لم يعرف العالم القديم في العصور الوسطى وحتى الحديثة مصدراً من مصادر العلم والمعرفة ـ اتكأ عليها في نهضته العلمية والمعرفية والحضارية ـ إلا كان منبعها من منابع الحضارة العربية الإسلامية، وإذا كان فضل العرب على العالم بعامة وأوروبا بخاصة في مختلف ضروب العلوم والمعارف والمعنويات والأخلاق لا ينكره منصف، فإنه من الثابت اليوم أن العرب والمسلمين في العصور الوسطى قد حازوا قصب السبق في ميدان علم الجغرافيا وشكلت رحلاتهم واستكشافاتهم مصدراً أساسياً من مصادر الدراسات الجغرافية والتاريخية. هذا إلى جانب أن أوروبا مدينة للعرب بحفظ معلومات اليونان الجغرافية، وهي المعلومات التي لا يعرفها الأوروبيون إلا من الكتب العربية في أواخر العصور الوسطى(1).
وقد امتاز العرب في هذه الحقبة التاريخية بحب السفر والحض على الترحال ومنها الرحلة في طلب أو لتأدية فريضة الحج.. وقد عبر عن هذه الظاهرة (شعراً) خير تعبير الإمام الشافعي (رضي الله عنه) (ت 204 هـ = 820 م) حيث يقول:
سافر تجد عوضاً عمّن تفارقه
وانْصبْ فإنّ لذيذَ العيشِ في النَّصبِ
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأُسدُ لولا فراق الأرض ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملّها الناس من عجم ومن عرب(2)
ويكفينا هنا أن نضرب مثلاً بواحد من أبرز الرحالة العرب في العصور الوسطى مثل الرحالة والمستكشف العظيم ابن بطوطة، الذي أسهم بنصيب وافر في تقدم الدراسات الجغرافية والتاريخية وكان بحق من أعظم الرحالة العرب والمسلمين ومن أكثرهم حركة ونشاطاً دؤوباً لا يفتر، فضلاً عن ذكائه الوقاد وورعه وتقواه الموصوفين. وابن بطوطة هو (شمس الدين) محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المغربي، ولد في طنجة وتوفي في مراكش من حواضر المغرب العربي، ويعتقد أن أرومته الشريفة ترجع إلى أصول ليبية، وقد ترعرع في أسرة غير ميسورة الحال مادياً لكنها غنية بالعلوم الدينية والفقهية، وقد هيأته أسرته للقضاء والفتيا، ولكن مشيئة الله هيأته لشأن آخر، حيث كان ولهاً بالسياحة والأسفار، وكأنداده من الرحالة المسلمين، أراد أن يؤسس رحلاته على التقوى، فطلب من والده وهو في عنفوان الشباب الحج إلى بيت الله الحرام، فكان الحج سنة (725 هـ = 1325 م) رحلته الأثيرة الأولى، وهو لم يتجاوز بعد سن الثانية والعشرين من عمره.
وكانت رحلته إلى الحج مقدمة لرحلاته الثلاث الطويلة التي استغرقت زهاء 29 سنة جال في الأولى ـ وهي الأطول مسافة وزمناً حيث استغرقت زهاء 25 سنة، وقطع فيها ما يقرب من 120.000 كلم ـ معظم البلاد العربية والإسلامية، حيث عرفته عن كثب الجزائر وتونس، وطرابلس (ليبيا) ومصر والشام وفلسطين والجزيرة العربية (الحجاز) واليمن والعراق وافريقيا الشرقية، وآسيا الصغرى (الأناضول) إبان قيام الدولة العثمانية، والقسطنطينية (عاصمة الامبراطورية البيزنطية) عهد ذاك، ووصل إلى إيران وشبه جزيرة القرم وما وراء اقليم فولجا في (روسيا) ثم خوارزم وبخارى وسمرقند وهراة ونيسابور وغزنة وكابل، ثم وصولاً إلى الهند والصين مروراً بسيلان والبنغال وملايو وسومطرة. وبعد آن آب إلى وطنه بعد هذه الرحلة الطويلة الحافلة بالتجارب والمعارف العلمية المفيدة، قام سنة (751 هـ = 1350م) برحلته الثانية قاصداً بلاد الأندلس (اسبانيا)، ثم أعقبها برحلته الثالثة والأخيرة سنة (753 هـ = 1352م) فطاف في بلاد افريقية (السودان الغربي) بخاصة.
