التوحد ورحلة في الأعماق
كان في السنة الخامسة من العمر حين ألحقته أسرته بمركز دبا الفجيرة لـتأهيل أصحاب الهمم، بعد أن لاحظت الأسرة مجموعة من السلوكيات، التي أكد المختصون بأنها تقع ضمن اضطراب طيف التوحد، فمن الصعب على والديه جذب انتباهه نحوهم، لدرجة عدم التفاته إلى مصدر الصوت الذي يناديه، فله عالمه الخاص الذي يزاول فيه سلوكياته المختلفة عن أقرانه، تارة يصدر أصواتاً عشوائية لا تفهمها أسرته، وأحياناً سلوكيات يفسرها الأهل على أنها عدوانية، فقليلاً ما يلتزم محمد بالتوجيهات من قبل والديه أو تنفيذ الأوامر البسيطة، فالتنقل العشوائي من مكان إلى آخر هو حاله، والانتقال الذي لا معنى له من لعبة إلى أخرى ومن نشاط إلى آخر هي إحدى سجاياه، سريع الملل، قليل التركيز فيما يُعرض عليه من مهام، يتهرب من أداء ما يطلب منه.
كان أمراً صعباً على معلمته التعامل مع هكذا طفل، مشتت الانتباه قليل التركيز والتواصل، لذا كان المهم لها أن تبحث عن شيء جاذب بالنسبة له، أو أي نشاط أو معزز يثير اهتمامه، وهو أمر ليس بالسهل مع طفل لديه اضطراب التوحد، فاستغرق الأمر شهوراً إلى أن بدأت استجاباته الأولى بالظهور، بعد محاولات عديدة، وطول صبر وتأنِّ نحو كل ما يظهره من استجابات عشوائية، ورفض للتواصل.
بدأت معلمته بالدخول إلى عالمه وتفهُّم احتياجاته، بدأت تنزل إلى مستواه واللعب معه بالطريقة التي يحب، بدأت تنجذب إلى ألعابه ومحاولة إشراكه في الأنشطة التي يستمتع بها، مما كوّن نوعاً من الأُلفة والتقبل لها، والترحيب بها من قبله، بل والرغبة في التواصل معها سواء بالإشارة أو بالأصوات، أو بالصور المعروضة عليه.
ها هو الآن وبعد مرور سنة من التدريب المستمر، ينسجم بترديد ما يستطيع مع أغنية يحبها، وينجذب إلى موسيقاها مُعبِّراً بابتسامة لطيفة عن اندماجه مع أنغامها، محمد الآن مختلف تماماً عن الذي عرفناه قبل عام، فقد حفظ روتين العمل المدرسي، ينزل من حافلته، ويضع حقيبته المدرسية في المكان المخصص لها، منطلقاً نحو الساحة لأداء الحلقة الصباحية مع أصدقائه. يعرف روتينه اليومي الذي تُرتِّبهُ له معلمته عن طريق الصور، ملتزماً بمواعيد الطعام واللعب والجلسات العلاجية، قادراً عن طريق جدوله المصوَّر على معرفة هذه الأنشطة بتوقيتها، إلى أن يأتي موعد مغادرته إلى حافلته المدرسية، فيلوِّح بيده لمعلمته، حاملاً حقيبته وفيها مجموعة جديدة من المهارات والأنشطة التي تعلمها اليوم منها، والتي ستحرص أسرته على متابعتها معه في المنزل.
سليمان يتكيَف مع بيئته المدرسية
لأن الأطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد مختلفون فيما بينهم، من حيث قدراتهم وميولهم واستعداداتهم، فلا بد من دراسة كل حالة على حدة، وهو ما اتجهت نحوه معلمة الطفل “سليمان” التي قضت وقتاً في دراسة وملاحظة سلوكه في مركز دبا الفجيرة لتأهيل أصحاب الهمم، حيث أن ميله لاتباع الروتين اليومي الصارم هو أكثر ما لفت انتباهها، ومع أن هذا السلوك قد يكون عائقاً أمام تكيُّف “سليمان” مع البيئة المدرسية الجديدة عليه، والتوافق مع أية مهارات جديدة تعرض عليه، إلا أن معلمته قد اتخذت من هذه العادة منفذاً إلى تنظيم بيئته المدرسية وبل وحياته اليومية.
بحثَتْ المعلمة خلال الشهور الأولى من وجود سليمان في المركز عن كل الأنشطة والسلوكيات والمعززات التي يحبها، واتخذتها جزءاً أساسياً من جدوله اليومي، فهو يحب الشخصيات الكرتونية، ويتفاعل معها، فكانت هذه الشخصيات وسيلة المعلمة لتحفيز سليمان على التواصل، بل وترتيب برنامجه اليومي من لحظة دخوله إلى المركز، مروراً بالحصص الدراسية، والخدمات العلاجية والمساندة، والأنشطة الخارجية، إلى أن ينتهي روتينه اليومي الذي أصبح مع مرور الوقت جزءاً من حياته الشخصية في المركز، ومن ثم اتباع نفس هذه الوسائل والآليات مع سليمان في البيت من قبل أسرته.
