مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة وفارس العقيدة والوطن
وأحد عظماء الجزائر الذين صنعوا استقلالها ومجدها العملاق
أظهرت الثورة الجزائرية بطولات فذة أذهلت الأعداء وحيرت عقولهم… من اللحظة الأولى التي وطأت فيها أقدام الفرنسيين الجزائر عام 1830 هب الجزائريون جميعا للمقاومة واستمرت هذه المقاومة التي ضحى فيها الجزائريون بالنفس والنفيس حتى استقلال الجزائر عام 1962 وخلال هذه الرحلة الجهادية الكبرى لشعب الجزائر برز العديد من رموز الثورة والكفاح ولعل الأمير عبد القادر يأتي على رأس هذه الرموز.
ولد الأمير عبد القادر بن محي الدين في 23 رجب 1222 هـ الموافق لشهر مايو 1807م ببلدة القيطنة قرب مدينة معسكر، ويعود نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة علي بن أبي طالب ابن عم الرسول، فهو من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد أجداده هو مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى وباني مدينة فاس، ورغم أن عبد القادر من أهل البيت إلا أنه كان يرفض رفضا قاطعا استغلال نسبه وأصله لاكتساب الاحترام والتقديس وطاعة الناس، فكان يقول: “لا تسألوا أبدا ما هو أصل الإنسان وفصله، بل اسألوا عن حياته وأعماله وشجاعته ومزاياه، وعندئذ تدركون من يكون”، وكان يستوحي ذلك من روح الإسلام الذي سوى بين البشر مهما كان أصلهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »كلكم من آدم وآدم من تراب، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى«.
تعلم عبد القادر القراءة والكتابة وعمره لا يتجاوز خمس سنوات، كما نال الإجازة في حفظ وتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي وهو في الثانية عشرة من عمره ليحمل سنتين بعد ذلك لقب حافظ ويبدأ بإلقاء الدروس في الجامع التابع لأسرته في مختلف المواد الفقهية، بعثه والده إلى وهران لطلب العلم من علمائها، كما حضر دروس الشيخ أحمد بن الخوجة فازداد تعمقا في الفقه وطالع كتب الفلاسفة وتعلم الحساب والجغرافيا، على يد الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي قاضي أرزيو، ولم يكتف الشاب عبد القادر بتلقي العلوم الدينية والدنيوية بل اهتم أيضا بركوب الخيل والقتال، فتفوق في ذلك على غيره من الشباب وبذلك كان من القلائل جدا الذين جمعوا بين العلوم الدينية والفروسية، عكس ما كان عليه الوضع آنذاك إذ انقسم المجتمع إلى المرابطين المختصين في الدين، والأجواد المختصين في الفروسية وفنون القتال.
إن إدراك الأمير بأن الإنسان يتكون من عقل وجسد وروح ومشاعر جعله يهتم بكل هذه الجوانب فكان عابدا لله إلى درجة التصوف وعالما بالدين والعلوم الحديثة مثلما كان فارسا قوي الجسد، إلى جانب الحس المرهف فنظم الشعر بكل أنواعه وكان يعتبر أهم الفنون آنذاك، وقد أكسبه ذلك حنانا وعطفا وحبا للناس.
