ماذا تعني القصة القصيرة؟ من الواضح تماماً أنها تدل على قصة تمتاز بقصرها. لكن ما المقصود بمفردة (قصيرة)؟ هل هي القصة التي تبلغ عشر صفحات؟ عشرين صفحة؟ ستين صفحة؟ أو مائة صفحة؟ ما أقصى حد تتوقف عنده القصة القصيرة ومن ثم يبدأ بعدها الجنس الأدبي الموسوم الرواية القصيرة Novella. الواقع لا أحد يعرف ذلك أو على نحو أدق لايوجد اجماع على مثل هذا التحديد حيث أن الأمر يعتمد على القطعة الأدبية ونية الكاتب فضلاً عن رأي القارىء.
مع ذلك هناك بعض الصفات التي يمكن أن تميز القصة القصيرة:
- أولاً ـ يمكن قراءة القصة القصيرة في جلسة واحدة، ربما تكون جلسة طويلة، في بعض الأحيان، وهي ليست من نمط الأدب الذي نمضي فيه الوقت للتسلية فحسب ونحن نمضي في رحلة طويلة.
- ثانياً ـ تمتاز القصة القصيرة بتركيزها على نقطة محددة لكونها تستقطب أهتمام القراء للتركيز على جانب حياتي معين.
- ثالثاً ـ تهدف القصة القصيرة إلى التسلية أو أنها تقدم للقارىء درساً عن الحياة، وعادة ما يتحقق الهدفان في الوقت ذاته.
ولأن القصص القصيرة تكتب استناداً إلى تركيز محدد في الذهن فإنها تميل إلى استخدام أساليب خاصة. لكن لا توجد هناك ثمة قواعد تميز الأساليب المعتمدة في كتابة القصة القصيرة عن تلك المتبعة في كتابة الرواية لأن الأمر يعتمد على طبيعة القصة القصيرة.
لنسلط الضوء الآن على بعض أنماط القصة القصيرة:
القصص القصيرة التي تتحكم بها الحبكة
ارتبطت بواكير القصة القصيرة على نحو وثيق بـ (الحكايات الشعبية) أو (حكايات الجن) الأولى حيث لاقت جمهوراً واسعاً لكونها قصيرة ومسلية ومذهلة ووجدانية. بعد ذلك بدأت تلك القصص بالاتساع التدريجي لتشمل المغامرات والأساطير والقطع الأدبية الخاصة بالرحلات التي تتناول غالباً الأماكن البعيدة ذات الأسماء غير المالوفة. وقد (رويت) تلك الحكايات بضمير الشخص الثالث، أما شخصياتها فهي تماثل إلى حد ما تلك الشخصيات الموجودة في حكايات الجن، فهي ليست بتلك الشخصيات الممتعة بذاتها غير أن الكتاب يضعونها في أماكن معينة ويجعلونها تقوم بأحداث تمتع من يقرؤها وهذا يجعلها تعلق الأهمية على الحبكة plot وهي سلسلة الأحداث في القصة.
ومثال على هيمنة الحبكة على القصة يمكن قراءة قصة واشنطن أيرفنك Washington Irving الموسومة (أسطورة الغور الهادىء) The Legend of Sleepy Hollow وهي حكاية تدور حول معلم يقع في غرام فتاة محلية يطارده خارج المدينة فارس قاتل دون رأس! وكانت مثل تلك القصص بمثابة كوميديا المأزق(1) التي كان يعرضها التلفزيون في حينه.
