كانت إعاقته أهم عنصر مؤثر في بناء شخصيته، وقد تقبل هذه الحقيقة بقدر كبير من التسليم والصبر، دون أن يتبرم بها، أو يشكو منها إلا في القليل من شعره، ولا يتحدث عنها إلا مضطراً وحين يشعر بقسوة الحياة عليه
… وغالباً ما نلمح في حنايا قصائده بعض مظاهر الألم والأسى، ونسمع من بعض أشعاره أنة الشكوى والتبرم والضيق بالظلم والتعسف اللذين سادا مجتمعه في إشبيلية
كثيراً ما نرى في مجتمعاتنا العربية أفراداً أصيبوا بنوع من التعويق البدني أو العجز الجسماني، يجعلهم غير قادرين على أداء أعمالهم الحياتية على الوجه المنشود. وقد تكون هذه العاهة البدنية عاهة خَلْقية، ظهرت في هذا الإنسان عند ولادته، ولا يد له في ذلك. وقد تكون عاهة طارئة تحولت إلى عاهة ثابتة نتيجة حادثة طبيعية ألمت بهذا المرء كالسقوط والحريق والمرض وحوادث السيارات، وغير ذلك من الأحداث المختلفة التي يصعب حصرها في هذا المقال.
ويجد الفرد المصاب نفسه ـ بعد أن استنفد وسائل الطب والعلاج ـ فاقد الحيلة مسلوب الإرادة، وليس أمامه سوى الرضى بقضاء الله والتسليم له، والتسلح بسلاح الإيمان والصبر، والعمل من ثَمَّ بجد ودأب على تجاوز المحنة، والانتصار على العجز، للتعويض عن النقص الذي لحق به، باكتساب القدرة التي تؤهله للتفوق والنبوغ في كثير من الميادين التي يعجز أمثاله من غير المعاقين عن الوصول إليها.
ولعل الجاحظ هو أول من أبرز نظرية القدرة على التعويض، هذه القدرة التي يهبها الله عز وجل لهؤلاء الذين قصر حظهم في الحياة عن غيرهم؛ وذلك قبل أن يكتشف علماء النفس المعاصرون هذه النظرية بقرون عديدة. فيقول: (والعُرْجُ الأشراف ـ أبقاك الله ـ كثير، والعُمْيُ الأشراف أكثر… وإلى أن جماعة منهم كانوا يبلغون مع العَرَج ما لا يبلغه عامة الأصحاء، ومع العَمَى ما لا يدركه أكثر البصراء) (1).
وسوف نتناول في هذا المقال واحداً من هؤلاء النوابغ في الفكر والفن والأدب، وهم كثر في تاريخنا القديم والمعاصر وسنبدأ بالحديث عن شاعر ضرير في أقصى بلاد المغرب العربي؛ من الأندلس (فردوس العرب المفقود) وهذا الشاعر هو الأعمى التُّطيلي، من شعراء القرن السادس الهجري.
الشاعر التطيلي: لقبه ونسبته
وهو أحمد بن عبد الله بن أبي هريرة، ويكنى بأبي جعفر وأبي العباس أحياناً، وينســب إلى تُطيلة Tudela موطن أهله، وإلى اشبيلية حيث هاجروا وأقاموا، فيقال: التطيلي الإشبيلي، وكان ضريراً، فغلب عليه لقبه ونسبته: (الأعمى التطيلي).
كففه وأثره في شخصيته وشعره
وقد كان العمى أهم عنصر مؤثر في بناء شخصيته، ويبدو أنه تقبل هذه الحقيقة بقدر كبير من التسليم والصبر، دون أن يتبرم بها، أو يشكو منها إلا في القليل من شعره، ولا يتحدث عنها إلا مضطراً وحين يشعر بقسوة الحياة عليه.
ولعله يعبر عن هذا التقبل لواقع أمره بقناعة ورضى في قوله (2):
عندي رِضىً باللهِ لا يَعْتَري
ريبٌ، يَعْرُوهُ إِلباسُ
غير أن العمى أثر في شعره، فقصر في مجال الوصف القائم على الرؤية، كما قلّل من تغنيّه بالمغامرة والتباهي بالأفعال، كما يفعل كثير من الشعراء.