تزوج الشاب عبد القادر مبكرا بلالة خيرة بنت عمه سيدي علي بو طالب، وكانت ذات أخلاق عالية، فعندما بايعه الناس على تحمل مسؤولية قيادة الجهاد ضد الإستعمار الفرنسي، وإدراكا منه لثقل المسؤولية التي ستشغله عن أهله وبيته ذهب إلى زوجته وقال لها: »لقد وضع القوم أمانة في عنقي، ومن الواجب علي القيام بها، وإن ذلك لا يدع مجالا لي حتى أقوم بواجباتي الزوجية على أكمل وجه، ولك إن أردت البقاء معي من دون التفات إلى طلب حقوقك المقدسة، فإني أوافق الموافقة التامة على ذلك، وإما إن كان قصدك ألا تفرطي فيها فأمرك بيدك، وذلك لأني قد تحملت ما يشغلني عنك «، فقبلت الزوجة الصالحة ذلك وكانت تعلم مدى تقديس زوجها الأمير لحقوق الزوجة التي فرضها الإسلام لها فقالت له » لقد رضيت لنفسي ما ارتضيته لنفسك«، وأثناء جهاده مر يوما بالقرب من مقام زوجته وكانت لم تراه منذ عدة شهور فبعثت إليه تطلب منه زيارتها فرد عليها بأنه مزفوف إلى بلاده إي أنه تزوج بقضية وطنه وشعبه، ورغم كل ذلك بقيت هذه الزوجة وفية له لأنها كانت تدرك ثقل المسؤولية التي تحملها وإن قضية الوطن والعقيدة فوق كل شيء وكان الأمير يتألم من فراق زوجته فله قصيدة طويلة يغازلها فيها ويقول في بعض أبياتها:
ألا هل يجود الدهر بعد فـراق فيجمعنا والدهر يجري إلى الضد
وأشكو ما قد نلت من ألم ومـا تحمله ضعـفي وعالجـه جهـدي
لكي تعلمي أم البـنـين بـأنـه فراقك نار واقترابـك من خلـد
عندما بلغ والده محي الدين الخمسين من عمره أراد الحج إلى البقاع المقدسة، ورفض أن يرافقه أي أحد إلا ابنه الرابع عبد القادر الذي لم يبلغ بعد 17 سنة من عمره، وبعد عودته من الحج لوحظ اعتزاله في بيته لمدة طويلة خصّها للعبادة والمطالعة الكثيرة للكتب فكان يطالع كتب الفقه والفلسفة والتاريخ التي أنتجها مفكرون مسلمون وإلى جانب ذلك كان يركز كثيرا في مطالعاته على معرفة الفكر العالمي والأوروبي، فقرأ لأفلاطون وأرسطو، كما اطلع على الكثير من الكتب التي تعتني بالفكر والشؤون الأوروبية، فكأنه يريد المزج بين الثقافتين الإسلامية والأوروبية، وهو بكل تأكيد بمحاولته التعرف على تاريخ وعادات وتقاليد أو أفكار مختلف شعوب العالم، فإنه كان يطبق الآية القرآنية التي تأمر المسلم بذلك والمتمثلة في قوله تعالى: » يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير«.[سورة الحجرات الآية 13]
ويتبين لنا مما سبق أن شخصية الأمير عبد القادر قد اكتملت وهو لم يتجاوز العشرين من عمره فهو رجل دولة وسياسة مثلما هو فارس مقدام و متصوف زاهد و عالم عارف وأب حنون وعطوف وشاعر يغازل زوجته ويحمس المجاهدين للقتال، وكأنه كان يستعد دون علم أحد لمهمة عظيمة.
حكومة الأمير عبد القادر من أفضل حكومات العالم أثناء القرن 19 م
تولى عبد القادر الإمارة بعد خروج الداي العثماني وحاشيته ودخول جيش الاحتلال الفرنسي مدينة الجزائر عام 1830 لكن هذا الأخير لم يقبل إلا بعد مبايعته من طرف السكان، فتم ذلك تحت شجرة الدردار الضخمة بقرب معسكر في شهر نوفمبر من عام 1832، فحددوا له مهمته بقولهم » إننا في حاجة إلى من يقود سفينتنا ويقف في وجه العدو في الداخل و الخارج ليذيقه العذاب، و لهذا قد اتفق العام و الخاص في إسناد الإمارة لعبد القادر بن محي الدين« فكان أبوه أول المبايعين فأطلق عليه لقب ” ناصر الدين” وبعد المبايعة بدأ الناس يرددون وهم فرحون برئيسهم الذي طلب منهم الإستعداد للجهاد ضد المستعمر فيقولون »حياتنا وأملاكنا وكل ما عندنا له، لن نطيع قانونا غير قانون سلطاننا عبد القادر« فأجابهم الأمير عبد القادر الجزائري بقوله » وأنا بدوري لن آخذ بقانون غير القرآن، لن يكون مرشدي غير تعاليم القرآن، و القرآن وحده، فلو أن أخي الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لمات «.