لا شك أن سليمان كان مقاوماً للتغيير بشكل كبير، سواء للشخصيات اليومية التي يواجهها من معلمات ومختصين أو زملاء في المركز، أو للتغيير المكاني وهو عبارة عن المركز ومرافقه أو الحافلة المدرسية، أو حتى بالنسبة للوسائل أو الأدوات المتبعة في تأهيله، كل ذلك قوبل بالصبر والأناة من قبل معلمته وأسرته، ومع مرور الوقت بدأت المفاجآت تظهر عند “سليمان”، وذلك سواء من حيث حفظه لمجموعة من الكلمات التي طالما رددتها المعلمة أمامه في الفصل، أو تَعَرُّفه على مجموعة من المفاهيم المعروضة عليه، “سليمان” الآن متكيف تماماً مع بيئته المدرسية، التحق بعالم جديد يمده بالدفء والطاقة، يتمثل بالمركز الذي هو فيه بمعلماته ومشرفيه، أصبح هذا المركز جزءاً من كيانه، وحياته اليومية التي لا بد أن يمر بها، قد لا يُعبّر “سليمان” عن هذا التكيف والتماهي شفوياً، إلا أن تعابير وجهه ولغة جسده، وسلوكه الهادئ كلها تدل على أن “سليمان” أصبح في حضن آمن يقدم له كل الدعم والمساندة، وهو مركز دبا الفجيرة لتأهيل أصحاب الهمم.
مَلَكات فنية مكنونة
منذ التحاقه بمركز الفجيرة لتأهيل أصحاب الهمم، لاحَظَتْ معلماته حبه للرسم والتخطيط، فكان يرسم ألواناً عشوائية على صفحات الكتب، تداعب أنامله الرقيقة الألوان الخشبية، تتموج الألوان يميناً ويساراً في أركان الصفحة كافة، لتشكل نسيجاً من الطيف المتداخل، وكأنه استفزاز بصري لمَلَكاتٍ مكنونةٍ تنتظر الوقت المناسب للتعبير عنها.
كَبُر “محمد” وكبرت معه هذه الهواية، حيث أصبحت خطوطه أكثر ثباتاً وألوانه أكثر اتساقاً، انتقلت رسوماته من العشوائية إلى التخطيط، ومن النمطية إلى التنوع في الصور والألوان، حيث باتت رسوماته تحمل اشكالاً ذات معنى، وميولاً فنية تمثل أحاسيسه وانفعالاته، وحبه لوطنه بكل مكوناته التراثية وألوان علمه، ورماله الذهبية، وشواطئه وسمائه التي تتبدل زرقتها بين وقت وآخر.
كانت الوجوه التي يرسمها هي أبهى إبداعاته، حيث استقرت موهبته على إتقان صور أصحاب السمو حكام الإمارات وشيوخها، وكأن أقلامه المتراقصة على وجه الورق، تحكي قصة عشق للوجوه التي يحبها وتمثل بالنسبة له مصدراً من مصادر إلهامه نحو مزيد من الفن والإبداع.
وها هو محمد يتوِّج ما تفتّقت عنه مَلَكاته الفنية عبر رسمه لصُور صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حفظهما الله، ويفوز بجائزة رواق عوشة بنت حسين في مجال الإبداع، جنباً إلى جنب مع لوحة تراثية أخرى تُمثل دلة القهوة الموجودة في إحدى ميادين إمارة الفجيرة، والتي تُعبِّر عن عمق الكرم الأصيل وحسن الضيافة التي يتميز به وطنه الامارات، وإمارة الفجيرة على وجه الخصوص.
وها هو “محمد” يستمر في مسيرة إبداعاته الفنية، صاقلاً قدراته نحو مزيد من الإبداع، ليلتحق بورشة الطباعة الفنية بالمركز، ممتلكاً مهارات الدعاية والإعلان على المنتجات القماشية والأكواب وغيرها مما يصل إليه خياله الواسع، فيكون من أوائل المشاركين بمعارض منتجات المركز التي تحتوي على إبداعات ومنتجات قسم التأهيل المهني. تراه مستقبلاً زوار المعارض، شارحاً طبيعة المنتجات، متقمِّصاً دور الفنان الذي يعرف جيداً المراحل التي مرت بها منتجاته، ودور المُسوِّق الذي يمتلك قدرة على إقناع زبائنه باقتناء هذه المنتجات الفنية الراقية.
ولا يزال درب “محمد” مفتوحاً نحو مستقبل أفضل يأمله، وهدف أسمى يسعى إلى تحقيقه، وهو التوظيف في مهنة تمكنه من الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي، لقناعته بأنه يمتلك قدرات ومهارات بإمكانه توظيفها في خدمة مجتمعه ووطنه، على أمل أن تأتي هذه الفرصة عاجلاً غير آجل.
- دكتوراه الفلسفة في التعليم الخاص والدامج ـ الجامعة البريطانية بدبي
- يعمل حالياً في إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم ـ وزارة تنمية المجتمع ـ دبي.
- له العديد من المؤلفات حول التقييم والتأهيل النفسي والتربوي وتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة.
- باحث مشارك مع مجموعة من الباحثين في جامعة الامارات العربية المتحدة للعديد من الدراسات المنشورة في مجال التربية الخاصة.
- ألقى العديد من المحاضرات والدورات وشارك في الكثير من المؤتمرات حول مواضيع مشكلات الأطفال السلوكية، وأسر الأشخاص المعاقين، والتقييم النفسي التربوي، التشغيل، التدخل المبكر.
- سكرتير تحرير مجلة عالمي الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع في الإمارات.
- سكرتير تحرير مجلة كن صديقي للأطفال.
جوائز:
- جائزة الشارقة للعمل التطوعي 2008، 2011
- جائزة راشد للبحوث والدراسات الإنسانية 2009
- جائزة دبي للنقل المستدام 2009
- جائزة الناموس من وزارة الشؤون الاجتماعية 2010
- جائزة الأميرة هيا للتربية الخاصة 2010
- جائزة العويس للإبداع العلمي 2011