اثنان من أكثر الشخصيات موهبة في السينما الإسبانية المعاصرة ـ الممثل خافيير بارديم والمخرج أليخاندرو أمينابار ـ يتعاونان في هذه الدراما القوية المبنية على قصة حقيقية جسداها في فيلم Mar adentro بالإسبانية و The sea inside بالانجليزية، أو البحر داخله بالعربية، وهو فيلم دراما تم إنتاجه فى فرنسا وإيطاليا، صدر سنة 2004، بتكلفة إنتاج بلغت حوالي عشرة ملايين يورو بينما حقق أرباحاً تجازت الـ 38 مليون دولار، الفيلم أيضاً من سيناريو وإنتاج آليخاندرو أمينابارو الذي نال عليه سنة 2005 جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية من واقع حياة شاب إسباني هو رامون سامبيدرو (شاعر وميكانيكي سفن) تعرض لحادث مؤسف أثناء ممارسته رياضة الغوص نجم عنه إصابته بالشلل الرباعي اضطر بسببه لخوض حملة توج بها معاناته لثلاثين سنة مضت من أجل حقه فى الموت الرحيم والتخلص من حياته التي يعيشها. مع العلم أن أسرته كانت تقوم بمساعدته فى كل شيء، فبعد وفاة والدته التي ظلت ترعاه وتلبي طلباته لمدة 28 عاماً، تولت زوجة شقيقه المسؤولية من بعدها بمساعدة شقيقه المزارع وابنهما الفتى المراهق، إلا أن رامون يصر على رفع قضية أمام المحاكم للحصول على حقه في الموت الرحيم والتخلص من حياته التي ليس لها أي معنى في نظره، فهو لا يستطيع حتى قضاء حاجته.
(عندما لا تستطيع الهروب وتعتمد على الآخرين، تتعلم البكاء من خلال الابتسام) هكذا يقول رامون سامبيدرو، الذي بقي ممدداً على السرير نفسه في الغرفة ذاتها منذ تعرضه للحادث وإصابته بالشلل الرباعي في حادث غوص عندما كان شاباً، دون احتساب الرحلات إلى المستشفى… لديه موسيقاه، الراديو والتلفزيون، زواره، ونافذة كبيرة يطل منها على الدنيا. بإمكانه التحكم بالكمبيوتر والكتابة باستخدام قلم يحمله في فمه، وعائلته التي تحبه تعتني به، ويحصل على دعم مالي من الحكومة.
في مطلع الفيلم ومع بدايته يطالب رامون بالحق في الموت ويقول: (الحياة في هذه الحالة ليس لها كرامة). لقد ملّ من فراشه وقيوده وحياته، ويدافع عن وجهة نظره بقناعة كبيرة مدعوماً بابتسامته، فهو لا يرى لحياته أي معنى، وفي الوقت ذاته غير قادر على إنهاء حياته بنفسه لأنه عاجز عن ممارسة أي نشاط حركي من أي نوع، وهنا يفكر في رفع قضية يطالب فيها بحقه في الموت الرحيم، رافعاً شعار الحياة حق وليست واجباً، ولكن القانون الإسباني الرافض للموت الرحيم يرفض قبول دعوته، ومع وجود أشخاص محبين له داعمين لرغبته يصر على تحقيقها.
في حياة رامون امرأتان تلعبان دورين متناقضين: الأولى محامية تقوم بالدفاع عن قضيته (الموت الرحيم) والأخرى امرأة قريبة من قريته تساعده على الخروج من هذه الحالة وتذكي في داخله حب العيش.
المحامية جوليا (بيلين رويدا) التي لديها أسباب خاصة بها لدعم قضيته، وروزا (لولا دوينياس) أم عزباء تقع في حب رامون وتريد إقناعه بالتمسك بالحياة.
يعارض شقيقه خوسيه بشدة فكرة الانتحار بمساعدة، كما أن القوانين الإسبانية تعاقب أي شخص يتورط في مساعدة أي شخص على إنهاء حياته الخاصة، وهو أمر لا يريد رامون توريط أحد به، فيلجأ إلى صديقته جوليا (بيلين رويدا) التي تعمل مع منظمة الحق في الموت، وهي محامية يتوقع منها رامون أن تساعده في إقناع المحاكم للسماح له بإنهاء حياته. تتعامل جوليا مع قضايا الوفيات الخاصة بها منذ تشخيصها بمرض تنكسي (بالإنجليزية Degenerative disease هو داء تتدهور فيه وظيفة أو بنيان الأنسجة أو الأعضاء التي تُصاب به بمرور الوقت بسبب التقدم في العمر أو بسبب العادات المرتبطة بنمط الحياة)، ويأمل رامون أن تجعل حالتها المرضية حججه وبراهينه أكثر إقناعاً للمحكمة.