أدرك الأمير عبد القادر بحجم ذكائه أنه لا يمكن مواجهة الاستعمار الفرنسي إلا بعد بناء دولة قوية وحديثة، و هذا يتطلب إقامة مؤسساتها و القضاء على القبلية والعروشية وتوحيد الشعب على أساس الولاء للوطن و العقيدة فقط لا غير و لذلك قام بعدة أعمال منها توحيد القبائل و توسيع نفوذه وإقامة مؤسسات الدولة الجديدة وكان يترأسها الأمير عبد القادر وتتشكل من سبع وزارات وهي الداخلية، الخارجية، المالية، الأوقاف، الأعشار وصنوف الزكاة، الحربية ووزارة الخزينة الخاصة، ويعتبر وزيره للخارجية ” المولود بن عراش ” أشهر وزراء حكومة الأمير، وكان يشترط في تولي وظائف الدولة عدة شروط أهمها التدين العميق والأخلاق العالية والكفاءة العلمية والخبرة والذكاء السياسي و القدرة على القيادة، هذا ما جعل حكومة الأمير تعتبر من أفضل حكومات العالم أثناء القرن 19 م.
الأمير عبد القادر رمز المقاومة الجزائرية اعتبره الفرنسيون يوغرطة الحديث
كان الصراع بين الجيش الفرنسي والأمير عبد القادر عنيفا، فالأول كان يعمل من أجل توسيع سيطرته على الجزائر، أما عبد القادر فكان يسعى لإيقاف الاحتلال و بناء دولة قادرة على طرد الغزاة من المدن الساحلية التي احتلها، نقض الجيش الفرنسي المعاهدات مع الأمير وذلك عندما عبر اراضي دولة الأمير دون إذن منه، فأدرك الأمير أن الجيش الفرنسي كان يعمل من أجل مهاجمته خوفا من تزايد قوة دولته، فأرسل رسائل إلى نوابه يقول لهم فيها إن الكافر قد جابهنا بالخيانة، و دليل خيانته واضح كالنهار، لقد عبر بلادي دون إذني فاجمعوا شملكم و اربطوا أحزمتكم استعدادا للمعركة، إنها على الأبواب… كونوا عاجلين في عملكم، و سارعوا بالانضمام إلي في المدية حيث أنتظركم.
فاجتمع رجال دولة الأمير في المدية لنقاش المسألة فاتفق جميعهم على العودة إلى القتال فقال لهم الأمير ليكن ذلك ما دامت هذه هي رغبتكم، ولكني أقبل المسؤوليّة بشرط واحد، إنّكم ستتعرّضون للتعب والمشقة والمحن و الخيبات، وقد تقنطون أو تتعبون من الحرب فأقسموا لي إذن على القرآن الكريم أنّكم لن تتخلوا عنّي أبدا ما دمت أحمل راية الجهاد، فأقسم له الجميع بذلك، و أخبر الأمير الحاكم العامّ الفرنسي بإعلانه الحرب عليه لأنّه ليس من شيم الأمير الخديعة و الخيانة و الغدر و نقض العهود مثل القادة الفرنسيين.
ولم يطلب الأمير من قادته القسم إلا لأنّه يعرف مدى المصاعب التي سيلاقونها لأن الحكومة الفرنسيّة صمّمت على احتلال الجزائر كلها ولو كلف ذلك إرسال مئات الآلاف من جندها إلى هذه البلاد الطاهرة وكانت تعلم أنها لو لم تقض على الأمير ودولته فإنّ دولة قويّة مسلمة ستظهر في العالم الإسلامي مما يمنع الإستعمار الأوروبي من تحقيق أطماعه في هذه البلاد، وبعد رحلة جهادية عنيفة ضد الاستعمار الفرنسي اضطر الأمير للإستسلام في عام 1847 بعد محاصرته من طرف الجيش الفرنسي شرقا وجيش السلطان المغربي غربا وخيانة بعض القبائل له، و لم يستسلم الأمير إلا بعد أن اشترط على الجيش الفرنسي إعطاء عهد الأمان لجميع رفاقه وجنوده و السماح لهم بالإلتحاق بقبائلهم، أما هو فطلب السماح له بالهجرة إلى الإسكندرية بمصر أو عكا بفلسطين، و إذا لم تقبل فرنسا بهذين الشرطين فإنه الجهاد حتى الموت، وكان هدف الأمير من ذلك هو إبقاء شعلة المقاومة ضد الإستعمار ملتهبة على يد رفاقه بعدما يضمن لهم الحياة، و هذا ما حدث بالفعل فيما بعد مما يدل على بعد نظر الأمير عبد القادر.
