ماذا إذا كان العبقري أو المبدع من الأشخاص ذوي الإعاقة؟ وهل للإعاقة تأثير في عمليه الإبداع؟ الواقع الفعلي أن الشخص من ذوي الإعاقة شخص وحيد، وتشتد الوحدة إذا كانت الإعاقة في الحواس، وعندما يكون الشخص مبدعا تصبح الوحدة لا تكاد تحتمل حتى لو كان وسط الآخرين.
إن الوحدة تدفع للتفكير وفى المراحل الأولى يكون التفكير يائساً.. إنه تفكير عدمي، وقد عبرت عن هذه الوحدة في روايتي روح هائمة في مقطع فريد اندفع إلى ذهني بلا هوادة ودون تغيير أي حرف فيه والمقطع كالتالي:
(…. وأحياناً عندما تنقطع تلك الأحلام التي تؤرقه.. كان يخرج من حجرته إلى الهواء النقي وكان ذلك غالباً قبل الأضواء الأولى للفجر.. فيسير تحت الأشجار يستمع إلى الصمت، وكان العالم يبدو له حين ذاك كأنه على شفا الموت، كان يفكر في الموت أكثر مما يفكر في الحياة ويتساءل دائماً عن كنهه.. وكان يخيل إليه أنه يراه في ذلك الصمت.. ولكن كان هناك دائما حفيف لا يكاد يسمع لأوراق الشجر.. ونسمة خفيفة من الهواء.. وحشرة تضرب بأجنحتها الصغيرة في الهواء… وكان هناك دائماً الأضواء الشاحبة للقمر والذي يختفي أحيانا تحت السحب والتي تسبح بهدوء وسكون في ظلام السماء كروح هائمة تبحث عن مستقرها.. إن ما يراه ليس تماما الموت.. وإنما الوجه الآخر منه.. إنها الوحدة.. بلا رفيق ولا أنيس ولا شيء مطلقاً.. إنما هو فقط مع وحدته).
إن الدراسة التي تعرضت لهذه الرواية ونشرت أغفلت أهم موضوع وهو تأثير الإعاقة على أسلوب الكاتب وعملية إبداعه في الرواية.. لكن الناقد عندما كتب دراسته لم يكن يعرفني لأنه تسلمها من هيئة قصور الثقافة مع بعض الروايات الأخرى لدراستها وتقديمها في مؤتمر أدباء أقليم القناة وسيناء الثقافي بمصر. ورغم ذلك فإن الناقد كان مبدعاً بشكل رائع.
إن المقطع الذي أوردته من الرواية لا يبحث عن الشفقة،.. فهو مقطع أدبي ضمن نص روائي يستدعى التأمل.. فالصمم له تأثير في عملي الأدبي لأنه جعلني أعيش في عالم ساكن… ولم يعد أمامي سوى الإنصات إلى الصمت.. لقد أصبح جزءا من حياتي وفى كل روايتي تتكرر كلمات الصمت والوحدة داخل سياقات مختلفة وعن مواضيع متنوعة تبحث في قضايا عامة لأن هدف الروائي في النهاية مجتمعه الإنساني وأثناء ذلك يرضى شعوره الداخلي بأنه حقق شيئا مفيدا.
لكن ليس من حق الإنسان المبدع من ذوي الإعاقة البحث عن الشفقة لنفسه، وإنما البحث عن كيفية إحداث التأثير، إن أبطال رواياتي ليسوا من الأشخاص المعاقين جسديا أو في الحواس، لكن لديهم بشكل ما من الشعور بـ (العجز) بالإضافة إلي الوحدة والعزلة وانفصالهم عن المجتمع وعدم قدرتهم على إحداث أي تغيير، وأخيراً ينفضون العجز من أجل الفعل، جاهزين للمواجهة حتى النهاية.. مستعدين لأي تضحيات يتطلبها إحداث التغيير، لكن صحوتهم الإيجابية لم تأت تلقائياً.
إن المساعدة لهم جاءت من الخارج، من شخصيات نسائية تتمتع بالثقافة والعقل الواعي ومرتبطة بالتاريخ بشكل عميق، باعتبار أن المرأة هي الرحم والأم والأرض وهى حاملة التراث تنقله لأجيال تلو أجيال، وقد أضفت إليها أشياء غير موجودة في الواقع لكي استكمل النقص الموجود في الحياة الطبيعة فارتفعت بالمرأة من الواقع إلى الرمز القوي المعبر عن مكونات عديدة ونواح إنسانية عميقة.
