في المستشفى وضعت الدنيا كلها في قلب امرأة وضربت الصاعقة كل كيانها والطبيب يتحدّث عن أن الإهمال في التطعيم أدّى إلى الشلل في القدمين
أكبر تشجيع تلقيته لتدشين الشبكة العربية لذوي الاحتياجات الخاصة كان من شخصية خليجية حكيمة هي الشيخة جميلة القاسمي التي قالت لي يومها: «المحاولة أفضل من التفكير»
لأول مرة تستقر هذه الابتسامة على شفتيها وتنشر البشاشة في ربوع وجهها الممتلىء، وبين يديها وليدها البكر الذي رأت عيناه الحياة منذ ساعات قليلة تقربه من حضنها في خفُة الهاربة من سكرات «البنج» (المخدر) إلى آفاق السعادة، ثم مدت بصرها باتجاه الأيام لتمدّ شعاع الأمل المستطيل إلى حيث لا ترى العين ويرى قلب هذا الطائر الجامح المنفلت من محيطات الممكن؟ واستطالت نظراتها إلى ما يفوق الأيام ويعي طاقة الأحلام لا يوقفها عن هذا الاستغراق إلا تذكرها لذلك الحلم المحير.
منذ حملت به وهذا الحلم لا يفارقها، طائر أبيض يسابق الطيور في أعالي السماء، إذا بجبل يطاول السحاب ويلاحق النسر القوي فيثقبها وينزل الدم منه، ولكن الطائر الجريح يستمر في الطيران ويسابق الجميع، وهي حائرة بين الإعجاب به والشفقة عليه وتقوم من نومها لا تشعر بشيء محدد.
إلى اليوم لم يكن ثمّة ما يربط بين طائرها وحملها، ولكن السؤال بدأ يشاغب ذهنها حتى هذه الساعة، لماذا أعاد الطائر الحيرة إلى خاطرها في أسعد لحظات حياتها.
وتركن السؤال مهملاً، وتستمر في فرحتها لا تكف عن شكر الله والثناء عليه بما هو أهله، ومضت الأيام لا تقصر المسافة إلى منتهى الحلم فكلما كبر الصغير امتدت المساحة في رحاب الآتي حتى لا تستطيع الوصول إلى منتهاه.
على أن الأيام تعد شيئآ آخر لهذه الحالمة الحائرة ويمضي شهر في أثر شهر والسعادة لها فنونها بين أحضان هذه الأم، حتى تلك التي حلق بها الطائر داخل حجرتها وهي تبكي عليه بكاء حارآ، حتى أيقظت زوجها قطرات سقطت على وجهه من دموعها.
استيقظت الأم، فبسطت يديها في حركة أصبحت لا شعورية باتجاه وليدها فلم تقع منه إلا على رجلين متيبستين، أنكرتهما ولم تصدق أنها عثرت على طفل إلا بعدما قام زوجها متعجباً من هذه الباحثة عن شيء بين يديها، كان الذهول أكبر من أن يوصف كأن المصيبة عقلت قوى العقل أن يفكر فيما تراه العين.
وفي المستشفى وضعت الدنيا كلها في قلب امرأة وضربت الصاعقة كل كيانها والطبيب يتحدّث عن أن الإهمال في التطعيم أدّى إلى الشلل في القدمين.
كل شيء يبكي أمام عينيها، الدنيا نواح وعويل، والأيام تتراءى أشباحاّ مخيفة والأشياء تتلاشى، هذا السراب الذي يتخيله الناس حياة لم يكن يبدو لها منه إلا النسر الجريح، كان الحلم محدثها البليغ في هذا اليوم، بل كان هو وحده الذي يتكلّم في فضاء ضميرها، وكأنما كان جرح النسر هو قدم طفلها، إلا أن نشاطه لم يكن يتراءى لها شيئآ محددآ وإن كان أكثر ظهورآ مما تراه عينها لكنها لا تستطيع أن تحدده بملامح واضحة.
هكذا استمرت الأم في أملها أن يكون نشاط طائرها هو الشفاء العاجل السريع لطفلها، وانتقلت الأسرة إلى مصر تلتمس العلاج في الخارج، راضية بمعاناة الغربة غير آبهة إلا أن ترى هذا الطفل يسترد حظه في الحياة والحركة ومناكفة الأشياء.
