لماذا التفكير النقدي
التفكير صفة لصيقة ببني البشر وهو جزء من طبيعتنا العامة. غير أن الكثير من تفكيرنا يتسم بالتحيز والتحريف والجزئية والمحدودية أو الاصطفاف التام مع جهة ما. مع ذلك نلاحظ أن ما يميز حياتنا وما نقوم بإنتاجه أو عمله أو وضع أسسه يعتمد كثيراً على نمط تفكيرنا. من هنا نرى أن التفكير غير السليم يكلف صاحبه الكثير سواء تعلق الأمر بالمال أو نوعية الحياة. وعليه لابد أن نهتم كثيراً وبشكل منتظم بالتفكير النقدي.
تعريف التفكير النقدي
التفكير النقدي هو ذلك النمط من التفكير الذي يتعاطى مع أي موضوع أو محتوى أو مشكلة ما حيث يقوم الشخص المفكر بتطوير نوعية تفكيره من خلال التحليل والتقويم وإعادة التنظيم ببراعة. ومن سمات التفكير النقدي الأخرى التوجيه الذاتي والانضباط الذاتي والمراقبة الذاتية والتصحيح الذاتي. وهو يفترض مقدما القبول بمعايير الجودة الصارمة والتحكم الواعي باستخدامها، كما أنه يقتضي قدرات التواصل الفعال وحل المشاكل فضلا عن الالتزام بالتغلب على الأنانية أو التطرف في طرح الآراء.
تحليل التفكير
يهدف مثل هذا التحليل إلى تحديد هدف التفكير وطرح التساؤلات ذات الصلة بالقضية المعينة إضافة إلى المعلومات والاستنتاجات والافتراضات والمضامين والمفاهيم الرئيسية ووجهات النظر.
تقييم التفكير
لابد من تدقيق التفكير من حيث الوضوح والدقة والصلة بالموضوع والعمق والشمولية والأهمية والمنطق والسلاسة.
النتيجة
يقوم المفكر النقدي المتمكن بالآتي:
- يطرح أسئلة ومشاكل مهمة وبشكل واضح ودقيق.
- يجمع المعلومات ذات الصلة ويقوم بتقويمها مستخدماً الأفكار المجردة سعياً وراء تفسيرها بشكل فعال.
- يتوصل إلى استنتاجات وحلول عقلانية تماماً ومن ثم يقوم باختبارها وفق المعايير المناسبة.
- يفكر بعقلية منفتحة ضمن إطار أنظمة التفكير البديلة ومن ثم يعمل على تمييز افتراضاتها ومضامينها ونتائجها العملية وتقييمها حيثما اقتضت الضرورة.
- يتواصل بفاعلية مع الآخرين بهدف إيجاد الحلول للمسائل المعقدة.
التفكير النقدي: أصل الكلمة وتعريفها القاموسي
ترجع جذور مفهوم التفكير النقدي إلى الحضارة اليونانية القديمة، فمفردة (نقدي) critical مشتقة من جذرين يونانيين هما kriticos وتعني (يميز الحكم أو القرار) وkriterion وتعني (المعايير)، لذا فإن أصل هذه الكلمة وتاريخها يتضمن تطوير (تمييز الأحكام المستندة إلى معايير معينة). ويورد قاموس ويبستر Webster’s New World Dictionary معنى العبارة بالآتي: (التمييز بالتحليل والحكم الدقيق)، ثم يشير إلى أن مفردة critical (بمعناها الدقيق جداً تتضمن السعي للتوصل إلى أحكام موضوعية بهدف تحديد حسنات الشيء وسيئاته). تأسيساً على ذلك يمكن تعريف التفكير النقدي على أنه ذلك التفكير الذي يهدف بكل وضوح للتوصل إلى الأحكام الراسخة استعانة بالمعايير التقييمية المناسبة لبلوغ استحقاق الشيء وميزته وقيمته الحقيقية.