وبالإضافة إلى الوحدة يعاني الشخص من ذوي الإعاقة أيضاً – في إحدى فترات حياته – من الحيرة.. فلا يوجد يقين والرؤية ليست واضحة.. ولا ننسى أن عشرات السنين تفصلني بين إصابتي بالصمم والإبداع الأدبي في القصة القصيرة والمسرحية والرواية.. رغبت في الكتابة لكن كيف؟ والاتصال باللغة كان فوق الطاقة فما بالك بامتلاك ناصيتها والتمكن من جمالياتها؟
وجاء وقت شعرت خلاله أنني بدأت أنسى لغتي، داخلاً في نفق مظلم بلا أية معالم، أترنح فيه بحيرة كغريق في بحر هائج، باحثا بأظافري في الصخر عن شعاع خفيف من الضوء يهديني إلى الطريق… وقد عبرت عن هذه الحيرة التي تصيب الإنسان في وقت ما من حياته في مقطع بالرواية كالتالي: (وتراءى له في هذه اللحظات سحب الليل وهى تسير هائمة في ظلام الكون يدفعها الريح لكل اتجاه.. وبالريح تعود من جديد إلى المكان التي كانت فيه.. لكنها أبدا لا تتوقف ولا تجد شيئا تسند عليه رأسها ولا جسدها منهوك القوى.. مجرد دوران بلا معنى ولا أمل).
إنها حيرة عدمية مرتبطة بالوحدة والشعور العميق بالعجز.. ويكاد الخلاص منها يكون مستحيل.. وأيامها تمضى بطيئة متثاقلة لا تتحرك، ومع ذلك فإن على الشخص من ذوي الإعاقة إن يصبر.. وعليه أن يبحث عن مصادر قوته وهي في الغالب موجودة في نواحي ضعفه… المسألة ليست سهلة قد تستغرق سنوات وقد لا يجد أي مساعدة من حوله والصعوبة تكمن في وضع عالمنا الحالي وأوضاع مجتمعنا.. فالعالم مشغول بالتقدم التقني الآلي وليس الإنساني ومجتمعاتنا العربية مشغولة بالدفاع عن نفسها أكثر من انشغالها في عمليات البحث والمعرفة الإنسانية.. وقد يرد قائل: إن التقدم التقني سوف يساعد الأشخاص من ذوي الإعاقة.. وهذا صحيح.. ولكن بالنسبة لي فإنني اختار الصمم المستمر مع علاقات إنسانية حقيقية على جهاز متقدم يجعلني اسمع تفاهات مستمرة بدون أية علاقات إنسانية جيدة، لأن هذه العلاقات هي التي ستجعلني أسمع صوت الآخرين حتى لو كنت أصما.. سأسمعه في حنان وجوههم ودفء روحهم وجمال ابتسامتهم، وعندما اقترب من قلوبهم لن أجد فيها أية أشواك إنما سأسمع فيها نبضات قريبة من روحي وخفقات قلبي. وخلاصة الأمر:
إنك إذا كنت شخصاً من ذوي الإعاقة فإن القوة وعدم الاستسلام يصبحان قدرك.. وعليك أن تفسح المجال لوجهات النظر المتعددة.. فقد يكون هدفها الخير.. ولا تقل إنها سخيفة أو لا تصلح.. إنما عليك دراستها بتأن واضعاً نصب عينيك أن كل وجهة نظر تعبر عن شيء من زواية ما حسب الخبرات التي يكتسبها الإنسان في حياته وتبعا للبيئة التي يعيش فيها.. إن تسخيف موقف الآخرين واحتقار آرائهم يؤدي بنا إلى الغباء الإنساني لأننا سنخسر آراء تفيد عقولنا كما سيخسر مجتمعنا أفكاراً قد تصلح حالياً أو في زمن تال..
وإذا كنت شخصاً من ذوي الإعاقة ومبدعا فإن كل شيء الآن أصبح من شأنك.. مثلما هو شأن المبدعين الآخرين.. الفرق أنك ستحمل عدة أثقال فوق الإعاقة.. ستواجه الإهمال وعدم المبالاة في المجتمع بالإضافة إلى احتقار الآخرين لأفكارك.. كما ستواجه قضايا المجتمع والوطن.. لأنها أصبحت قضاياك الخاصة.. وسيتعجب الآخرون منك وسيقولون لك: لماذا تحمل كل هذه الهموم تناول طعامك واذهب إلى بيتك ونم..!! أي إن عليك أن تكون كالخرفان.. وسيتوقف ردك على مدى عمق الانتماء لوطنك ومجتمعك الإنساني.. وكلما زاد هذا العمق زادت قوتك في المواجهة.. ولا تنس أن عالم الخرفان عالم خال من الهموم.. مليء بالوداعة.. لكنه سيعرضنا جميعا للذبح.. كما أننا خلقنا أشخاصاً ذوي عقول.. وأودع الله فينا الضمير الإنساني.. لنكون إنسانيين، لا لكي نكون آلات طعام متحركة أو آلات نهب أو ألات حسية.