القصص القصيرة الفنية
ينظر مؤلفون إلى القصة القصيرة باعتبارها شكلاً فنياً لايهدف إلى التسلية فحسب. في هذا الشأن يرى أدغار ألن بو Edgar Allan Poe (1809 – 1849) أن القصة القصيرة توفر فرصة فريدة لتركيز سائر عناصر الكتابة لخلق (انطباع واحد) لدى القارىء. وقد تمكن بو باستخدام هذا الأسلوب من استحداث قصة الرعب الحديثة بجهوده الفردية تقريباً. وقد دأب روائيون مثل ماري شيللي Mary Shelly في روايتها (فرانكنشتاين) Frankenstein، من قبل، على استخدام الرعب للترويج للأدب. غير أن بو عمد إلى تقليص الرعب القوطي(2) وجعله يقتصر على أساسياته فحسب من خلال تركيزه ضمن مساحة قصيرة لقصة واحدة حيث يعكف القارىء على قراءتها في جلسة واحدة. كما ابتدع بو منجم ذهب للكتاب من خلال استحداث (القصة الغامضة) mystery story، فقصتة القصيرة الموسومة (الرسالة المسروقة) Purloined Letter تهدف إلى انجاز شيء واحد من خلال تقديم لغز للقارىء ومن ثم يفلح بوليس سري في حله. وقد تحولت القصة الغامضة منذ زمن بعيد إلى الرواية الغامضة حيث راجت رواجاً كبيراً رغم أنها ما تزال تحمل بصمة بو.
القصص القصيرة الأخلاقية
لا توفر سائر القصص القصيرة المتعة لقرائها حيث أن البعض منها ينطوي على ما يماثل صفعة منشطة في الوجه ففي عام 1843 كتب تشارلز ديكنز Charles Dickens مثل هذه القصة بصيغة قصة أشباح تدور أثناء الاحتفال بعيد الميلاد في إنكلترا. ورغم أن عدد صفحات هذه القصة يصل إلى نحو 100 صفحة وهي بذلك تحمل ملامح الرواية القصيرة فإنها في الوقت ذاته تحقق متطلبات القصة القصيرة حيث يمكن قراءتها بجلسة واحدة وتركز على موضوع أساسي واحد هو (مصير أبينيزر سكروج في عيد الميلاد). وهذه القصة تطرح درساً أخلاقياً وتوفر المتعة في الوقت ذاته.
ترى هل ينسى من قرأ هذه القصة أو شاهد الشخصيات التي ابتدعها ديكنز في القصة؟ وهل ننسى الدرس الأخلاقي الذي تعلمه سكروج كثيراً؟ في مستهل القصة يبدو سكروج شخصاً تعيساً وبخيلاً تحدوه الرغبة بأن يتم حرق أي أحمق يتنقل من مكان إلى آخر وعلى شفتيه عبارة (عيد ميلاد بهيج…). أما في النهاية فيحصل تحول واضح:
أصبح سكروج صديقاً مقرباً ومعلماً قديراً ورجلاً فاضلاً مثلما تعرف المدينة القديمة الطيبة
أو أية مدينة أو بلدة أو قصبة قديمة طيبة في العالم القديم الطيب… وفد عرف عنه
تعاطيه المتميز مع عيد الميلاد. وكم أتمنى لوأن مثل ذلك قد قيل عنا جميعا بصدق!
إن الدرس الأخلاقي واضح تماماً في هذا المقطع ونادراً ما نقرأ درساً أخلاقياً يضاهيه قوة في نص قصصي آخر.
قصص المصيدة
تخصص بعض كتاب القصة بما يعرف بـ (قصة المصيدة) mousetrap وهي قصة تنتهي بانعطافة أو تطور غير متوقع إلى حد بعيد يكون مفاجئاً وملغزاً في الغالب. أضف إلى ذلك تتحكم الحبكة بهذا النمط القصصي، غير أن الكاتب يستخدم الحبكة لاجتذاب القارىء. وإذا قرأنا أو شاهدنا قصص رولد دال Roald Dahl فإننا سوف نتلمس ماذا يعني الوقوع في مثل هذه (المصيدة). والكاتبان البارزان لمثل هذا النمط من الفن القصصي هما ساكي (أج أج مونرو) Saki (H. H. Munro) في بريطانيا و أو هنري (دبليو أس بورتر) O’Henry (W.S. Porter) في الولايات المتحدة. ففي قصة ساكي الموسومة (النافذة المفتوحة) The Open Window نقرأ عن رجل يعاني من انهيار عصبي يرى على أثره أشباحا ومن ثم… (للأسف، لا يمكنني أخبارك). وفي قصة الكاتب أو هنري الموسومة (هدية المجوسى) The Gift of the Magi يعمد شابان متزوجان حديثاً إلى التضحية بما يحبانه حباً جماً ليقدما لشخص آخر هدية عيد ميلاد فاخرة وبعدها… (للأسف لا يمكنني أخبارك عن ذلك أيضاً!).
