يعتبر المسرح شكلاً فنياً نخبوياً مكلفاً إلى حد ما من الناحية المادية حيث يتعين عليك أن تغادر بيتك متجهاً إلى مبنى المسرح لتحظى بآراء ومواضيع معقدة تحفز الجمهور المتابع على التفكير. والذهاب إلى المسرح يمنح الحاضرين الفرصة للتجمع وتقصي الوضع الإنساني. ويتسم دور المسرح في المجتمع المعاصر بالقوة المرهفة من خلال مشاركة الخيوط الثقافية المشتركة للأعمال الكلاسيكية وتسليط الضوء على القضايا المعقدة وتحقيق التطهير الروحي من خلال الفن Catharsis وشحذ الخيال.
ويعمل كتاب مسرح كلاسيكيون من أمثال شيكسبير وتنيسي وليامز Tennessee Williams وأرثر ميلر Arthur Miller على إلهام الأجيال وربطها بعضها ببعضها الآخر لأن ما تطرحه مسرحياتهم من موضوعات وصراعات تناسب مختلف الأزمنة. وأنا شخصياً أديت أدواراً متعددة ذلت صلة بمسرحيات شيكسبير. ورغم علمي أن البعض سوف يخالفونني الرأي فيما اذهب إليه فأنا أرى أن حفظ نصوص شيكسبير عن ظهر قلب أمر ميسور وممكن وأسهل من حفظ نصوص لكتاب مسرحيين آخرين. ونظراً لاعتماد نصوص شيكسبير المسرحية على البحر الشعري خماسي التفاعيل الذي يعتمد في الأساس على تفعيلة شعرية ذات مقطعين: مقطع غير منبور يتبعه مقطع منبور iambic pentameter فإن فم الإنسان يتوافق مع المقاطع اللفظية syllables تماماً. وكان أول دور أديته في مسرحية لشكسبير هو دور بيتر كوينس Peter Quince في مسرحية (حلم منتصف ليلة صيف) A Midsummer Night’s Dream. ورغم أن مثل هذا الدور اتسم بالجفاف إلى حد ما وبالذات لطفل في عمر الثانية عشرة يجرب سحر شيكسبير من خلال مراقبة الممثلين الآخرين فإنه كان ممتعاً ومثمراً.
ويتعرض شيكسبير إلى نقد قاس بذريعة صعوبة نصوصه الأمر الذي يجعلها مملة للجمهور. غير أن المسرحيات داخل المسرحيات والحكايات التي تدور حول الجن والتحولات الحمقاء لا تثير إلا القليل من الملل. وفي مرحلة المدرسة الثانوية – حينها كان مقرراً علينا دراسة مسرحية (حلم منتصف ليلة صيف) – لم يكن قراءة نص المسرحية أمراً صعباً مثلما هو حال تمثيل المسرحية أو مشاهدتها على المسرح.
بعد ذلك أديت دوري فيولا Viola وإيميليا Emilia حيث اكتسبت خبرة أكثر واقعية من تمثيلي لدور بيتر كوينس، فدور فيولا عمّق فهمي وأنا أمثل مسرحيات شيكسبير، أما دور إيميليا فقد ذكرني بتواصل صلة شيكسبير بواقعنا. كما أن دراسة المناجاة الموجهة إلى ديزديمونا باعتبارها نصاً قوياً يدعو إلى المساواة بين الجنسين حفزتني لازدراء الذكور بسبب أنانيتهم. ومن خلال التماثل مع إيميليا وإطلاق العنان لتطهير العواطف من خلال التعلق بكلماتها تمكنت من أن أكون امرأة أقوى وأكثر دراية.
لقد أدى آلاف الممثلين أدوار كل من بيتر كوينس وفيولا وإيميليا لكن الأشخاص والمسرحيات نفسها تظل حية بسبب ما يتمتع به النص من مرونة وسمات إبداعية وبسبب أنواع الفكاهة المختلفة وكذلك الدراما التي يؤديها الممثل اثناء التمثيل. أما بالنسبة للجمهور فإن مشاهدة الأعمال الكلاسيكية يمثل تجربة مختلفة ليس فيما يتعلق بتغيير الممثلين أو المكان أو الخيارات الأسلوبية فحسب وإنما لأن أعداد المشاهدين تتزايد وتتغير وتكتسب خبرات حياتية، وهي بذلك تكتسب شيئاً مختلفاً من تلك الأعمال الكلاسيكية.