وبينما يعمل رامون وجوليا معاً في قضيته ويتساعدان في إعداد كتاب من قصائده للنشر، يجد رامون نفسه يقع في حب محاميته التي تصادف أنها متزوجة، ولكن افتتانه بها يعطي جوليا أفكاراً ثانية حول القضية، فرامون لا يزال مقتنعا بأن أعظم هدية له ستكون نهاية حياته.
رامون لا يسعى ليكون مناضلاً، أو مثالاً لكل من هو بمثل حالته، هو فقط يدافع عن حقه هو في رفض حياة مماثلة يظل فيها دوماً حبيس جسد ينتظر من الآخرين تحريكه، يسعى لتحرير روحه لتطير كما يطير في خياله متحرراً من جسد يسجنه بداخله.
ينجح رامون في إنهاء حياته، بعد التخطيط لموته بطريقة بارعة إلى درجة أنه حتى لو تم اكتشاف جميع التفاصيل، فلا يمكن اتهام أي شخص قانونياً بمسؤوليته عن هذه الجريمة.
ملصق الفيلم الإسباني
فنياَ
أداء خافيير بارديم الجيد حصل عليه على جائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي لعام 2004، إلا أنه لا يمكن أن يقدم الكثير من التعويض عن المستوى الاجمالي المتواضع للفيلم القائم على خيال الأشهر الأخيرة من حياة بطله الذي يصر المخرج أنهما لا يعتقدان أن كل شخص في وضع رامون يجب أن يموت… إنها ببساطة قصة رجل واحد.
القسم الوحيد الذي يقترب فيه الفيلم من معالجة الإشكالية التي يطرحها هو مشهد يقوم فيه رجل دين يعاني هو أيضاً من شلل رباعي بزيارة رامون ويندد بغضب بما يراه منه على أنه غير قادر يحاول بتواضع أن يحيط بفكرة الموت بكرامة – فإذا أراد انتحر، لماذا لا يقول ذلك فقط.
ومن المناسب في هذا المجال الإشارة إلى إجماع علماء المسلمين على أنه لا يجوز لأحد أن يقتل نفسه، ولا أن يقتل غيره بغير سبب شرعي، وقتل النفس محرماً شرعاً لقوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً) (سورة الفرقان ـ الآية 68) وإن الصبر على الآلام التي تصيب الإنسان واجب عليه، ومتى طلب إنهاء حياته فهو كالمنتحر يشترك مع الطبيب في الإثم، حتى أن القوانين الوضعية في الدول التي تحكم بها فإن قتل الشفقة يعتبر فعلاً محرماً ولم تأذن بأن يجريه الطبيب سواء بطلب المريض أو ذويه.
كما أن هناك من الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يرون أن النهاية المؤسفة التي وصل إليها الفيلم ليست بسبب الآلام الناجمة عن الإعاقة… فهم لا يفعلون ذلك لأنهم يعانون من الألم، إنهم يفعلون ذلك لأن المجتمع ليس لديه مكان للأشخاص ذوي الاعاقة ولابد أن تنصب الجهود على معالجة هذه المشكلة الاجتماعية الصعبة بدل مفاقمتها.
مدفن رامون سامبيدرو
في الواقع
توفي رامون سامبيدرو (الحقيقي) يوم الاثنين 12 يناير 1998 في بويرو بإسبانيا، مسموماً بسيانيد البوتاسيوم. وبعد عدة أيام تم القبض على صديقته المقربة التي وجه لها الاتهام بمساعدته على الانتحار، ولكن تم الإفراج عنها لعدم كفاية الأدلة. ولم توجه لها أي تهم أخرى على الإطلاق فيما يتعلق بوفاة سامبيدرو، وكان الأخير قد قسم العناصر المطلوبة لإكمال انتحاره إلى مهام فردية، كل منها صغير بما يكفي بحيث لا يمكن إدانة أي شخص بمساعدته في عملية الانتحار بالكامل.
بعد سبع سنوات، وبعد انتهاء فترة التقادم، اعترفت صديقته أثناء حديثها في برنامج حواري إسباني بتزويد سامبيدرو بسم سيانيد البوتاسيوم وقشة، وقالت: (لقد فعلت ذلك من أجل الحب)، وأضافت أنها شغلت كاميرا الفيديو التي سجلت كلمات سامبيدرو الأخيرة قبل أن يتناول السم وأنها كانت موجودة في الغرفة خلف الكاميرا.
ترك سامبيدرو رسالة مفتوحة للقضاة والمجتمع وتسبب في اضطراب أخلاقي في المجتمع الإسباني أدى إلى إنشاء لجنة في مجلس الشيوخ حول القتل الرحيم في عام 1999.