في مصر.. الحياة مختلفة، الحركة دائبة، وكل شيء يجري أمامك وكأنما الناس في عجلة من حياتهم، حتى يبدو لك الأشخاص صورآ متناثرة على لوحة تتزاحم فيها المعاني وتتنازعها أفكار الفنان.
وكانت نزهة الأسرة وفرحة الوليد في التنقل بسيارة خاصة في شوارع القاهرة حتى تصل إلى ريفها العامر، فترى الأفراح في كل مكان كانوا في ذلك الوقت يعيشون نشوة النصر عام 1973 وفرحة العبور والأغاني تملأ الشوارع، والمصريون يتقابلون باشين مزهوين يتحدثون بأصوات مرتفعة معتزة، ويتلون حكايات الجنود الأبطال في معركة الكرامة كرامة الأمة العربية كلها.
هكذا في مصر تجسّد للأم إحساسها الأكبر، وشعرت أن الحياة تستفز الإنسان ليدخل إلى صراعها بكل طاقته، ومن هنا أمسى الخوف من الغد يتعاظم داخلها لكنها لم تفقد الأمل.
وتمضي الأيام والأشهر تلو الأشهر والسنة بعدها سنة، حتى بدأت أعي الحياة وأحاول أن أدخل مثل غيري فيها وأتمتع بها، وكأن ما حولي من صخب وضجيج المنتصرين أغراني بان أقذف بنفسي وسطهم وأعبّ من الحياة ومتعتها ما أشاء، ولم أشعر وقتذاك أنني لا أقف مثل غيري هؤلاء الصغار على قدمي، كنت استغرق الوقت كله في ألعاب هادئة لا تحتاج إلى الحركة، في حديقة منزلي أبني بيوتاَ من طين وأهدمها، وأرسم عرائس من طين حتى إذا جفت حطمتها، وأرسم جداول أضع فيها الماء يجري أمام عيني مثل نيل مصر، فلم تزل هذه الصور تتراءى أمام عيني، كأن جريان الماء يعلمني أن الحياة تمضي، وأن كل فرح وحزن يمر، أهم شيء هو الإنسان، أهم شيء أن أبقى كما أنا لا تؤثر فيّ أحداث الليل والنهار، فقد تعلمت من صورة هؤلاء المصريين الصبر وقوة التحمّل وألا أنوء بأثقال الأيام، وأتعلم من جريان النهر أن كل شيء يمضي.
ومضت سنوات أربع والحالة كما هي، وأمل الأم كما هو لم يتراجع، وعدنا إلى الوطن.. لقد رأيت الفرحة في عيني أمي، كانت تنظر من نافذة الطائرة بلهفة شديدة وتشير بإصبعها من أعلى وكأن ثمّة ما تريد أن تجذبه إليها من الأرض إلى حيث هي، من نافذة السيارة كانت تعانق بعينيها كل شيء، واستقبلت أخواتها وصديقاتها بلهفة شديدة، وشعرت وقتها أن الحياة مقبلة علي وأن هذه الآلام ترميني في أحضان صديق جديد يملأ علي حياتي، إنه الحب، الوطن، وحب الناس، وحب الحياة.
ويمضي بي في الوطن عامين حتى حانت رحلة أخرى، عندما أعلن الرحيل هذه المرة شعرت بالحزن الشديد، شعرت وقتها بقسوة ما أنا فيه وبما يفرضه عليّ سلك دروب في الحياة لا أختارها، ومن فراق حبيب لا أحب فراقه، واتجهت بنا طائرة الأمــــل هــذه المــرة إلى فيينـــا، فيا طول الرحلة! إن هذا البلد بعيد حقآ وليس كمصر بتاتآ.