وعندما تبدع عملاً فنياً ابتعد عن المباشرة.. إن الأسئلة المباشرة والسخط على الأوضاع سيعتملان داخلك.. وعندما تبدع عليك أن توحي وأن تضع رموزا.. فالكتاب سخطوا على وضع فأضافوا أشخاصا لاستكمال النقص.. وهذه الشخصيات تمثل رموزا عن القوة والحماية والحنان.. إنه نقد غير مباشر لوضع يرفضونه… إن النقد المباشر يهدم العمل الفني ومكانه صفحات الصحف والتقارير..
وإذا كنت في بداية حياتك الفنية فيمكنك التقليد والاستعارة فترة من الوقت حتى تتمكن من أدواتك.. لكن لا تنشر ما قلدته أو استعرته.. فهو لإجراء تجارب واكتساب خبرة التشكيل وصياغة الأفكار.. كما أنه ملك الآخرين وليس ملكك، ولا تتطلع لأن تكون مثل كاتب معين أو فنان ما.. ينبغي أن تكون أنت نفسك.. بشخصيتك المستقلة وأفكارك الخاصة وخبراتك المكتسبة من معاناتك الشخصية.
سعيد رمضان على، إسكندرية، مصر
عمل في شمال سيناء، زار غزة عدة مرات ثم أقام فيها عدة سنوات وحاليا مقيم في الإسكندرية.
أصيب بالصمم في سن مبكرة، كان من أثره تركه الدراسة المنتظمة، فلم يستكمل تعليمه النظامي، لكنه استمر في الدراسات الحرة.
الأعمال والتكريم
- روح هائمة، رواية، دار نشر ميدلايت 1990، القاهرة.
- الأرض والنهر، مجموعة قصصية، دار نشر ميدلايت 1991، القاهرة.
- السينما المصرية والإعاقة، دراسة 2005، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- سيناء (الأهمية والمعنى) الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2008، القاهرة.
- رواية أمواج ورمال، دار نشر فكرة. 2009، القاهرة.
- مسرحية الانهيارات، دار نشر هفن، 2009، القاهرة.
- السمورة وأنا، سيرة روائية، دار الأدهم للنشر، 2013، القاهرة.
- مقالات نقدية في الأدب والسينما والفن التشكيلي الفلسطيني، نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، وعلى عدة مواقع مختلفة.
- كرم من الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر في مؤتمر الإسماعيلية الأدبي عام 1995.
- حصل على شهادات تقدير من المجلس الأعلى للشباب والرياضة بمصر في مركز إعداد القادة بالقاهرة عن أعماله في القصة القصيرة، والمسرح وذلك عامي 1995، 1996.
- كرمته الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية 2005 في ملتقى المنال عن دراسته (السينما المصرية والإعاقة)
- استضافه المؤتمر العلمي الأول حول قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة بالقاهرة عام 2009.
نقد ودراسات عنه
دراسة عن روايته روح هائمة للناقد محمد قطب نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي 1995.
دراسة عن مجموعته القصصية (الأرض والنهر) للناقد الدكتور محمد حسن عبد الله نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي عام 1995.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للدكتور نادر عبد الخالق بعنوان البناء والتخطيط في مسرحية الانهيارات نشرت في جريدة الزمان مايو، 2019.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للناقد العراقي صباح الأنباري بعنوان (الانهيارات من بداية السقوط حتى نهاية الهزيمة) نشرت على موقع الناقد على النت.
دراسة في مجموعته الصمت للناقد سيد الوكيل، نشرت في كتاب أبحاث المؤتمر العلمي الأول، هيئة قصور الثقافة 2009، القاهرة.
دراسة عن رواية أمواج ورمال للناقد حاتم عبد الهادي نشرت في نشرة مؤتمر اليوم الواحد بالشرقية.
مقالات نقدية عن بعض قصصه القصيرة للناقد سمير الفيل نشرت بموقع القصة العربية.