لا أحد يعرف على وجه الدقة هل الأدب أقدم من الصحافة، أم الصحافة أقدم من الأدب؟ بعض المؤرخين الغربيين يطلقون على الصحافة اسم (ثاني أقدم مهنة في التاريخ)، ويجزمون أن مهنة (بيع الهوى)، هي أول وأقدم مهنة عرفها الجنس البشري. ولكن لا توجد شواهد أثرية أو تاريخية تؤكد هذه المزاعم، في حين توجد أدلة قاطعة على ممارسة الإنسان البدائي ـ ذكراً كان أم أنثى – لحرف ومهن حياتية وعملية، ضرورية لاستمرار الحياة، ولم يكن بينها، هاتان المهنتان.
الأدب قديم قدم الإنسان، ويحدثنا علماء الآثار والأنثروبولوجيا عن نصوص أدبية يعود تاريخها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، مثل التراتيل الدينية والأساطير والملاحم، ومن أبرزها ملحمة جلجامش في بلاد الرافدين. وكتاب الموتى، وأناشيد الرعي والاستسقاء والعبادة والغزل في مصر الفرعونية. والذاكرة الإنسانية حافلة بالأعمال الأدبية الخالدة مثل (الإلياذة) و(الأوديسة) لهوميروس، ناهيك عن قصص ألف ليلة وليلة، وكتاب كليلة ودمنة. كل هذه النتاجات الأدبية كتبت قبل أن يظهر للوجود أبسط شكل من أشكال الصحافة البدائية.
يقال بأن أول (صحيفة) في العالم صدرت في روما سنة 85 قبل الميلاد، باسم (الأعمال الرسمية) أسسها الإمبراطور يوليوس، الذي أمر كبار موظفي دولته أن يدونوا جميع أعمالهم على لوح يعلق في الميادين عامة، ثم صدرت (صحيفة) أخرى كانت أكثر انتشاراً لأنها كانت تنشر أخبار الخاصة والعامة.
الصحافة في بداية ظهورها لم تكن منتظمة الصدور، ولم تنشأ أول صحيفة دورية، إلا في سنة 1631 في فرنسا. أما في العالم العربي، فقد نشأت الصحافة على أيدي الأدباء والنقاد الرواد. ويكفي إلقاء نظرة على تأريخ الصحافة العربية، وتراجم روادها الأوائل، في كل من مصر ولبنان والعراق، وفي سائر البلدان العربية، لأثبات هذه الحقيقة الموثقة.
الصحافة والأدب نوعان من الإبداع اللفظي. ولكنهما يستخدمان أدوات تعبيرية مختلفة، وأساليب لغوية متباينة، وقد أخذا منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي يقتربان من بعضهما من حيث استخدام التقنيات الكتابية والمادة الخام، ويمكن تلخيص أهم وجوه الاختلاف والتشابه بينهما، في نقاط محددة وواضحة، على النحو التالي:
أوجه الاختلاف:
- تقوم الصحافة على جمع وتحليل الأخبار والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور وغالباً ما تكون هذه الأخبار متعلقة بمستجدات الأحداث على الساحة الداخلية والخارجية، أو تتناول شتى جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والرياضية وغير ذلك. وأغلب ما يكتبه الصحفي يستند إلى وقائع وأحداث حقيقية وأناس حقيقيين. الصحفي المحترف هو في خضم الناس والأحداث دائماً، ومثل الجندي في خندق القتال، في حالة استنفار دائم. أما الأديب فإنه يعمل، في عزلة وهدوء، عندما يأتيه الإلهام ويكتب في تأمل وروية في البيت أكثر الأحيان، وإن كان بعض كبار الروائيين والشعراء اعتادوا الكتابة في المقاهي أيضاً.