منذ هبطت الطائرة في مطار فيينا وفي رحلة السيارة من المطار إلى الفندق أرى أشياء مختلفة لم أرها في بلدي ولا في مصر، الملابس مختلفة، الوجوه مختلفة، حتى نظرات العيون مختلفة، كل يمضي وحده، لا ترى إلا أشخاصآ يسيرون كل في اتجاهه لا يلتفتون يمنة ولا يسرة ولا أحد يحيي أحد فلا يداعب ولا يشاغب، وكأنه لا توجد لغة ولا ألسنة، شعرت حينذاك بالغربة الشديدة، وضاعف منها أن سمعت أول شخص يتحدث، إنها لغة مختلفة تمامآ، لغة لا أفهمها، إذن لديهم ألسنة لكنها غير ألسنتنا.
لكنني أفدت من هذه الرحلة التي استمرت عامين كثيرآ، هؤلاء الأجانب علموني أن الحياة لا تتوقف عندما نتوقف نحن عن التفكير في مآسيها، بل إنها تمضي ونحن ساكنون كانوا يعالجون الإنسان من كل آلامه بالحركة بالعمل بالنشاط.. الحزن والخوف والقلق وكل شيء لا يمكن أن يسكن في قلب إنسان يتحرك.. يعمل.. ينتج.. ينجز، هكذا رأيتهم، هكذا عشت هذين العامين.
وبعد عامين تقررّت العودة، هذه العودة كانت مختلفة عن سابقتها، كنت قد عرفت الحب والحنين والشوق بعد ما قاسيت غريب الوجه واليد واللسان فعرفت كيف كانت تفكر أمي في العودة السابقة عندما عشت التجربة بنفسي.
أمضيت عامين في ذلك البلد الأوروبي، برودة في الجو وبرودة في المشاعر، ومع ذلك عمل دائب وحركة لا تتوقف.. وكانت العودة للوطن هذه المرة هي القرار النهائي للتوقف عن محاولات انتهت إلى التسليم والمضي في الحياة بما وهب الله لها، بلغت الآن التاسعة من عمري وما بقي إلا أن أفكر في بناء مستقبلي وبدء مشوار الدراسة والتعلّم.
التحقت بالمدرسة أكبر من أقراني، كنت فرحآ لأنني شعرت أن هذه لحظة البداية بعد تسع سنوات أبحث فيها عن قدم دون جدوى، الآن سأعيش كما يعيش أقراني وأصاحبهم وألعب لعبهم وأفكر تفكيرهم وأمضي إلى ما يمضون إليه من بناء للعقل وأمل في الغد، ولم أشعر للحظة واحدة أني أقل منهم أو أن قلة حركتي تحرمني متعة الحياة، بل إن أسفاري ورحلاتي الطويلة كانت تجعلني اشعر بالتميز عنهم، كانت خبرتي أكبر ومعارفي أكثر، أفقي أوسع، بل كنت أرى في نفسي تفوقآ عن أقراني من ذوي الاحتياجات الخاصة لأنني تعلمت ما لم يتعلموه من الاعتماد على النفس ومعالجة الأيام بثقة أكبر، فمن يعيش في رحاب هذا الوطن يجد العون والتفهم في كل من حوله فربما عوضت ذلك المطالبة وانتظار المساعدة من الغير.
ومضت الحياة بالطفل الصغير أكبر هناءة ومرحآ واستطاعت براعم الفرح في قلبي وانطلقت في رحلة التعليم لا أفكر إلا في الغد السعيد واستمريت كذلك حتى وصلت الصف السادس.
في سن الخامسة عشرة وبعدما كنت نسيت معاناة العلاج وقلق العمليات الجراحية تفاجأت الأسرة بتراجع كبير ليس فيما يتعلق بقدمي وإنما في صحتي العامة، فقد تسبب الإهمال في بداية إصابتي بمضاعفة حالتي في هذه السن، وكانت الرحلة هذه المرة، إلى بريطانيا ولا أستطيع أن أتحدث عن أيامي في ذلك البلد، كانت كلها بين إجراء عملية وانتظار أخرى، وكانت حالتي تزداد من سيء إلى أسوأ حتى وصل الأمر إلى الشلل الرباعي، وكانت هذه هي النكبة الكبرى في حياتي، وصدمة كبيرة عندما رأيتني لا أستطيع أن أخدم نفسي بعد كل ما تعلمته واكتسبته من رحلاتي وأسفاري، حمدت الله وأيقنت أنني سأخرج من هذه الأزمة أفضل مما دخلتها، وبالفعل عدت إلى وطني وانتهت الازمة.
