(انطلاق الكرسي الرمادي)
رغم أني أسير هذا المقعد الرمادي إلا أني أجد كل ما حولي وردي اللون، حسنا لم تكن هذه حالي قبل فترة، بل على العكس كنت أرى كل ما حولي رماديا كهذا الكرسي الذي كنت أراه سجني وقيدي الذي يحرمني فرصة الانطلاق كأقراني، فرصة أن أركض وألعب وأمرح، فرصة أن أرى النور خارج جدران غرفتي الرمادية! ولكني اليوم قررت أن أنظر إلى نصف الكأس الممتلئ لا الفارغ، وأصبحت أعتبر هذا الكرسي فرصتي للانطلاق فلولاه لما تمكنت من التحرك خارج باب غرفتي والذهاب إلى المدرسة وإلى الحدائق العامة والمنتزهات، قررت أن يصبح هذا الكرسي صديقي الذي يحملني ولا يشتكي من إعاقتي في الوقت الذي يشتكي منها الكثيرون! أدركت أنه ليس قيدي بل على العكس فرصتي للحرية، أدركت أنه ليس سجني بل على العكس فرصتي للانطلاق في فضاءات الحياة الواسعة، فلولاه لبقيت أسير سريري.
ما الذي جعلني اغير رأيي؟ حسنا قد تتساءلون عن السبب، سأخبركم الأن بقصتي لعلكم تدركون مثلي أن الحياة ليست ضبابية رمادية بل بالعكس هي ملونة بألوان قوس قزح!
ولدت مشلولا عاجزا عن المشي لعيب خلقي لا يد لي فيه، وقرر والداي رغم هذا أن يكون اسمي باسم لأني رغم اعاقتي زرعت البسمة في حياتهم حيث تحسنت أوضاع والدي المادية قبل ولادتي بأيام، كما تمنيا أن يكون لي من اسمي نصيب، ولكني في طفولتي وكما أخبرتني والدتي كنت كثير البكاء، ربما لأني كنت أشعر بما ينتظرني في مستقبلي وأنا عاجز عن المشي، كنت في الخامسة من عمري حين أدركت للمرة الأولى أني مختلف، حاولت والدتي أن تشرح لي لماذا أنا لست كأخوتي وأصدقائي ولماذا أنا أسير مستخدماً الكرسي المتحرك، كنت أصغر من أن أستوعب مثل هذا الكلام، كنت أريد أن أصبح مثلهم فحسب، وعشت طوال عام كامل على أمل أن أمشي، حيث كنت أصحو كل صباح وأحاول النزول من السرير وحدي كما يفعل أخوتي ولكني كنت بالطبع أقع أرضا وتسارع والدتي إلى حملي ثانية إلى سريري وتضمني وتبكي… دموع والدتي كانت تشعرني بأنني في مأساة حقيقية! ما كان يزيدني اكتئاباً.
أسوأ أيام حياتي كانت عندما ذهبت إلى المدرسة، هناك كان الأولاد من حولي يلعبون ويركضون وأنا جالس في هذا الكرسي الكئيب أتأملهم،وهم ينظرون إليّ بخوف تارة وكأني كائن فضائي وبالشفقة تارة أخرى وكأني أتعس إنسان في الوجود، ويتهامسون فيما بينهم وينظرون إليّ، وأنا البائس أغرق في الخجل والحيرة!
لهذا قررت ذات يوم أن أقاطع المدرسة تماما.. مللت من هذا الشعور بأني مختلف عن الآخرين، أريد أن أكون مثلهم وإلا فلأبقى أسير غرفتي والكرسي الرمادي.
هذا القرار أقلق والداي اللذان سارعا إلى البحث عن الحلول، فكيف يحرم ابنهما الذي يعتبرانه أذكى من كل أقرانه من الدراسة فقط من أجل هذه الإعاقة البسيطة؟ حسنا هما يعتبرانها كذلك ولكني كنت أراها نهاية العالم!
أحد الأطباء الذي كان يتابع حالتي الصحية نصح والدي بتسجيلي في مدرسة خاصة بالأطفال من ذوي الإعاقة، فكرت طويلا بمعنى هذه العبارة: هل أنا من هذه الفئة، ولماذا؟ وهل يعني هذا أني منبوذ من المجتمع أو أني لا أصلح لشيء وحياتي كموتي؟ وازددت حيرة وقلقا حين شرع والدي يناقش الطبيب حول الأمر، حيث قال له:
ـ (ولكن ابني غير قادر عن المشي فقط، وهو قادر على متابعة الدراسة كأي طفل آخر!! أليس من الخطأ ان نلحقه بمدرسة كهذه!).
