(لَمقامُ نسيبةَ بنتِ كعب اليومَ خيرٌ من مقام فلان وفلان)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
هي ذات المقام الرفيع الذي جمّلته بسماتها الحرّة الأبيّة، مبايعة مجاهدة مربّيةً محرّضةً مقدامةً ثابتة.
أمّ عُمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو المازنيّة النجّاريّة الأنصاريّة، شهدت أُحداً، وبيعة الرضوان، والحديبية وخيبر وعمرة القضيّة، وحنيناً، ويوم اليمامة، تزوجت من ثلاثة، كلّهم لهم منها ولد، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى لها الأربعة.
ضربت أروع الأمثال لمؤمنةٍ فاضلة.. كابدت جراحها وآلامها، وما فقدته من أعضائها، وهي الثكلى التي ما فتئت تروّض بنيها لأن يكون كلٌّ منهم فرساً أصيلاً يصول ويجول في ساح الجهاد.
وهنا أدعُ للضوء ومضه ليتوهّج عند مواقف لأمّ عمارة أوقفت نزف معوّقات ابتلاءٍ جادته صبراً واحتساباً وجهاداً ابتداءً بالنفس.
فتلك هي تخرج مع زوجها غزية بن عمرو وابنيها حبيب بن زيد وعبد الله بن زيد إلى أُحدٍ، بشنٍّ لها تريد أن تسقي الجرحى.
وكان ضَمْرَةُ بن سعيد المازني يحدّث عن جدّته التي شهدت أُحُداً، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَمَقَامُ نسيبةَ بنتِ كعبٍ اليومَ خيرٌ من مقام فلان وفلان). وكانت تراها تقاتل أشدّ القتال، وإنّها لحاجزةٌ ثوبَها على وسطها، حتّى جُرحت ثلاثةَ عشرَ جُرحاً، وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قَمِيئَة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة.
ثم نادى منادي الرسول صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد، فشدّتْ عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدّم ـ رضي الله عنها ورحمها ـ ولقد مكثنا ليلتنا نكمّد الجراح حتّى أصبحنا.
كما تطل علينا صورة أخرى يتجلّى فيها جمال التربية ممثّلة في الابن البّار عبد الله بن زيد حيث قال: جُرحت يومئذٍ جُرحاً في عضُدي اليسرى، ضربني رجل كأنّه الرقل ولم يعرّج عليّ ومضى عنّي، وجعل الدّم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعصب جرحك.
فتقبل أمّي إليّ ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح فربطتْ جُرحي، والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ ينظر إليّ، ثمّ قالت: انهض بنيّ فضارب القوم. فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عُمارة! قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك.
قالت: فأعترضُ له فأضرب ساقه، فبرك، قالت: فرأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسّم حتّى رأيتُ نواجذه، وقال: استقدت يا أمّ عُمارة. ثم أقبلنا نعُلُّه بالسّلاح حتى أتينا على نفسه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك وأراك ثأرك بعينك.
الحديث عن الصحابية الجليلة أمّ عمارة ومواقفها البطوليّة الثرّة المؤثّرة يسكن القلب والنخاع معاً، فما انفكّت سيرتها الجميلة تعكس صور الفضيلة والوقار، وملامح حبّ الجهاد مهما كان عائقها جسدياً أم نفسياً.
وما زال في النفس شوق للحديث عنها والنهل من بعض ما رُوي عنها، فحديثنا القادم بلقائنا المحبّبب بكم سيكون أيضاً إشارة لها وعنها ـ رضي الله عنها.