إن البحوث التي أجريت حول التفكير النقدي تشير إلى أن التفكير الإنساني إذا ما ترك لحاله فإنه ينجذب نحو التحيز والمبالغة في التعميم والمغالطات المألوفة وخداع الذات والتصلب وضيق النظر. ويسلك التفكير النقدي سبلاً تهدف إلى فهم العقل ومن ثم تدريب الفكر بحيث يتم تقليص (الأخطاء) و(الأخطاء الفاضحة) و(التحريفات) ذات الصلة بالفكر إلى الحد الأدنى. ويفترض أن قدرة البشر على التفكير السليم يمكن رعايتها وتطويرها من خلال عملية تعليمية مخطط لها بعناية لتحقيق مثل هذا الهدف.
وتاريخ التفكير النقدي يوثق تطو ر هذا الفهم العميق في ميادين معرفية مختلفة وكذلك مواقف اجتماعية متباينة. وقد تم تخليد مختلف جوانب التفكير النقدي في الحوارات والجدل الفكري طيلة 2400 سنة من التاريخ الفكري. وهذا التاريخ يميز بين توجهين فكريين متعارضين أولهما توجه يميز الغالبية العظمى من حيث قبول أية فكرة ينظر إليها باعتبارها حقيقة أبدية دون أي نقد أو تمحيص، وثانيهما توجه القلة القليلة (التي يفكر أفراده نقدياً) إزاء طرح التساؤلات بشكل منتظم حول ما يمكن قبوله على نحو عادي ووضع معايير فكرية تأملية أكثر عمقاً ووضوحاً لبلورة أحكام تخص الأمور ذات المعنى وخلافها والتي يتم قبولها باعتبارها حقائق.
إن مفهوم التفكير النقدي بسيط في جوهره لأنه يولي في الأساس اهتماماً خاصاً بالعقل. وقيمة مثل هذا التفكير أمر بسيط أيضاً فإذا كان بمقدورنا الاهتمام بعقولنا فإن ذلك يعني بالضرورة اهتمامنا بحياتنا من خلال تحسينها والتحكم فيها وتوجيهها الوجهة التي نريدها. ويتطلب مثل هذا الأمر تعلّم الانضباط الذاتي ودراسة السلوك الذاتي للإنسان الأمر الذي يقتضي الاهتمام بالكيفية التي تعمل عقولنا بموجبها وكيفية التحكم بعملياتها سعياً وراء الأفضل فضلاً عن تكييفها وفق احتياجاتنا الحياتية. ويتضمن ذلك أيضاً التعود على دراسة أنماط تفكيرنا الاعتيادية وغير الاعتيادية والعمل وفق كل جانب من جوانب حياتنا.
إن كل ما نفعله يستند إلى بعض الحوافز أو الأسباب لكن من النادر أن نعمد إلى مراجعة حوافزنا لنتبين مدى صحتها، كما يندر أيضاً أن نتفحص الأسباب من منظور نقدي لنتأكد من أنها مبررة من الناحية العقلانية. ونحن بصفتنا مستهلكين نقوم في بعض الأحيان بشراء بعض الأشياء باندفاع ودون تمييز دقيق دون أن نقف ونحدد ما إذا كنا بالفعل نحتاج لمثل تلك المشتريات أو ما إذا كنا بالفعل نمتلك المال الكافي لشرائها وما إذا كانت مفيدة لصحتنا وما إذا كان السعر مناسباً.
نحن كأولياء أمور كثيراً ما نتعامل مع أولادنا على أساس رد الفعل السريع دون روية لكن دون أن نفكر ما إذا كانت مثل تلك الأفعال تنسجم مع الكيفية التي ينبغي التعاطي بموجبها مع الأبناء وما إذا كنا نسهم في مجال احترامهم لذواتهم وكذلك ما إذا كنا نثبط هممهم من خلال أبعادهم عن التفكير أو تولي مسؤولية سلوكهم الشخصي.
