخر، ومن مكان في اللوحة إلى آخر، تغطي المساحات بألوان متعددة، تضبط إيقاعها الفني حسب الخطوط المرسومة دون أن تتخطاها، حريصة على أن تمتزج الألوان بشكل فني متناغم يُعبِّر عن مدى حبها لشخص طالما أحبته وتريد أن تهديه اللوحة، هذا ما أجابت عنه حور حين سألتها المعلمة عن سر فرحتها واندفاعها لإنجاز هذا العمل الفني المتقن، حين قالت: (أريد أن أهديها لأمي).
مفاجآت تضجُّ في عالم صامت
خرجت إلى النور تتفحص بعينيها عالماً صامتاً محيطاً بها، تنظر إلى وجوه تبتسم لها، تنظر إلى شفاه تتحرك، إلى أشخاص يلعبون ويمارسون حياتهم دون أن تسمع لهم صوتاً، هذا هو حالها أيضاً عند بدايات التحاقها بمركز الفجيرة لتأهيل أصحاب الهمم، في داخلها الكثير من الكلام يعود صداه إليها دون أن يسمعه أحد، حتى بعد زراعتها للقوقعة، فقد احتاجت لمن يشرح لها ماهية الأصوات التي بدأت تستمع إليها، احتاجت إلى الكثير من التدريب على لغة جديدة في عالم جديد.
مترددة في الدخول إلى هذا العالم، تحتاج إلى الكثير من التشجيع والتحفيز، كانت زراعة القوقعة بالنسبة لها منفذاً لدخول هذا العالم الجديد، فبدأ المركز بتأهيلها ضمن برنامج التأهيل السمعي واللغوي الجديد، إلى أن بدأت مهاراتها اللغوية تتضح شيئاً فشيئاً، لدرجة قرر فيها المركز بالتعاون مع الأسرة دمجها في إحدى مدارس التعليم العام.
لم يكن الدمج بالنسبة لحليمة أمراً سهلاً، فهي بالنسبة لطلبة المدارس كائن غريب ما دامت لا تتكلم بطلاقة مثلهم، وخاصة عندما يرون جهاز القوقعة الخارجي مثبتاً في رأسها، فليس هناك أدنى معرفة سواء للطلبة أو المعلمات عن كيفية التعامل مع هذه الطفلة، وما طبيعة ذلك الجهاز. لذلك كانت الانطباعات سلبية عن قدراتها من الحكم الأولي، فهل هي قادرة على التعلم؟! وقادرة على التواصل مع المحيط؟ لدرجة أن أمها جاءت تبكي يوماً ما إلى مركز أصحاب الهمم مطالِبة بإعادتها إليه، لكثرة المضايقات التي تتعرض لها ابنتها في المدرسة، وعدم تفهم حالتها، وتعامُل المعلمات معها على أنها لا تستطيع الاستمرار في مدارس التعليم العام.
أخذ الأمر جهداً كبيراً من معلمات مركز الفجيرة لتأهيل أصحاب الهمم لتغيير هذه الاتجاهات، وتوعية الطالبات بضرورة تقبُّل حليمة في الصف، وحقها في التعلم بين أقرانها السامعين وقدرتها على ذلك، حيث كانت المتابعات بشكل يومي وحثيث، عبر شرح المفاهيم التعليمية في الصف، وتحفيز أقرانها على مساعدتها والتفاعل الإيجابي معها، وحل المشكلات التي تبرز أولاً بأول في بيئة الدمج.
ومع مرور الوقت، بدأت المفاجآت تظهر إلى السطح، حيث حصلت حليمة في الصف الثالث الأساسي على درجات ممتازة، وتحديداً درجة كاملة في الرياضيات دون أي تعديلات على امتحانها أو مساعدة من أحد، وجاء اليوم الذي تأتي فيه حليمة إلى المركز مع والدتها بوجه تكسوه السعادة، منطلقة نحو معلمتها، تحمل ورقة في يدها، مشيرة إلى رقم في أسفل الشهادة بفرح شديد، عيناها نحو معلمتها، وإصبعها يشير نحو الرقم (95%) هو معدلها التراكمي لهذا العام.
صداقة مع الكاميرا
لحظة أمسَكَتْ بهاتف معلمتها والتقطت صورة للصف، كانت لحظة مُلهِمة بالنسبة لِـ (طَيف)، فَتَحَت أمامها أُفق حب التصوير، صار التصوير هاجساً لها، وكلما التقطت صورة أمعنت النظر فيها وتوجهت إلى معلمتها لتُريها إياها، يرافق ذلك شعور بالفرحة العارمة، وكأنها اكتشفت في ذاتها شيئاً لم تعهده من قبل.
احتاج هذا الاكتشاف من المعلمة إلى الكثير من الصقل والتدريب، لتصبح (طيف) أكثر احترافية وتمكُناً من ممارسة هذه الهواية التي ظلت تتنامى فيها مع الأيام، فانتقلت بِـ (طيف) من التصوير باستخدام الهاتف النقال إلى الكاميرا الاحترافية، التي أتاحت لها فرصة وخيارات أوسع لتُضفي على المناظر التي تقوم بتصويرها أبعاداً أكثر جمالية، مع إدخال تأثيرات عالم التصوير الجديد الذي اقتحمته، بما يحمل من عناصر للظلِّ والإضاءة والانعكاسات والأبعاد.
أصبحت الكاميرا جزءاً من حياة (طيف)، فهي صديقتها التي تكاد لا تفارقها في حياتها اليومية والدراسية، وكانت البيئة الطبيعية هي مصدر إلهامها في التقاط الصور، التي تمتزج فيها مكونات الطبيعة من خُضرة وماء وسماء، لتُظهر ما تتمتع به دولة الإمارات من جمال الطبيعة وسحر تضاريسها.
أصبحت (طَيف) الآن أكثر تحكماً بالكاميرا عن ذي قبل، فالثبات في قبضتها واضح، بما لا يسمح مجالاً لاهتزاز الصورة، وكذلك الانسجام الجسدي والتآزر البصري الحركي مع الصورة التي تريد التقاطها، حتى إجراءات التنفس وإغلاق العين عند التصوير، أصبحت من أبجدياتها في عالم التصوير.
إن الصُّوَر التي التقطتها (طيف) تحكي الكثير من القصص عن حبها لمركز الفجيرة لتأهيل أصحاب الهمم بمرافقه وساحاته وأنشطته، وحصصه الدراسية، كل صورة تحكي مشوار المركز في خدمته للأطفال ذوي الإعاقة، والروح المتوقدة التي يشعر بها الطلاب نحو بعضهم بعضاً ونحو مركزهم، حيث تُخرِجهم صور (طيف) من الصورة النمطية عن أصحاب الهمم، إلى صورة أكثر وضوحاً تعكس قدرات الشخص المعاق ورغبته في المشاركة والتأثير فيمن حوله.
ولم يكن مفاجئاً لمعلمة (طيف) أن تفوز طالبتها بجائزة الشيخة شمسة بنت سهيل في مجال التصوير، عن صورة التقطتها أثناء مشاركتها في مخيم الأمل بالشارقة، والتي تُمثِّل جمالية المَرْبى المائي وما يحويه من كائنات بحرية ذات ألوان زاهية.