وقد ترك لنا ابن بطوطة ملاحظات قيمة عن رحلاته الثلاث هذه والتي وصف فيها رحلته إلى هذه البقاع بأسلوب شيق دقيق وأمين وفكِه مصوراً أحوال البلاد التي زارها وحياة ذلك العصر الذي عاش فيه أصدق وأجمل تصوير، فضلاً عن الفوائد الجغرافية الجمة التي شملتها ملاحظاته، جاءت في وصفه لبيئة البلاد التي زارها من طبيعة وتضاريس وجغرافية بشرية وسكان وعادات وتقاليد، واصفاً في الوقت نفسه، أخلاق الناس في هذه الأرجاء في الشرق والغرب التي شاهدها، كما صور لنا ملابس وسكن وأطعمة وعادات وتقاليد هذه الأمم والشعوب.
وقد وضع ابن بطوطة خلاصة تجاربه ومشاهدته الحية في رحلاته الطويلة الثالث في كتابه الموسوم (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) المعروفة بــ (رحلة ابن بطوطة)(2).
وتكمن أهمية هذا الكتاب الرحلة في كونه شاهد على العصر الذي عاشه ابن بطوطة خصوصاً في الجوانب الأدبية والاجتماعية والتاريخية. وينتقص بعض المؤرخين والجغرافيين من قيمة الكتاب كون ابن بطوطة لم يحرره ويدونه بقلمه، وتولى عنه تدوين رحلته كاتب السلطان أبي عنان المريني(4) في فاس محمد بن جزي الكلبي، الذي وضعه بأسلوب أدبي شيق وممتع دون أن يتدخل إلا في القليل مما يقصه ويمليه عليه ابن بطوطة. وقد فرغ بن جزي من كتابة الرحلة سنة (757 هـ = 1356م) لكن هذا المأخذ على الكتاب وجد ـ في الوقت نفسه ـ من الباحثين والمهتمين من علماء الجغرافيا والتاريخ والأدب والاجتماع كل الثناء العاطر وعدوه أحسن ما كتب في هذه الأبواب في أواخر العصور الوسطى، ولأهمية الكتاب ومكانته العلمية فقد ترجم إلى اللغات الفرنسية والانجليزية والألمانية والبرتغالية.. وثمّن المستشرق الروسي اغناطوس كراتشكوفسكي (ت 1371 هـ = 1951م) المتضلع بمعرفة الآداب العربية قديمها وحديثها والذي تربو مؤلفاته عن 300، يثمن هذا الكتاب الرحلة بقوله: لا يستغني عن الرجوع إلى رحلة ابن بطوطة.. ويعد ابن بطوطة آخر جغرافي عالمي من الناحية العملية، وقد قطع في رحلاته آلاف الأميال، وهو بهذا يعد أيضاً منافساً خطيراً لمعاصره الرحالة الكبير ماركو بولو البندقي (رائد ايطالي في دنيا الرحلات والأسفار) (ت 723 هـ = 1323م) بل إن وصف ابن بطوطة لخط سير رحلته أدعى إلى الثقة من ماركو بولو، وقد كان لديه إحساس بظروف حضارة العالم الذي يصفه، أكثر مما كان لدى زميله ومعاصره ماركو.
ووصفه المستشرق الهولندي راينهات دوزي (ت 1302 هـ = 1884م) بالرحالة الصادق الأمين(5).
بالجملة، فإن رحلة ابن بطوطة التي استنفذت معظم سنوات عمره خليقة أن تحظى بثقة علماء التاريخ والجغرافيا والاجتماع والسياسة والاقتصاد، فهي تبقى الصورة الواضحة النابضة بالواقعية والصدقية للعالم المعمور في زمن ابن بطوطة وهي وثيقة تاريخية هامة رسمت بالكلمات كل جوانب الحياة وقتئذ، على نحو، يجعل من القارئ مشاهداً لصورة ذلك العصر والسامع لصداها كأنه يراها ويعيش في قلب الأحداث الرائعة والذكريات الجميلة مشاركاً فيها وصانعاً لها.. إن أمتنا لن تسقط من ذاكرتها ووجدانها رمزاً عظيماً من رموز حضارتها الخالدين أمثال المغفور له ابن بطوطة، وسيبقى وأمثاله راية خفاقة على ساريتها الأعلى التي تعانق النجوم المضيئة بنور العلم والحق المبين.
