أمسكت بعجلة كرسيها وهمّت بدفعها نحو الباب وهي تسمعه يُقرع. وما أن تقدّمت أمتارا عدّة حتى توقّفت فجأة. لا يفصلها عن هذا القفل سوى أمتار ثلاثة، وها هي مسمّرة لا تتحرّك. ورغم أنها تحدّق في اتجاهه، فقد تجمّدت وكأن شيئا ما يمنعها من فنحه واستقبال ضيفها المنتظر. انصبّ تفكيرها كلّه على ماضيها وراحت تستنبش المخيّلة وتسألها غن حلم قديم قديم. ذهبت تبحث في ذاكرتها عنه، أتراه تغيّر فعلا وهو يعتم الآن لأمرها، أم انّه لا يزال كما عرفته دوما في لامبالاته اللاذعة لا يعطي وزنا لأي شيء خارج نطاق نفسه وطموحاتها؟
غابت في الذكريات وما استوقفتها النقس. عادت بالسنوات إلى الوراء، وها هي مجددا صبية شقية تتراكض وتلعب وتمارس طقوس صباها البريئة غليه وهو يهرب من مشاكساتها وكأنه لا يعطيها وزنا أو أهمّية لما تفعل. صافي يكبرها بثلاث سنوات وهو أعز رفاق طقولتها والمراهقة وأفضلهم لديها. كان يستنبط لها الحلول بذكائه وسرعة بديهته كلما استجدّت مشكلة تعصاها. بقيت ترافقه في مشاويره وتمضي أعلب أوقاتها معه تنظر إليه وتتعلم منه أشياء كثيرة إلى أن أصبحا في عمر المراهقة. لقد تعلّقت به في تلك الفترة ولم تُرِد حينها أي رفيق آخر لها. وكم دافع عنها من تهجّم بقية الصبية لتتخذه حارسا أمينا لا غتى لها عنه. قوة ساعديه التي أذهلتها دوما جعلته الأقوى بين رفاقه ليتحاشون الشجار معه، وهي في شقاوتها كانت تفتعل المشاكل حتى تراه يتفوق عليهم وينتصر، وكأن في ذلك نصر لها!
ومرّت السنوات، فأرسلها أهلها إلى المدينة لتكمل دراستها الثانوية، وهناك تعرّفت على أشياء أخرى ونسيت مع الوقت لحظاتها السعيدة في البلدة. هناك تعلّمت قيادة السيّارة وما أن تخطّت الثامنة عشر ربيعا حتى اشترى لها والدها واحدة فخمة وحديثة جعلت أنظار الجميع يتطلعون نحوها. ومع امتلاك السيّارة أصبحت مشاويرها كثيرة وبدأت تتردد إلى منزل والديها في القرية إنما من دون أن تلتقي برفيق صباها، وكأنّه قد أصبح من الماضي. ومع "لعبتها الكبرى" نسيت كلّيا صافي وحلوله وقوّته وذكائه، لتطير فرحا وهي تقودها. وما أجمل الأماني والأحلام حين تتحقّق!
وتكمل البحث عن حلمها الضائع لتستوقفها الذاكرة مباغتة، فتترائى لها لحظات رائعة يوم بلوغها هدفها ونيل شهادة الحقوق بامتياز حيث أقام لها والداها حفل ضخم دعوا إليه عائلات البلدة وشبابها ووجهاء المنضقة، والكل يتبارى لاكتياب ودّها. كيف لا وهي تضج جمالا وأنوثة وأناقة وتحمل على أكتافها روعة السنوات الربيعية وتحمل أيضا وأيضا ثروة لا تقدّر كإرث عائلة حاقظ عليها ونماها والدها. غريب كيف أنها ترى الأمور الآن، وبعد مرور ثلاث سنوات، مختلفة كلّيا عمّا بدت عليه في حينها. تواجد يومها جميع المدعوين ما عدا صافي، والأغرب أنها لم تتذكر. لم تسأل عنه حتى! وتسري في جسدها رعشة وكأن وخز الضمير يؤنّبها، وتخرج دمعة حارقة تلهب أنفاسها ألما وحزنا. ذاك اليوم بقي ماثلا في ذهنها، كيف لا وقد طبع حياتها المستقبلية سلبيا.
سكرت من تهافت المعجبين بجمالها وظرافتها وقوة شخصيتها، وكم أحرقت قلوبا ملهوفة على دربها ولم تسأل. سكرت وسكرة نهارها الأطول والأروع محتها حادثة الليل الأليمة. لقد أصرّت على العودة ليلا إلى شقتها في المدينة، ولم تعتبر نصائح والدها بالمكوث في المنزل وتمضية الليل للاستراحة من عناء السهرة. لم تلن حتى لرجاء والدتها، وكانت على موعد مع قدرها. نعم أصرّت على العودة ولم تكن تدرِ ما ينتظرها.
