لن يكون كلامي في هذه الرحلة منصباً على ما يتبادر إلى ذهن قارئ العنوان، ألا وهو علاقة الإبداع بالإعاقة، أو الإعاقة بالإبداع، رغم أن كليهما موضوع هام وجدير بالتناول ولكنني سأعرض لفكرة أبعد وأكثر تعقيداً. فتراكم المنجزات عبر تاريخ البشرية فى مجال عالم الأشخاص من ذوي الإعاقة ولهفة المهتمين المحدثين إلى الجديد (في مجالات توظيف التكنولوجيا وحقوق الانسان وغيرها) ربما طغت على بحثنا فى تاريخ الأفكار وديناميات تخليقها ومن ثم قدرتنا على فهم ما يحدث وما هو كائن واستشراف المستقبل.
ومحاولتي المتواضعة هنا للبحث والتأمل إنما تستهدف جعل الغريب مألوفاً وغير المفهوم مفهوماً وغير المتناسق متناسقاً ـ وان كانت تلك أهداف لا تدرك فى حياة البشر، وإن كان عزائي ـ مرة أخرى ـ أن كثيراً من المناقشات المتخمة بالمعلومات دائماً وليدة سجال عقلي وعراك فكري ممتد على مدى حياة المرء عن مشكلات وموضوعات ظلت هي هي دون تغيير وظل الناس يقلبون النظر فيها بدوافع عديدة وتحت تأثير غريزة أبدية الوجود ونزعة طبيعية لتطوير الحياة.
فالناس يصنعون تاريخهم فى ظل ظروف ليست من اختيارهم هم، إنهم يفعلون ذلك تحت ضغط العلاقات والقوى التى توجه إراداتهم ورغباتهم.
ومن الأمثلة الواضحة على تلك الحالة الإنسانية، ما جرى من بدايات حركات المناضلين والعلماء والباحثين فى مجال الإعاقة. فقد كانت الصورة غائمة تماماً فى الواقع الفكري الاجتماعي فيما يخص تعريف الإعاقة على كافة المستويات وكذلك عن أسبابها، فبعض الشعوب والمجتمعات ظلت لقرون تنظر إلى الإعاقة على أنها (شذوذ أو انحراف أو نقص فى الطبيعة) إلى أن تطور ذلك إلى مفاهيم (الإعاقة والاختلاف وأخيراً مفهوم الأشخاص من ذوي الإعاقة).
ومن جهة (المسببات / الأسباب) تفشت الأفكار الأسطورية والذرائعية ومفهوم اللعنة والعقاب سواء للأهل أو الشخص نفسه إلى الابتلاء والنبذ وحتى وصلنا إلى مفاهيم (الأسباب البيولوجية والجينية والوراثية وحتى البيئية من قبل وبعد الولادة).
وما من شك أن الانتقالات المفاهيمية سابقة الذكر والمتداولة فى كل الأدبيات والدراسات الخاصة بعالم الإعاقة قد تطورت ونحتت عبر مسيرة طويلة من الأخذ والرد والعراك الفكري والنضال من أجل الحق في الحياة وحقوق الإنسان التي أقرتها الديانات وقاومتها العادات والمصالح وقسوة الحياة البدائية وطواحين الصراعات المادية الخالية من البعد الانساني والاجتماعي ولكن الأقدار دائماً تقيض للبشرية ـ فى كل مراحل تاريخها ـ رجالاً وعلماء يتسمون بالانصراف بكليتهم للبحث بعزم وإخلاص عن ومضات النور وسط دياجير ظلام الحياة اللاهثة، حتى تمنحهم الإرادة السماوية قفزات عقل حاسمة بعد طول معايشة لأفكار كبرى ملأت أذهانهم وأرواحهم.
ومن تراكم وتكامل تلك القفزات العقلية تغيرت بصورة كاملة وشاملة النظرة إلى الأشخاص من ذوي الإعاقة وصدرت بحقهم القوانين والدساتير وصنعت وبوبت الملاحظات والأنواع المختلفة للإعاقات، بل والاستثناءات بالتقسيمات الفرعية اللانهائية وكنتيجة ـ ودافع ـ لما سبق تم ابتكار حلول لاحصر لها للوقاية من الإعاقات (بناء على الحقائق في جانب السببية)، وللعلاج والتأهيل (تطبيقاً لتكنولوجيا متقدمة يومياً فى عالم ينطلق مادياً على الأقل)، فكان لتلك الجهود انعكاس على حياة المعاقين أفراداً وجماعات بل على المجتمع والبشرية ككل، فلولا تلك التغيرات الهائلة (الإبداع البشري التراكمي) لكان خليقاً بالدكتور طه حسين ألا يجاوز مكان القارىء فى المأتم والمقابر، والا يبرح روزفلت دار عائلته وألا تخرج هيلين كيلر من مؤسسة للايواء والمواساة.
ولكن ما حدث يعرفه الجميع، وإن غفلوا عن العوامل الموضوعية التاريخية التى سببته في تاريخ التطور الحضاري.
فنحن لا نرى أكثر مما رأه من سبقونا إلا لأننا نقف على أكتاف العمالقة التاريخيين.
أخصائى الأمراض النفسية والعصبية بمستشفى آل سليمان وشركة كهرباء مصر
طبيب جمعية ومركز التأهيل الشامل للمعاقين بمحافظة بورسعيد
مستشار إعاقات الطفولة لجمعية نور الرحمن
صاحب مدونة ( إطلالة على التوحد ),
كاتب ومؤلف بمجلة وكتاب المنال الصادر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية
كاتب بمجلة أكاديمية التربية الخاصة السعودية