وبصفتنا مواطنين نعمد في الغالب إلى التصويت في الانتخابات بشكل متعجل دون تمحيص ودون أن نأخذ الوقت الكافي للاطلاع عن كثب على القضايا والأمور ذات الصلة دون التفكير بالمضامين بعيدة المدى لما يتم طرحه دون الانتباه لما يبدر من السياسيين من مداهنة وتملق أو وعود فارغة وغامضة. ومن خلال صداقاتنا غالباً ما نصبح ضحايا لاحتياجاتنا الصبيانية و(الارتباط) مع أشخاص نكتسب منهم أسوأ الأشياء والذين يحفزوننا للعمل وفق أساليب وطرق كنا نسعى لتغييرها. وغالباً ما نفكر نحن الأزواج أو الزوجات برغباتنا أو وجهات نظرنا فحسب ونتجاهل دون تمحيص حاجات رفقاء حياتنا وآرائهم ونفترض أن ما نرغب به أو نفكر به أمر مبرر وصحيح بكل وضوح وأنهم حين يختلفون معنا فإنهم يصبحون غير عقلانيين وغير منصفين.
ولدى إصابتنا بالأمراض فإننا في الغالب نغدو سلبيين وغير مهتمين بوضعنا الصحي من حيث عدم التقيد بعادات صحية في الطعام وممارسة الرياضة وعدم التساؤل عما يقوله الطبيب وكذلك عدم وضع خطط مناسبة لصحتنا والالتزام بها. ومن خلال عملنا في التدريس فإننا نقوم دون تمحيص وتمييز بتدريس الطلبة بالطريقة ذاتها التي درسناها من قبل ونكلف الطلبة بواجبات ربما لا ترقى إلى اهتمامهم وميولهم وربما نثبط هممهم ولو بشكل غير متعمد بخصوص روح المبادرة والاستقلالية ونضيع الفرص المناسبة للاهتمام بانضباطهم الذاتي وعمق تفكيرهم.
ومن المحتمل تماماً و(الطبيعي) أيضاً أن نعيش حياة تفتقر إلى التدقيق والتمحيص وأن نعيش إلى حد ما بشكل تلقائي أو بعيد عن المتابعة الدقيقة. ومن المحتمل أن نعيش أيضاً دون تحمل مسؤولية أنفسنا ودون تطوير المهارات والفهم العميق اللازم للتعاطي معها. إننا إذا سمحنا لأنفسنا بأن نصبح أشخاصاً طائشين وبعيدين عن التفكير الصحيح فإننا سوف نلحق الأذى بأنفسنا فضلاً عن إيذاء الآخرين ونضيع الكثير من الفرص في بناء حياتنا وحياة الآخرين وجعلها أكثر ثراء وسعادة وإنتاجية.
تأسيساً على ذلك نرى أن التفكير النقدي يمثل إلى حد كبير هدفاً عملياً وقيمة، وهو يرتكز على فكرة يونانية قديمة سامية (ممارسة حياة خاضعة للتمحيص)، وهي تعتمد كذلك على المهارات والفهم العميق والقيم التي تشكل جوهر مثل ذلك الهدف وتمثل منهجاً للعيش والتعلم مع طلبتنا وتعيننا على نحو عملي. وإذا ما تم تبني مثل هذا الأمر بشكل جدي فإنه سوف يؤدي إلى تغيير كل جانب من جوانب حياتنا الدراسية: في كيفية وضع القوانين وكيفية توطيد علاقتنا مع الطلبة وفي كيفية تشجيعهم على ترسيخ العلاقات فيما بينهم وكيفية الاهتمام بقراءتهم وكتابتهم وتحدثهم وإصغائهم وما نضعه لهم ليسترشدوا به داخل قاعة الدرس وخارجها.
حري بنا إذن أن نجعل من التفكير النقدي قيمة أساسية في المدرسة والكلية بعد أن نضفي عليه مثل هذه القيمة في حياتنا الخاصة. من هنا يتعين علينا أن نمارس التفكير النقدي التأملي في حياتنا اليومية وكذلك حياة الناس الآخرين وبعدئذ يكون بمقدورنا أن نصبح حاذقين في التدريس وبخاصة التدريس المستند إلى التفكير النقدي. علينا إذن أن نكون فاعلين ونشيطين وممارسين يومياً للتفكير النقدي. كما ينبغي علينا أن نكون مثالاً يحتذى به لطلبتنا حول ما ينبغي دراسته بتمعن وتقييمه من وجهة نظر نقدية وما الذي ينبغي فعله لتحسين نمط حياتنا على نحو فعال.
المصدر:
http://www.criticalthinking.org/pages/our-conception-of-critical-thinking/411
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.