عصره وتنقلاته
قضى الشاعر معظم حياته في ظل دولة المرابطين التي حكمت الأندلس والمغرب مدة قرن من الزمان (448 ـ 541 هـ). وفي ديوانه إشارات إلى أمرائهم وقضاتهم ومن يتصل بهم، وكان أكثر مقامه في إشبيلية، ولكنه كان يخرج منها ـ أحياناً ـ إلى بعض المدن الأندلسية طلباً لرفد بعض الممدوحين فيها، وكان يلازمه في سفره، ويصاحبه في أكثر الأوقات شاعر معاصر له أعجب به، هو أبو القاسم الحضرمي المنيشي، نسبة إلى منيش من قرى إشبيلية. وبسبب هذه الملازمة كانوا يلقبون المنيشي هذا (عصا الأعمى)، وقد رحل إلى قرطبة حيث مدح قاضيها ابن حمدين، فأشاد ببأسه وجوده بقوله (3):
تَسامَى إلى العَلْياءِ من كُلِّ جانِبٍ
على كلِّ حالٍ والعَظيمُ عَظيمُ
يَداهُ بها مَرْجُوَّةٌ أَوْ مَخافَةٌ
وَريحَاه فيها لاقحٌ وَعَقيمُ
شكواه وتبرمه
غير أنه استغل مقدمة القصيدة ليبوح فيها بشكواه من الزمان، وبما يقاسيه من هموم وأحزان، فقال:
أما يَشْتَفي منّي الزّمانُ يَروعُني
وتُقعِدُني أرزاؤُه وتُقيمُ
تنكَّرَ أَحْبَابٌ وبانَتْ حَبَائبٌ
وَلَجَّتْ أعادٍ بَيْنَنَا وَخُصُومُ
وَأَطْلَعَتِ الأيّامُ شَيْباً بمَفْرِقي
روائعُ تَلْحَى في الصِّبا وتَلُومُ
وغالباً ما نلمح في حنايا قصائده بعض مظاهر الألم والأسى، ونسمع من بعض أشعاره أنة الشكوى والتبرم والضيق بالظلم والتعسف اللذين سادا مجتمعه في إشبيلية إذ يقول (4):
إلى اللهِ أشكو الذي نحنُ فيه
أسىً لا ىُنَهْنِهُ منهُ الأسَى
على مثلِها فلتُشَقُّ القُلوبُ
مكانَ الجيوبِ وإلاّ فَلا
فَشَا الظّلمُ واغْترَّ أشياعُهُ
ولا مُستَغاثٌ ولا مُشْتكى
وسَادَ الطَّغَامُ بتَمْويهِهِمْ
وهَلْ يَفْدَحُ الرُّزْءُ إلاّ كَذا
أغراض شعره
طرق الأعمى التطيلي جميع أغراض الشعر، ولكنه أجاد في فني الرثاء والمدح، اللذين غلبا على شعره بسبب علته التي كان يعاني منها، إلا أنه في رثائه أصدق منه في مديحه. ومن أجمل مرثياته رثاؤه لزوجته التي سلبها الموت منه، فقال فيها متفجعاً (5):
وَنُبّئْتُ ذاكَ الوجْهُ غيّرَهُ البِلى
على قُرْبِ عَهْدٍ بالطّلاقَةِ والبِشْرِ
بكَيْتُ عليه بالدُّموعِ ولوْ أَبَتْ
بكيتُ عليه بالتجلُّدِ والصَّبْرِ
أمُخبِرتي كيف استقرّتْ بك النَّوى
على أنَّ عندي ما يزيدُ على الخُبْرِ
وما فعلتْ تلكَ المحاسنُ في الثّرى
فقدْ ساءَ ظنّي بين أدري ولا أدري
وتمتاز هذه القصيدة بصدق العاطفة وسموها، وبراعة الاستقصاء لكثير من معاني الحزن الخفية، وتتراوح بين المبالغة في المواقف والحديث العاطفي المباشر الذي يكشف عن فداحة الأسى وعمق الشعور.
التطيلي الوشاح
شارك التطيلي في فني الشعر والموشحات، وشهرته الكبيرة جاءت من الموشحات. ولنستمع إلى القصة التي يرويها صاحب كتاب نفح الطيب، وفيها الدليل القوي والبرهان الساطع على براعة التطيلي في هذا المجال، وطول باعه فيه، إذ يقول (6): (وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم قد صنع موشحة وتأنق فيها، فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضَاحِكٌ عن جُمانْ
سافِرٌ عن بَدْرِ
ضاقَ عنهُ الزّمانْ
وَحَواهُ صَدْري (7)
خرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون) (8).
مزق الوشاحون موشحاتهم بعد أن أيقنوا أنهم عجزوا عن اللحاق بالتطيلي الذي بلغ الشأو والغاية في هذا المضمار. ويضيف الدكتور إحسان عباس موضحاً السر في إعجابهم الشديد بموشحة التطيلي: (لقد وجدوا فيها عذوبة سائغة، وسياقاً حلواً، واسترسالاً، وعبارات مستقلة في ذاتها، وخرجة لطيفة رقيقة) (9).