الأمير عبد القادر…فضل الإقامة في ديار الإسلام على كنوز الأعداء وثرواتهم
غادر الأمير وعائلته الجزائر على باخرة أسمودس الفرنسية تحت حراسة مشددة، فاتّجهت به نحو مدينة طولون واقترحت فرنسا إعطاءه قصرا ضخما يعيش فيه في فرنسا لكنه رفض ذلك، قائلا أنه يفضل الإقامة في ديار الإسلام على كل كنوز الأعداء وثرواتهم، فنقلته السلطات الفرنسية إلى سجن لامبواز فنقضت بذلك تعهدها مثلما هو شأن الفرنسين دائما، فرغم مطالبه بإطلاق سراحه والسماح له بالهجرة إلى بلاد الإسلام إلا أنها كانت ترفض ذلك باستمرار خوفا من نشر روح المقاومة وفكرة بناء البلاد الإسلامية لمواجهة الإستعمار الأوروبي الذي كان يستعد لإحتلالها مثلما احتل الجزائر.
ولم ينجح الأمير في مساعيه إلا بعد مجيء نابليون الثالث إلى الحكم في فرنسا عام 1851 بعد القيام بثورة ضد الملك لويس فيليب، فاستقر الأمير ببروسة بتركيا منذ عام 1853 و غادرها في عام 1855 بعد أن حطمها زلزال عنيف، فتوجه إلى إسطنبول ومنها إلى دمشق بسورية فاستقر بها واتخذها مكانا لإقامته مع عائلته، وقد قام بدور إنساني كبير في منفاه حيث أنقذ آلاف المسيحيين من القتل على يد مسلمين متعصبين عام 1860 وذلك عندما أثار المستعمران الفرنسي و البريطاني فتنة بين المسلمين والمسيحيين ليتخذ ذلك ذريعة لدخول سورية ثم احتلالها، ولكن الأمير عبد القادر نجح في إطفاء نار الفتنة إنطلاقا من سمعته وتأثيره وإدراكا منه لحقوق أهل الكتاب الذين يعيشون في بلاد الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم» من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، و إن ريحها لتوجد من سبعين عاما « ويقول أيضا » إلا من ظلم معاهدا ” مثل أهل الذمة ” أو كلّفه فوق طاقته، أو انتقصه حقه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة«، وهكذا اوقف الأمير الفتنة، فأنقذ بذلك سورية من الإحتلال الفرنسي في القرن19 م.
وقد اكتسب الأمير عبد القادر إحترام العالم كله وأعطى صورة نموذجية للمسلم الذي يدافع عن وطنه ويعمل من أجل بناء بلاده وتقدمها, ويتسامح مع أصحاب الأديان الأخرى، و يتحلى بالأخلاق العالية ويحترم كلمته و عهوده، وذلك الإحترام العالمي الذي اكتسبه شارك إلى جانب كبار قادة و ملوك العالم في احتفالات افتتاح قناة السويس في مصر عام 1869.
صورة الأمير عبد القادر رمز للدولة الجزائرية
ألف الأمير عبد القادر الكثير من الكتب في منفاه و أهمها:المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل و الإلحاد، وذكرى العاقل وتنبيه الغافل ضمنه آراءه في التاريخ والفلسفة و الدين و الأخلاق والإصلاح الإجتماعي وكتاب المواقف في التصوف.
توفي الأمير عبد القادر في عام 1883 بدمشق عن عمر ينهاز 76 سنة وهو عمر قضاه في الجهاد ضد الإستعمار وفي العبادة وطلب العلم ففاز بالدنيا والآخرة، وبقي جهاده شعلة تنير الطريق في الجزائر أثناء فترة الإستعمار فشارك ابنه محي الدين في ثورة المقراني عام 1871 وناضل حفيده خالد بن الهاشمي ضد الإستعمار الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى فنفته السلطات الإستعمارية من الجزائر عام 1919 وبعد إستقلال الجزائر عام 1962 اتخذت صورة الأمير عبد القادر رمزا للدولة الجزائرية فكانت توضع على الأوراق النقدية، وأعيدت رفاته إلى مقبرة العاليا، في مربع الشهداء الذي لا تدفن فيه إلا الشخصيات الوطنية الكبيرة كالرؤساء، ووضع له تمثال بالعاصمة ليبقى عالقا في ذهن الجيل الصاعد كواحد من عظماء الجزائر الذين صنعوا استقلالها ومجدها العملاق.
المراجع:
رابح لونيسي، الامير عبد القادر فارس العقيدة و الوطن، دار المعرفة، باب الواد ـ الجزائر، 1998.