وإذا كان أحد أفراد الجمهور من المراهقين فإنه سوف يندمج بقوة مع روميو وجولييت أما الراشدون فربما يجدون مدى تهور وطيش أولئك المحبين الشباب! في هذا السياق ما تزال مسرحية أرثر ميلر الكلاسيكية الموسومة (موت بائع متجول) Death of a Salesman تعرض للجمهور لأنها تتحرى عن (الحلم الأمريكي) American Dream، وهي فكرة ما يزال الأمريكيون يتشبثون بها. وتلك المسرحيات ما تزال تلقى الرواج والتقبل لأنها لا تبلى بكرّ الأيام. ولأن تلك المسرحيات تحظى بالشهرة الواسعة فإن كلا من الجمهور والممثلين يركزون أكثر على الموضوعات والجوانب الأخلاقية التي يتم طرحها أكثر منه على فهم الحبكة.
ولا شك أن هناك مسرحيات جديدة تكتب وتمثل على خشبة المسرح وتتسم بملاءمتها لروح العصر وطرحها الأفكار والموضوعات والأخلاقيات للجمهور الذي يحضر العروض المسرحية بهدف تقصي أبعادها ومضامينها. وقد توليت شخصياً الإشراف على إنتاج مسرحية (ديترويت 67) Detroit 67 لمؤلفتها دومينيك موريسو Dominiq Morisseau. والمؤلفة لا تتحدث عن شخصيات عالية الثقافة إنما تتناول موضوعات وقضايا مهمة مثل الحب والخسارة والسعي لنيل الحرية و(الحلم الأمريكي). وقد تمكنت هذه المسرحية من توطيد الصلة مع الجمهور وتأييد تجارب الموتى وأصدقائهم وعوائلهم، وكذلك تسليط الضوء على المشاكل التي يشهدها مجتمعنا حيث استندت المسرحية إلى خلفية موسيقية تعود إلى ستينيات القرن الماضي وكذلك أوجه التشابه بين مصير الشباب السود في المسرحية ومصير أقرانهم في مجتمعنا.
ويحقق المسرح هدفه بصفته تجربة عاطفية دون تواصل الألم العاطفي نظراً لعدم وجود حاجز بين الجمهور ومكان التمثيل المسرحي مثلما هو الحال في الأفلام حيث أن أي انفعال يبرز اثناء تأدية الأدوار سوف يترك أثره على الجمهور. ولفناني المسرح القدرة المتميزة في التأثير على الجو ذي الصلة بالمكان المسرحي حيث أن هدف أي فنان مسرحي هو التأثير على الجمهور من خلال تقديم أفضل صورة واقعية لشخصية معينة أو كوميديا طبيعية أو تسليط الضوء على قضايا مجتمعية معقدة.
ويقدم الممثلون تجربة مماثلة حيث يتعين عليهم العمل على خلق شخصية ما واستخدامها أداة للتأثير على جمهور المسرح من خلال ولوجهم في الغالب إلى الجوانب الصعبة للنفس البشرية. إن التظاهر بتقمص شخصية أخرى يذكرنا بلعبة (التظاهر) أثناء الطفولة وهذا ما يحصل للشخص الذي لا يمثل من أجل المال إنما هو سعي وراء المتعة والتسلية.
وانطلاقاً من كوني ممثلة مسرحية ومخرجة ومديرة للمسرح ونجارة أرى أن المسرح مشروع جماعي هائل فهو يطرح تحديات فريدة من نوعها ويشجع على استخدام الخيال من جانب مؤلفي المسرحيات والجمهور. ولأن التحرك إلى أماكن مختلفة يعد أمراً مستحيلاً فإنه يتعين على مصممي المشاهد أن يجدوا وسيلة لتغيير المشاهد أو أن تكون المشاهد حيادية لفسح المجال أمام خيال كل من الجمهور والممثلين للتوجه إلى ذلك الزمان أو المكان. كما يتعين على الممثلين أن ينظروا إلى أنفسهم باعتبارهم ناسا مختلفين، أما الإضاءة والمؤثرات الصوتية فلابد أن تخدع الجمهور أو تستكمل بقية الأداء المسرحي من خلال عوامل مساعدة دقيقة. فضلاً عن ذلك ينبغي على سائر الأطراف المشاركة في العمل المسرحي أن تعمل وفق توجيه المخرج ورؤيته. ومثل هذا النمط من الجهد المثابر يخلق شعوراً بالعمل الجماعي الذي أتوق إلى ان أكون جزءاً منه.
وفي حين يتكلف مرتادو المسارح الكبيرة مبالغ مالية غير قليلة لحضور العروض المسرحية فيها فإن المنظمات الصغيرة تعمل على إنتاج أعمال هادفة وجميلة. وقد ازدهر المسرح في ظل توجه الأفلام السينمائية نحو الأرباح الكبيرة وكذلك سطوة الأنترنت لأن المسرح يتسم بقدرته على التوصيل والتأثير ومعالجة الحالات الإنسانية وإطلاق العنان للخيال فضلاً عن صفة الذكاء.
المصدر:
https://www.theodysseyonline.com/importance-theatre-today
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.