- الصحفي العامل في الصحافة اليومية أو الإذاعة أو التلفزيون، لديه مواعيد محددة لإنجاز ما كلف به من أعمال. وكلما أسرع في عمله كان ذلك أفضل. فهناك المنافسة والسبق الصحفي، وليس لديه الوقت الكافي لإعادة كتابة المادة الصحفية أكثر من مرة. أما الأديب فإنه يصرف الجزء الأكبر من وقته ليس في كتابة النص الفني فحسب، بل في صقله على هواه، فهو يقدم، ويؤخر، ويضيف ويمحو، ويغيّر هذه الكلمة أو الجملة أو تلك، وفي معاودة النظر فيه أكثر من مرة، فهذا هو عمله الأساسي. من يصدق أن عبقرياً مثل ليف تولستوي كان يعيد كتابة فصول رواياته الطويلة مرات عديدة، وكذلك هيمنجواي الذي أعاد كتابة بعض فصول رواياته عشرات المرات، وهي ظاهرة شائعة لدى معظم الأدباء الروائيين. أما في الشعر، وكان الشاعر الرائد والمبدع بدر شاكر السيّاب يقول إن مهمة الشاعر الرئيسية هي الحذف والاختصار. وإذا كان المقال الصحفي يمكن كتابته ـ إذا لزم الأمر ـ خلال بضع ساعات، فإن الرواية قد تستغرق كتابتها عدة سنوات. الصحفي عندما يتناول الصحيفة في الصباح فإنه يرى ثمرة عمله بالأمس، أما الكاتب فإنه ينتظر أحياناً سنوات لإصدار كتابه الجديد.
- يبدو لي أن الفرق الجوهري بين الصحفي والأديب هو درجة الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل منهما. الصحفي لا يمكنه أن يكتب حسب هواه، بل يلتزم بالسياسة التحريرية للصحيفة التي يعمل بها، إن لم يكن هو شخصياً مالك الصحيفة. أما الأديب فلا رقيب عليه سوى عقله وضميره وذوقه الفني.
- الشيء الرئيسي في الصحافة هو المحتوى الموثوق، ولكنه يتقادم بسرعة. فعمر المادة الصحفية هو المسافة الزمنية التي تفصل بين صدور عددين من الجريدة أو المجلة. أما الأدب فلا يتقيّد بالحاضر، بل لا يتقيّد بزمان ولا مكان، وقيمته الحقيقية تكمن في مستواه الفكري والفني. وما يبدعه الأديب يظل حياً ومقروءاً لعشرات وربما لمئات السنين.
- الصحافة، بمفهومها الحديث حرفة أو مهنة لها أصولها وقواعدها ويمكن تعلمها، في كليات ومعاهد الصحافة أو خلال العمل الصحفي. أما الإبداع الأدبي، فإنه موهبة فطرية، يتمتع بها قلة نادرة من الناس. بذرة الموهبة يمكن تنميها بالمران ومعاودة النظر، ولكن من يفتقر إلى هذه البذرة لا يمكنه خلق نتاج إبداعي حقيقي.
- لغة الصحافة واضحة وبسيطة ومرنة تنبض بالحياة، والصحفي يحاول اجتناب الغموض ويتوخى مرضاة القارئ، ولهذا فإن المواد الصحفية في متناول الجمهور العام. أما الأدب فإنه يمتاز بلغته العالية وأسلوبه الرفيع، ويوجه في المقام الأول للنخب الثقافية التي تتذوق الأدب وتنشده، وتستمتع به. بعض الكتاب عندما يكتبون مقالات صحفية بأسلوبهم المعهود في الأدب، لا يدركون أن القارئ ليس لديه وقت لاستخراج الحقائق والمعلومات من عباراتهم الإنشائية الملتوية الغامضة.
- الصحفي في بلادنا يمكن أن يكسب لقمة عيشه من عمله، أما الأديب – الذي ليس لديه مهنة أخرى يعتاش منها – فإنه يعاني أشد المعاناة في حياته الخاصة وفي نشر نتاجه الإبداعي ـ شعراً كان أم نثراً فنياً – وتوزيعه الذي يستنزف الكثير من الوقت والجهد والمال، ويعجز عن تأمين حياة كريمة له ولعائلته إذا كان ما يبدعه فوق مستوى الجمهور ولا يلقي رواجاً في السوق.