القصص القصيرة الحديثة
قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى أحدث كتّاب الحداثة ثورة قي مجال كتابة القصة القصيرة فقد اتجهوا لاستخدام أشكال جديدة وتجريبية كما تبنوا مواضيع مروعة. وبدلاً من تحكم الحبكة بمجرى القصة ووجود بداية ووسط ونهاية لها بدا النمط الجديد من القصة القصيرة يأخذ شكل (جانب من جوانب الحياة)، ولم يعد هناك ثمة فعل واضح أو طرح درس أخلاقي أو حصول تحول في نهايتها. وتقدم قصة أرنست هيمنغواي Ernest Hemingway الموسومة (تلال مثل فيلة بيضاء) Hills Like White Elephants مثالاً على مثل هذا التوجه فحدث القصة بأكمله يتمحور حول رجل وأمرأة ينتظران قطاراً ويتبادلان حديثاً مقتضباً جداً بحيث يحتاج القارىء إلى تركيز كبير ليتسنى له فهم ما يدور بينهما حيث تتبين للقارىء قصة حب وخيانة مثيرة للمشاعر. وقد غدا مثل هذا الأمر جانباً جوهرياً للحداثة قوامه السعي الحثيث لاجتذاب القراء إلى القصة من خلال تحفيزهم لتفسيرها، وهكذا أصبحت القصة القصيرة تمثل تحدياً للقراء من خلال التفكير المعمق وإعادة دراسة الأفكار والمعتقدات.
التعامل مع القصة القصيرة
يمكن على وجه العموم تطبيق أساليب التحليل الأدبي ذاتها التي تستخدم في النقد الروائي على القصة القصيرة. مع ذلك هناك طرق محددة ذات صلة بالقصة القصيرة لوحدها. في أدناها استعراض لتلك الأساليب وكيفية تطبيقها:
الحبكة
تشير الحبكة إلى الحدث الذي تشهده القصة وهي تدور حول صراع واحد أو أزمة واحدة. وهذا التركيز المحكم يجتذب اهتمام القارىء، لذا لا توجد فسحة للحبكات الفرعية sub-plots مثلما هو متعارف عليه في الفن الروائي. وتتحكم الحبكة بغالبية القصص القصيرة مثل (أسطورة التجويف الناعس) The Legend of the Sleepy Hollow و(هدية المجوسي) The Gift of the Magi. وتمتلك مثل هذه القصص بنية نموذجية:
- الاستهلال: ويقصد به التعريف بالشخصيات والصراع.
- التعقيد: يؤدي الحدث إلى خلق موقف معقد بشكل مضطرد يؤدي بدوره إلى تزايد التوتر.
- الذروة: هي أعلى نقطة نصل إليها حيث يبلغ الصراع أقصى مداه.
- الحل: يتم التوصل إلى حل ما حيث يعود التوتر إلى الوضع الطبيعي، وهذه هي البنية الدرامية ذاتها التي نواجهها في مسرحية ما أو فيلم وللسبب ذاته. ولابد أن تجري الأمور بسرعة في جلسة واحدة أو ضمن عدة ساعات في المسرح.