من طرائف أخباره وأشعاره
نشب نزاع بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى بن المعلم الطنجي في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى بن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن في التفضيل بين البرين: بر الأندلس وبر العدوة (المغرب العربي)، فطلب الأمير منهما أن يعمل كل واحد منهما رسالة في تفضيل بره، فكانت رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس (10)، ومما جاء فيها:
(وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره وهو التطيلي (11):
أما اشتَفَتْ منّي الأيّامُ في وَطَني
حتّى تُضَايِقَ فيما عَنَّ من وَطَري
ولا قضتْ من سوادِ العينِ حاجتَها
حتّى تكرُّ على ما طَلَّ في الشَّعَرِ
ويذكر المقّري صاحب كتاب نفح الطيب أن ابن بقي دخل الحمام وفيه الأعمى التطيلي، فقال له: أجز:
حَمّامُنا كزَمانِ القَيْظِ مُحتَدِمٌ
وفيهِ للبَرْدِ صَرٌّ غَيْرُ ذي ضَرَرِ
فقال الأعمى التطيلي:
ضِدّانِ يَنْعَمُ جسمُ المرءِ بينَهما
كالغُصْنِ ينعَمُ بينَ الشَّمسِ والمَطَرِ (12)
وقد أجاد التطيلي أيما إجادة في وصفه لأسد من رخام يقذف الماء من فيه على بحيرة حين قال (13):
أسَدٌ وَلَوْ أَنّي أُنا
قِشُهُ الحِسَابَ لقُلتُ: صَخْرَةْ
وَكأنَّهُ أَسَدُ السَّما
ءِ يَمُجُّ مِنْ فِيهِ المَجرَّةْ
وفي هذين البيتين صورة رائعة مبتكرة، لم يسبقه إليها شاعر قديم أو معاصر ـ على ما أعتقد ـ هذا على الرغم من كففه المعروف.
وله أبيات كثيرة تنم عن عميق تجربته للحياة والناس، ومدى معاناته منهما، وترقى هذه الأبيات إلى مستوى راقٍ من الحكم والأمثال والأقوال المأثورة. وهو القائل (14):
تنافسَ الناسُ في الدنيا وقد علِمُوا
أنْ سوفَ تقتُلُهم لذَّاتُها بِدَدا
قُلْ للمحدِّثِ عنْ لُقمانَ أو لبَدٍ
لم يترُكِ الدَّهْرُ لُقماناً ولا لبدا
وللَّذي همُّهُ البنيانُ يرفَعُهُ
إنَّ الرّدَى لم يُغادِرْ في الثَّرى أَحَدا
مَا لاِبْنِ آدَمَ لا تَفْنَى مَطَامِعُهُ
يَرجُو غَداً وَعَسى أنْ لا يعيشَ غدا
وهو القائل أيضاً (15):
والناسُ كالنّاسِ إلا أنْ تجرِّبَهُمْ
وللبصيرةِ حُكمٌ ليسَ للبَصَرِ
كالأيْكِ مُشْتَبِهاتٌ في مَنَابِتِها
وإنّما يقعَ التّفضيلُ في الثَّمرِ
ومن أدرى بقوة البصيرة وصدقها من شاعر فقد البصر، وجرّب مرارة الحرمان؟!
الخاتمة
تلكم هي قصة الأعمى التطيلي؛ ذلك الشاعر الذي تمكن من بلوغ قمة الشعر والأدب في عصره، واستطاع أن يتفوق على كثير من معاصريه الشعراء؛ بالرغم من إعاقته التي لم تشكل حائلاً يحول بينه وبين تحقيق طموحاته وآماله؛ بل كانت حافزاً قوياً حثه على بذل الكثير من الجهد والعناء لتعويض ما فاته من قوة الإبصار؛ فاكتسب بذلك حدة في الذكاء وقوة في رفعته إلى تلك المرتبة العالية في الأدب، وجعلته علماً من أعلام الشعر الأندلسي في القرن السادس الهجري.
ولا ندري على وجه اليقين ماذا سيكون عليه أمره لو كان مبصراً ينعم بحاسة البصر، ولم يكن كفيفاً فاقداً لها.
إنه ـ على الأغلب ـ كان سيفقد دافعاً قوياً هاماً يدفعه إلى السعي والكفاح والمثابرة لتحقيق هدف كبير أو انجاز عمل عظيم يشعره بتعويض النقص وسد العجز.
الهوامش:
- البرصان والعرجان والعميان والحولان للجاحظ ـ المقدمة ـ ك.
- الديوان: القصيدة 26 ـ ص 76 ـ 77.
- الديوان: القصيدة 52 ـ ص 161.
- الديوان: ا لقصيدة 1 ـ ص 1.
- الديوان: القصيدة 24 ـ ص 70.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري، ج 7 ـ ص 7.
- بقية الموشح في الديوان ـ ص 253.
- وهم أبو عبد الله بن أبي الفضل، والأبيض، وعلي بن مهلهل الجياني، وابن باجة، من أعاظم الوشاحين في عصر المرابطين.
- تاريخ الأدب الأندلسي: عصر الطوائف والمرابطين لإحسان عباس ـ ص 243.
- انظر تفصيل الرسالة في كتاب نفح الطيب ـ ج 3 ـ ص 186.
- المصدر السابق: ص 207.
- المصدر السابق ص 208.
- انظر الديوان.
- الديوان: القصيدة 8 ـ ص 72.
- المصدر السابقة: القصيدة 15 ـ ص 48.
المصادر والمراجع الهامة
- البرصان والعرجان والعميان والحولان: للجاحظ ـ تحقيق الدكتور محمد مرسي الخولي ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط 2 ـ 1981.
- الديوان: تحقيق الدكتور إحسان عباس ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ 1963.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: للمقري: تحقيق الدكتور إحسان عباس ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1968.
- تاريخ الأدب الأندلسي: عصر الطوائف والمرابطين: للدكتور إحسان عباس ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ 1962.
كاتب