تغرب عن الأوطان في طلب العلى
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
الحواشي
- انظر سعيد عاشور، أوروبا العصور الوسطى، ج 2، مكتبة الانجلو المصرية، ص 510، وانظر أيضاً سيدة كاشف، مصادر التاريخ الإسلامي ومناهج البحث فيه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1976م، ص 70
- الإمام الشافعي (ديوان) ط 4، مؤسسة الزعبي، بيروت، 1974م، ص 26 ـ 27
- أنظر رحلة ابن خلدون في طبعتها الحديثة الثالثة، تحقيق محمد العريان، دار إحياء العلوم، بيروت، 1996م، وللمزيد عن ابن بطوطة ورحلته، انظر زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، ط 2، نقله عن الألمانية فاروق بيضون وكمال دسوقي، المكتب التجاري للطباعة، بيروت، 1969م ص 418 وما بعدها، وللدراسة والتوسع انظر نقولا زيادة، الجغرافيا والرحلات عند العرب، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، بيروت، 1962م، كذلك بول غليونجي وآخرون، موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين، ج 1، مؤسسة المعارف، بيروت، د.ث، ص 59 ـ 60
- من بني مزين وهي سلالة عربية الأصل (بربرية) حكمت مراكش في الفترة ما بين (592 ـ 873 هـ = 1195 ـ 1468م) أقاموا دولتهم على حساب دولة الموحدين، سطع في عهدهم نجم ابن خلدون وابن الخطيب، وابن بطوطة، أشادوا صرح جامعة القرويين في فاس. انظر المنجد في اللغة والأعلام، ط 14، دار المشرق، بيروت، 1986م، ص 657
- انظر عز الدين فراج، فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوروبية، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت، ص 92 ـ 93 أيضاً عبد الكريم عثمان، معالم الثقافة الإسلامية، ط 11، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984م، ص 421 وما بعدها. كذلك كاشف، المرجع السابق، ص 72 ـ 74
الرتبة العلمية: أستاذ
التخصص العام: تاريخ
التخصص الدقيق: حديث ومعاصر
الجنسيـــة: أردني
تاريخ ومكان الميلاد: حيفا (السنديانة) فلسطين 1944
الحالة الاجتماعية: متزوج، عدد الأبناء ستة
<العنوان :=””>جامعة البتراء، ص.ب 961343، كلية الآداب والعلوم،
قسم اللغة العربية، عمان 11196، الأردن
المؤهلات الدراسية (الأحدث فالأقدم):
ـ دكتوراه (الفلسفة) في الآداب، تاريخ حديث ومعاصر 1983، جامعة مانشستر، قسم الدراسات الشرقية، جامعة مانشستر، مانشستر، بريطانيا
ـ دبلوم الدراسات العليا في الدراسات العربية والإسلامية (السنة التمهيدية للماجستير مقررات) تخصص تاريخ إسلامي، جامعة بيروت العربية، كلية الآداب، جامعة بيروت العربية، بيروت، لبنان 1979
ـ الدبلوم العام في التربية، جامعة بيروت العربية، كلية الآداب، جامعة بيروت العربية، بيروت، لبنان 1975
ـ ليسانس آداب في التاريخ، جامعة بيروت العربية، كلية الآداب، قسم التاريخ، جامعة بيروت العربية، بيروت، لبنان 1974.
عنوان رسالة الدكتوراه
The Development of Reform Concepts in Nineteenth – Century Egypt with Special Emphasis on Shaykh Muhammad Abduh and His Group
«تطور مفهوم الإصلاح في مصر في القرن التاسع عشر مع التركيز على دور الشيخ محمد عبده وأنصاره»
التدرج الوظيفي (الأحدث فالأقدم):
أستاذ (غير متفرغ) في جامعة البتراء الخاصة، عمان، المملكة الأردنية الهاشمية من 5 اكتوبر / تشرين أول 2008 حتى الآن
أستاذ في جامعة الملك فيصل، كلية التربية، قسم الدراسات الاجتماعية، الأحساء (السعودية) من 1 اكتوبر / تشرين أول 2003 إلى 16 سبتمبر / أيلول 2007.
أستاذ مشارك في جامعة الملك فيصل، كلية التربية، قسم الدراسات الاجتماعية، الأحساء (السعودية) 8 أغسطس / آب 1995 إلى 1 اكتوبر / تشرين أول 2003.
أستاذ مساعد في جامعة الملك فيصل، كلية التربية، قسم الدراسات الاجتماعية، الأحساء (السعودية) من 19 أغسطس / آب 1984 إلى 8 أغسطس / آب 1995.
أستاذ مساعد في جامعة قسنطينة، كلية الآداب، قسم التاريخ، قسنطينة (الجزائر) العام الجامعي 1983/ 1984