الشخصيات
تضم القصة القصيرة في العادة شخصية واحدة رئيسية أو شخصيتين رئيسيتين وعدد من الشخصيات الثانوية التي تتفاعل معها الشخصية الرئيسية. وتمر الشخصية الرئيسية (البطل) the protagonist ببعض التحول أما الشخصية الثانوية قتتسم بـ (الرتابة) و(ثنائية الأبعاد). وفي المسرح يتم إحياء هذه الشخصيات من جانب الممثلين الذين يجسدون نلك الشخصيات، أما في القصة القصيرة فإن هذه الشخصيات تمنح السمات البسيطة التي تحتاجها لتنفيذ مهمتها المحددة لها في الحبكة. وهذه بالطبع ليست مهمة سهلة حيث أن مثل هذا الأمر يحتاج إلى كاتب متمكن مثل تشارلز ديكنز لخلق عدد من الشخصيات التي تأسر اهتمام القارىء ضمن المساحة المحددة للقصة القصيرة. ومع انطلاق الحداثة Modernism اصبح خلق الشخصيات في القصة القصيرة أمراً مهماً حيث تعزز التوجه نحو تكثيف الكثير من المعنى في مساحة ضيقة.
البيئة
للقصة القصيرة عموما بيئة setting واحدة فحسب لذات السبب الذي تحتوي بموجبه القصة على شخصية رئيسية واحدة فحسب: التركيز والمساحة المتاحة. وعلى خلاف الرواية فإن بيئة القصة القصيرة ربما تكون أهم عنصر منفرد فيها، فعلى سبيل المثال تعمد فرجينيا وولف Virginia Woolf في قصتها الحديثة الموسومة (حدائق كيو) Kew Gardens إلى الاستغناء تماماً عن الحبكة والشخصيات الرئيسية حيث يتجسد الوسط الذي تجري فيه الأحداث في متنزه هو (حدائق كيو) في لندن والتي يتمشى فيها مجموعة من الأشخاص.
وجهة النظر
تكتب غالبية القصص القصيرة من وجهة نظر الشخصية كلية العلم omniscient أو الشخص الثالث (المخبر). ويعود سبب ذلك إلى أن المؤلف يجد نفسه قادراً على نقل كم كبير من المعلومات بسرعة إلى القارىء، وهو أمر (حتمي) في الأدب القصصي. وأحياناً يتم اللجوء إلى وجهة نظر الشخص المتكلم (أنا) توخياً لإحداث تأثير كبير مثلما يتضح في قصة بو القصيرة الموسومة (القلب النمام) The Tell-Tale Heart التي تبدا بالكلمات الآتية:
حقا! عصبي… لقد كنت عصبياً إلى حد لا يوصف وما أزال كذلك.
لكن لماذا تقول بأنني مجنون؟
هنا نلاحظ نقل كم هائل من المعلومات في مساحة محدودة للغاية.
الموضوع
الموضوع يدل غلى فكرة أو مجموعة من الأفكار تدور حولها قصة ما. وعلى خلاف الرواية تتمحور القصة القصيرة على وجه العموم حول موضوع واحد مثلما هو حال القصيدة الشعرية. وإذا كان هدف القصة القصيرة الرئيسي هو المتعة مثل (قصة المصيدة) فإن الموضوع عندئذ ربما يكون ذا أهمية ثانوية فحسب. على أن غالبية القصص القصيرة لا ترمي إلى إشاعة المتعة فحسب فهي تسعى إلى تسليط الضوء على بعض أكثر المسائل أهمية ذات الصلة بالوجود الإنساني. وحين نقرأ قصة قصيرة يتعين علينا أن نسأل أنفسنا عن نية المؤلف من وراء كتابتها إذ لابد من وجود سبب معين: (ماذا تريد تلك القصص أن تخبرنا؟)
إذا تمكنت من التوصل إلى إجابة لمثل هذا السؤال فإنك سوف تتوصل إلى الموضوع وفق تفسيرك الخاص له.
الهوامش:
- مسرحية هزلية تكثر فيها المواقف الحرجة المضحكة. (المترجم)
- ضرب من الرواية يتميز بأجواء الرعب والغموض. (المترجم)
المصدر:
https://trackssf.cappelendamm.no/ento/tekst.html?tid=2006478
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.