- الصحافة أداة فعالة وقوية في التأثير ليس في الرأي العام فقط، بل أيضاً في السلطات الثلاث (الحكومة، والبرلمان، والقضاء). ولهذا يطلق على الصحافة مسمى (السلطة الرابعة). الأدب لا يمكنه أن يمارس مثل هذا التأثير المباشر والسريع.
أوجه التشابه:
- الصحافة مدرسة نافعة للأديب، يستفيد من خبرة العمل فيها في إدامة وتعزيز اتصاله بالناس وتوسيع آفاق رؤيته للحياة والعالم، مما يشكل معيناً لا ينضب لتجربته الأدبية. وقد عمل العديد من كبار الأدباء في العالم كمراسلين صحفيين لسنوات طويلة. منهم هيمنجواي، الذي أتاح له عمله في ميادين القتال، أن يكون شاهد عيان على مآسي الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الإسبانية، وانعكس كل ذلك في رواياته وأقاصيصه. كما أن الكثير من الكتاب الكلاسيكيين عملوا في الصحافة ومنهم أنطون تشيخوف، ومارك توين، وريمارك، وأورويل الذي ظل طوال حياته يمارس كلا النوعين من الإبداع، وقال عنه النقاد إنه أعظم كاتب مقالات في الصحافة الغربية إلى جانب كونه روائياً كبيراً.
- يقال إن (كل أديب صحفي، وليس كل صحفي بأديب). ولكن هذه المقولة ليست دقيقة. صحيح إن الصحافة قامت على أكتاف الكتاب ولكنها لم تعد كذلك منذ زمن طويل. بل تحولت إلى صناعة، في حين أن الشهرة الأدبية للعديد من الأدباء ترجع إلى عملهم الصحفي، وقد خدمتهم الصحافة في استكشاف إمكانات التعبيرعن أنفسهم وتحسين اسلوبهم وتطوير لغتهم نحو مزيد من المرونة والوضوح.
- العلاقة المتداخلة بين الصحافة والأدب. ليس وليدة اليوم بل قديمة، ويمكن اعتبار العديد من نتاجات الكتاب الكلاسيكيين روايات وثائقية بنيت على وقائع وأحداث حقيقية. وقد أخذت هذه العلاقة تتعمق وتتسع منذ الستينات من القرن الفائت، ونجد اليوم أن الكثير من الروايات العالمية مبنية حول أشخاص حقيقيين وأحداث حيّة وواقعية. إنهم يكتبون ما حصل في الواقع، لتتخذ نتاجاتهم شكل الوثيقة، وهذا النوع من الأدب يمكن تسميته بالأدب الفني – الوثائقي، أو الأدب غير الخيالي. وبذلك أخذت الحدود بين الصحافة والنثر الفني تتلاشى. وهذا ما أقرت به لجنة نوبل حين منحت جائز الآداب لعام 2015 إلى الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيتش، التي تنتمي رواياتها الست الصادرة لحد الآن إلى هذا النمط غير الخيالي. وليس من السهل على الناقد الأدبي اليوم، أن يميز بين القصة الخيالية وغير الخيالية، ناهيك عن القارئ العادي.
- لا ينبغي لنا أن نتساءل بعد اليوم أيهما أهم، وأكثر التصاقاً بالحياة: الصحافة أم الأدب؟ بعد أن أصبحت الفنون الصحفية والسردية متداخلة. الصحافة توظف اللغة الأدبية في المقال والأعمدة والتحقيقات الصحفية، والأدب يستمد مادته مما يحدث على أرض الواقع ويغتني بالفنون الصحفية. ولقد ظهرت في البلدان الغربية في الآونة الأخيرة روايات مستوحاة من الصحافة الإلكترونية وما توفره من معلومات ووسائل تفاعلية، ولم تصل هذه الموجة إلينا بعد، كما لم تصل من قبل الرواية غير الخيالية، المتعددة الأصوات رغم مرور ستة عقود على ظهورها في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.