بعد هذه العودة أقبلت على الناس وأخذت أتعرف على كل من يتاح لي التعرف عليه وكونت أصدقاء لا حصر لهم.
تعرفت على ذوي الاحتياجات الخاصة، وشعرت أن الحياة معهم أفضل وسنتعاون معآ للتغلب على تحدي الإعاقة، واخترت مجال الرياضة لأن الرياضة هي أبلغ لغة للتحدي خاصة ألعاب القوى وتعرفت على العمل الجماعي ومتعته وفوائده وتعلمت أن أعمل وأحفز من حولي على العمل.
واظبت على التمارين الرياضية، وأخذ مستواي يرتفع وأسجل نجاحات عديدة مثلت قطر كلاعب في التنس الأرضي في بطولة العالم عام 1993.
وفي عام 1997 كانت بطولة الرماية تحت رعاية سمو الشيخ جاسم بن حمد بن خليفة آل ثاني نجاحآ كبيرآ لي وخطوة مهمة في مشوار تحقيق الذات وحصلت على ميداليتين في المسدس والبندقية.
أما الإنجاز الأكبر في حياتي فقد بدأ في عام 1996 عندما قابلت سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظه الله ضمن مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
كانت مقابلة سموه أهم نقلة في حياتي تعرفت عليه وناقشته وتحدثت معه عن توظيف ذوي الاحتياجات الخاصة، فكان وافر الكرم معي إلى أبعد حد يتخيله إنسان، فسمع مني حانيآ رقيق القلب، ورأيت شعور الأب الحريص على توفير الحياة الكريمة لأبنائه ورأيت لديه حماسآ كبيرآ لدعمنا لنكون معتمدين على أنفسنا لا على غيرنا.
لقد أعطتني هذه المقابلة مع سمو الامير طاقة جبارة لخدمة هذه الوطن وبذل كل ما لدي لاسعاد الجميع من حولي، وتولدت لدي فكرة إنشاء منتدى التواصل لذوي الاحتياجات الخاصة وخدمتهم وحل مشاكلهم.
وأخذت أفكر في كيفية تنفيذ هذه الفكرة ثلاثة أعوام، وفي عام 1999 بدأ العزم بالخروج إلى النور وتدشين موقع على الانترنت لهذا المنتدى، كانت الفكرة في البداية غريبة لأن معرفة الانترنت كانت وقتذاك محدودة والتعامل معه لم يكن قد انتشر في قطر بالقدر الكافي، ولهذا قوبلت الفكرة بسخرية شديدة آلمتني كثيرآ، حتى كان اللقاء مع شخصية خليجية حكيمة هي الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الانسانية، وقالت لي يومها كلمة معبرة: «المحاولة أفضل من التفكير».
دشن الموقع في ذلك العالم واستمر نجاحه حتى أصبح شبكة ذوي الاحتياجات الخاصة في قطر والخليج كله وسائر دول العالم، تعرفنا معآ وأصبحنا نتقارب ويبث كل منا همه ونحاول علاج المشكلات لكل صاحب مشكلة ونقدم النصح والأمل الذي لا غنى عنه لحياة الفرد من ذوي الاحتياجات الخاصة، بل أصبحنا أصدقاء لا توجد بيننا حدود فنتلاقى في المؤتمرات الدولية كأعضاء في الشبكة ويزيد بيننا التعاون والتقارب، حتى أصبحنا طاقة جبارة لحل مشكلات ذوي الاحتياجات الخاصة وكم مارسنا الضغوط على كل من نرى فيه إهمالاً أو تقصيراً في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة ومشاكلهم.
بعد هذا المشوار الطويل.. لا أدري لماذا سألت أمي ذات مساء عن قصة النسر الجريح.
* ملاحظة: هذه القصة طبعت على نفقة المجلس الأعلى للاسرة بدولة قطر وتوجد لديهم نسخ منها وهذه بادرة رائعة من المجلس أنه يوثق تجارب أبنائه من ذوي الاحتياجات الخاصة وهي توزع بالمجان ويمكن طلبها عن طريق الرابط الخاص بالمجلس الأعلى الاسرة:
www.scfa.gov.qa