بقلم: رابح زرواتي
صدق رسول الله حيث يقول:
(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). (1)
نعم تلك هي سنة الله تعالى في الأساس الذي يقوم عليه بناء الإنسان، وهو قانونه سبحانه الذي خلق الإنسان ويعلم أسراره ونقاط قوته وضعفه، فجعل صلاحه وفساده مرتبطاً ارتباطاً كلياً بمدى صلاح أو فساد قلبه.
ومن أجل ذلك كانت الفريضة الإسلامية الأولى على كل مسلم مكلف هي إصلاح قلبه، وهي مقدمة على بقية الفرائض المعروفة، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (أعمال القلوب.. مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه والرجاء له، وما يتبع ذلك.. هذه الأعمال جميعاً واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الأصل ـ باتفاق أئمة الدين) (2).
قد يتسرب لبعض النفوس أن أصحابها على مستوى عال من الثقافة وأنهم حاصلون على شهادات علمية، فهم في غنى عن الاهتمام بإصلاح قلوبهم لأن ذلك من شأن العوام.
وقد يرى آخرون أنهم مهتمون بالشؤون السياسية والدولية، وليس لهم من الوقت ما يخصصونه لإصلاح قلوبهم، بل يرون أنهم فوق ذلك، إلى آخر ما تسوِّل به النفس الأمارة بالسوء أو ما يوسوس به الشيطان للإنسان أو ما يصد به الهوى صاحبه عن الحق. وما أيسر المبررات وما أكثرها حين يلتمسها الإنسان لنفسه!
هؤلاء وغيرهم من إخواننا نذكرهم بأن الإسلام واحد وقانون الله تعالى يسري على الناس جميعاً، فإذا كانت سنة الله في إصلاح الإنسان وصلاح أعماله كلها، تنطلق أولاً من صلاح القلب، فهي سنة مطردة، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً، وقانون الله تعالى لا يحابي أحداً، ويؤكد لنا ابن تيمية شمول هذا القانون الناس جميعاً فيقول: (وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة، لا يكون تركها محموداً في حال أحد).(3)
ويقول رحمه الله تعالى أيضاً: (وأما المحبة لله، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ومن قال: إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق).(4)
ولعل أصحاب الثقافة والسياسة والمال هم أحوج الناس لإصلاح قلوبهم بسبب المغريات والشهوات التي تعترضهم أكثر من غيرهم.
وليعلم هؤلاء أن سياستنا لم تفلح لحد الآن، وثقافتنا لم تؤت ثمارها، وأموالنا لم تخرجنا من أزماتنا الاقتصادية، لأن أصحابها لم يصلحوا قلوبهم أولاً، ولن يصلح لنا شأن من شؤوننا كلها إلا إذا أصلحنا قلوبنا قبل أي شأن.
فالسياسي صاحب القلب المريض، تصدر منه سياسة مريضة، لأنه في تفكيره وتخطيطه وجميع حركاته غير منضبط بحدود الله، وإنما يهيمن عليه رد الفعل، وإرضاء بعض الأطراف، ومنافسة الأحزاب الأخرى للانتصار عليها، والرياء، والاحتفاظ بالكرسي، والحصول على عهدة جديدة، وإفشال خطة فلان، وهذه كلها أمراض يجب على كل مسلم أن يتطهر منها.
ولو كان قلبه سليماً لكان تفكيره وتخطيطه ومتقلباته كلها لإرضاء الله، لا تسيطر عليه حظوظ النفس، ولا يعمل من أجل هواه، ولا يسعى للحصول على رغبة دنيوية زائلة، وإنما يرى نفسه عبداً لله وحده، مستسلماً في حركاته وسكناته لأوامر الله ونواهيه امتثالاً لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)، فهو عبد مأمور لا ترغبه مصلحة ذاتية ولا ترهبه ضغوط خارجية، وإنما يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه.
صاحب هذا القلب السليم هو الذي تكون سياسته سليمة، إذ لا يناصر إلا القضايا التي أمر الله بمناصرتها، ولا يتوانى في خدمة المجتمع، ولا يتأخر في الدفاع عن الحق والعدل والخير، وهذه من أهم الأهداف المرجو تحقيقها من السياسة.
أما صاحب القلب المريض فلا يرى الحق حقاً مجرداً عن الأغراض الشخصية، إذ لا يرى من العدل إلا ما يحقق له مصلحة خاصة، ولا يعرف من الخير إلا ما يزيد في ثروته. وقل مثل ذلك في المثقف والغني وغيرهما، فالمثقف يسخر ثقافته في خدمة دينه وأمته لا يبتغي من أحد جزاءً ولا شكوراً، ولا تحد قلمه ولسانه رهبة كما لا تسيل قلمه وتطلق لسانه رغبة. لكن لا يفعل هذا إلا المثقف صاحب القلب الصالح، فلما صلح قلبه صلحت ثقافته.
والغني في الوطن العربي ـ إذا لم يكن أصلح قلبه ـ فما هي السبل التي ينفق فيها ماله؟ إنه يسخو حيث يجب عليه أن يكون شحيحاً، ويبخل حيث ينبغي أن يكون كريما!