ـ على العكس، هناك حالات مماثلة لحالته في المدرسة التي سينتقل إليها حيث لن يشعر بالغربة بينهم، والمدرسون هناك لديهم برنامج عمل لتطوير مواهب باسم وغيره ومساعدته على تجاوز مشكلته وهناك سيدرس ما يدرسه أي طالب في أية مدرسة إضافة إلى تعلم مهارات جديدة مناسبة لوضعه كما قلت لك.
هذا ما قاله الطبيب وجعلني أشعر بالدهشة، أطفال مثلي؟ وهل هناك أطفال مثلي في هذا العالم؟ كنت أظن أني الوحيد الذي يعاني من هذه المشكلة!
فكرة خاطئة كنت أحملها سرعان ما تغيرت حين دخلت المدرسة الخاصة بنا أو مدرسة الطلاب من ذوي الإعاقة كما قالوا لي، حيث وجدت الكثير من الأولاد الذين يجلسون مثلي على الكرسي المتحرك الرمادي، وهناك لم أعد أرى أولادا يركضون ويمرحون ولم يعتبرني أحد مخلوقاً فضائياً!! فكلنا متساوون في الاعاقة ذاتها، ولهذا شعرت بسعادة كبيرة في هذا المكان، وقررت البقاء فيه دون أن أدرك وقتها كم سيفتح لي من أبواب للتعلم.
بعد فترة من التحاقي بهذه المدرسة، لاحظ المدرس أني متفوق ولكن في الوقت ذاته لاحظ أني خجول حزين دائم الجلوس وحدي، ويبدو أنه قرر تغيير هذا، وكان له ما أراد!
ذات يوم جلس إلى جانبي وسألني:
ـ لماذا أنت حزين يا باسم، أليس لك من اسمك نصيب؟
ـ لا، للأسف يا أستاذ فأنا كما ترى أسير هذا الكرسي الرمادي، أنا مختلف يا أستاذ!!
ـ هذا صحيح يا باسم أنت مختلف ولكن هذا سبب كي تفرح لا لكي تحزن، وكما تدرك أنك مختلف لا بد وأن تثبت هذا الاختلاف لكل من هم حولك.
ـ هذا الكرسي يخبرهم عن اختلافي دون الحاجة لقول أو فعل!
ـ ومن قال لك أن هذا الكرسي هو سبب اختلافك؟ أنت مختلف لأنك خلوق ومهذب أولاً ولأنك متفوق ثانيا ولأنك فنان موهوب ثالثا.
ـ ومن قال لك إني موهوب؟
ـ رسومك في حصة الفنية أخبرتني عن موهبتك التي سأساعدك على صقلها لتجعلك بالفعل مختلفا عن الآخرين، فمن يمكن أن يرسم كباسم؟
ونفذ الأستاذ وعده بالفعل وبدأت أهتم بالرسم وأقامت لي المدرسة معرضا للوحاتي وأبدى الجميع اعجابهم بها، وبمرور الوقت تطورت موهبتي واٌقامت لي المدرسة معارض أكبر ودعت إليها وسائل الاعلام التي تجولت بينها وأمام كاميراتها وأجريت حوارات صحفية مع العاملين فيها، وبالطبع تجولت بالكرسي المتحرك لا على قدميّ ورغم هذا شعرت بسعادة كبيرة لأني مختلف، وألوان لوحاتي انتقلت إلى حياتي التي أصبحت مثلها ملونة زاهية وغاب اللون الرمادي عن حياتي للأبد، كم هو رائع أن يكون الانسان مختلفا ومميزاً باختلافه.
المؤهلات العلمية:
- إجازة في الصحافة والإعلام من كلية الآداب في جامعة دمشق.
- عضو في اتحاد الصحفيين في الجمهورية العربية السورية.
العمل الحالي:
- سكرتيرة تحرير مجلة مرامي التي تصدر عن المجلس الأعلى لشؤون الأسرة في الشارقة.
- متعاونة مع مجلة المسار.
- متعاونة مع مجلة التميز التربوي.
- متعاونة مع مجلة الرافد.