ولو صلحت قلوب هؤلاء، لأرضوا ربهم وأسعدوا أوطانهم، ونالوا بذلك سعادة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: من الآية 111).
ولكنه حب الدنيا والإصرار على المزيد منها، يدفعهم لتهريب الأموال إلى الخارج سعياً وراء فوائد ربوية يحسبونها كثيرة وهي قليلة: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: من الآية 276).
ولا يشذ عن هذه القاعدة ـ إصلاح القلب الفريضة الإسلامية الأولى ـ الدعاة إلى الله تعالى، وكما هو معروف فإن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا الداعية لم يُقبل على قلبه بالإصلاح وعلى نفسه بتطهيرها من أدرانها وكنس ما كساها من غبار حب الدنيا، لا يمكن أن يصلح غيره مهما بذل من جهد، وكانت تحركاته الكثيرة كمن يدور في حلقة مفرغة، تسمع جعجعة ولا ترى طحيناً، وهذا من الأدواء الخطيرة التي أصابت الحركة الإسلامية المعاصرة، حتى إنك ترى تديناً ليس له من الإسلام إلا القشور، وترى أشكالاً بلا مضمون، وأجساداً بلا أرواح.
وإذا ضيع الدعاة قلوبهم: تحول عمل بعضهم من الدعوة إلى دين الله تعالى وتعليم المسلمين دينهم وحماية الإسلام من طعنات أعدائه، إلى التخصص في تكفير المسلمين، وتخصَّصَ البعض الآخر في الطعن في أئمة الفقه والدين وشتم العلماء والدعاة، وتفرغ طرف آخر للرد على المخالف والرد على الرد، ..إلى زائد لا نهاية من الرد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وطلع فريق جديد باختراع لم يسبق له مثيل في تاريخنا، حيث أخذ الفكرة من علم الجرح والتعديل، وشرع يطعن بلسان مسموم يميناً وشمالاً، لا في دعاة التغريب ولا في دعاة الانحلال ولا في الصهاينة الغاصبين ولا في الصليبيين الحاقدين، وإنما في العلماء والدعاة الذين لم يستسغهم مزاجه المقلوب، فتحولت حلقات العلم إلى جلسات غيبة يتم فيها أكل لحوم الأحياء والأموات؛ ذلك مبلغهم من العلم، وتلك حالهم لما ضيعوا قلوبهم، وإلا كيف يغيب عن المؤمن الذي يخاف ربه قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب: 58)، وكيف لا ترتعد فرائصه حين يقرأ قول النبي: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورةَ أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحُه ولو في جوف بيته).(5)
لا تستغرب هذا إذا عرفت أصل الداء، ومن ثم يمكنك استيعاب قول الله تعالى في كتابه العزيز: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس، الآيتان 9 و10).
أرأيت كيف تتحول أعمالنا ونشاطاتنا المختلفة إلى إثقال لكواهلنا بالآثام، وعوضاً أن نجني ثمرات أعمالنا في الدنيا وننال بها الأجر في الآخرة، فإذا بنا نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي أعدائنا.
إذن ما أحوجنا إلى أن نعتكف على إصلاح قلوبنا، فإذا صلحت صلح معاشنا ومعادنا، قال ابن الجوزي: (وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته).(6)
والإنسان الذي أصلح قلبه يكون قد نجح في تحمل مسؤولية نفسه، وبناء عليه يكون قادراً على تحمل مسؤولية أسرته ووظيفته ومختلف واجباته نحو دينه ووطنه، قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ـ رحمه الله: (إن صلاح القلب به صلاح النفس والجسد والروح، وهو نقطة البداية في الاستقامة، ومن ثم فنقطة البداية الصحيحة لحياة إسلامية كاملة هي صلاح القلب).(7)
فإذا شاع هذا الإصلاح والصلاح في أفراد المجتمع كلهم أو جلهم، فلسوف يقوم بهم المجتمع الإسلامي وتتم بهم النهضة الإسلامية المنشودة، تلك النهضة الشاملة المتوازنة.
فيا دعاة الإسلام ركّزوا جهودكم على إصلاح القلوب، وابذلوا في سبيل ذلك الأوقات الكثيرة والجهود المضنية، فإنكم بذلك تبنون الأجيال على الأسس الصحيحة المتينة التي تزداد يوماً بعد آخر قوة إلى قوة: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه) (الفتح: من الآية 29).
الهوامش
- أخرجه البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير، تحقيق مصطفى ديب البغا، طبعة دار ابن كثير واليمامة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة 1407 هـ ـ 1987م، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52): 1/28، ومسلم في صحيحه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، بدون سنة طبع، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599): 3/1219.
- مجموعة الفتاوى، كتاب علم السلوك، تحقيق عامر الجزار وأنور الباز، طبعة دار الجيل، الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م: 10/7.
- مجموعة الفتاوى، كتاب السلوك: 10/13.
- مجموعة الفتاوى، كتاب السلوك: 10/14.
- أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد.
- مختصر منهاج القاصدين، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة 1394هـ: ص397.
- على طريق العودة إلى الإسلام، طبعة مكتبة رحاب، الجزائر، الطبعة الثامنة 1408هـ ـ 1987م.