إنها لا تذكر من الحادثة شيئا سوى أنها صعدت منهكة في آخر ساعات الليل إلى "لعبتها المفضّلة"، كما يحلو لها تسمية سيارنها، وأنها قادتها لبضعة أميال لم تتعدّ حدود البلدة، بعدها لا شيء! صرختها ماتت في حلقها قبل أن يغمى عليها وقد لفّها وشاح ضبابي السواد، ووجدت نفسها في المستشفى وآلام مبرحة تعاندها. لقد أخبروها أنها أمضت ثلاثة أيام في غرفة العناية الفائقة وهي تعاند الرحيل الأبدي، أما هي فلم تتذكر شيئا. لقد وصلت في حالة يرثى لها إلى الطوارئ بعد أن استخرجوها من السيارة المحطمة. بقيت تنازع وحياتها في خطر مداهم لساعات ثلاث تحت مبضع الجراح الذي بذل جهدا فائقا لإنقاذها. وبالفعل فإن الطبيب بعد خروجه من العملية بدا مصفرّ الوجه شاحبا وغير واثق من قدرتها على تحمل أثار ورواسب ما جرى لها والاشترامات المتأتية عن بتر الأرجل على جسدها النضر. وأكثر ما كان يخشاه الجراح هو التأثير السلبي على نفسها مما يمكن أن يؤدي إلى تحول في شخصيتها. ذاك الطبيب لم يكن سوى صافي رفيق دؤي الصبا الأمين.
غريبة تلك الصدف، تأتي ساعة لا ننتظرها وتعيدنا إلى خضم ذكريات نسيناها، ومن عبق الإحساس تنتزعنا، ومن عمق مأساتنا تنشلنا، وتبقى تراودنا، وتراوغنا، وساعة لا ننتظرها تفاجئنا، وتحملنا معها إلى فضاءات تختلف عبيرا، وتعاوننا عبورا نحو الذات نسترجع ما تبقى لدينا منها. هكذا هي الحياة تأخذ ومن ثم تعطينا ونبقى على كفة عدلها نستعطي لحظاتها البهيجة.
تغيّرت حياتها كلّيا بعد تلك الحادثة، فاختفى المعجبون وفقدت صديقاتها اللهفة لزيارئها وتباعد عنها كل من كان حولها يستجدي منها بسمة أو نظرة. رأت نفسها تسير في مسالك وحدة مريعة غربتها أقسى من غربة الذات عن جسد معوّق تقاعد قبل الأوان.
نصحها صافي بعد إجراء العمليّة بأن تذهب إلى أوروبا لتتمكن من إعادة تأهيل جسدها المقعد حتى تتمكن من الاكتفاء الذاتي ولا تضطر للاتكال على غيرها. كما أخبرها أنه بإمكانها العودة إلى قيادة سيارة تصمّم خصّيصا لها إن هي واظبت على التأهيل. رفضت بادئ ذي بدء، ولكنها أزعنت لإصراره ورحلت تداوي أساها قبل الجراح في غربة بعيدة عن ديارها هربا من غربة الذات الأليمة. لم تدرِ كيف مضت تلك السنوات الثلاث هناك إنما تعلّمت أشسياء كثيرة وأوّلها السيطرة على أعصابها والعودة إلى تذوق الحياة. وعندما كانت تضيق الدنيا بها لفشل في تأدية وظيفة جسدية كانت تستعين بقوته هو، صافي، متذكرة حلوله وتبسيطه لكل مشكلة وكأنها في تحدّي مع الذات لا بدّ وأن تتعدّاها حتى تتجدّد. وأغرب الصدف التي تعيدنا إلى ماضينا هي تلك التي تحملنا معها وتحمّلنا أحلاما وهميّة. هكذا أصبح صافي رفيقها، وإنما هذه المرة في المخيلة. أتقنت اللعب معه والحوار وعادت تشاكسه مجددا في ذهنها، وتكاد نجزم أنه بانتظارها في الوطن. هكذا غاد غائبها من خضمّ ماضيها لكي يعشّش في مخيلتها طوال فترة التأهيل الصعبة وكأنها تستنجد به وتطلب منه حماية حتى وهو غائب عنها.
عادت إلى منزلها منذ ثلاثة أشهر فقط وراحت تنتظر طبيبها الذي جعلت منه بطلها وحارسها الأمين. لم يعد لديها أحدا سواه تهتم لأمره، وفرحةٌ في النفس تراودها لتريه ما تمكّنت من تعلّمه في الغربة. انتظرته، والانتظار هنا أقسى من أي انتظار، بدو فيها الوقت أطول من تلك السنوات التي مكثت فيها وحيدة في الخارج. راحت تحلم ويراودها إحساس بأنه سوف يكون مجددا معها لحمايتها كما عودّها في السابق. أتاها بعد ثلاثة أيّام، وما أكبر فرحتها به. راحت تحوم حوله كفراشة تحرّرت من شرنقتها وتتحرّك بكرسيها النقال وتخبره ما استجد معها من أمور وتضحك وتتكلم وتخبر ما في جعبتها من أسرار دفينة وكأنها لا تريد له أن يفارقها. طالت جلستها معه وبعد مرور ساعات على تواجدهما معا في ذاك الصباح الخريفي اقترب نتها وهمس لها بأنه لا يزال يحبّها ويشتاقها بكل إحساسه ويريدها شريكة له.
مفاجأة اللحظة غير المنتظرة هي؟ لا بل تصوّرتها في البال وتخيّلتها حلما ضائعا من نضارة شبابها! وها هو الحلم يأتيها ويركع أمامها مترجّيا امتلاك جنون تلك اللحظة للهروب نحو عوالم الشمس المضيئة. أوتفعل؟
ذرفت دنغة لم تتماسك يدها من أن تمسحها فأحسّت بوهج لهيبها يلذعها. وهذا الإحساس الذي فقدته منذ سنوات، إحساس الأنوثة البديهي الذي رافقها في سنوات مراهقتها والدراسة الجامعيّة عاد يتجاذب بسمتها، والعيون من فرحة المفاجأة صامتة صامتة. لم تَعِ ما جرى لها وإنما وجدت نفسها في أحضانه تشهق بكاء ولا تتوقف.
توقفت من دفع كرسيها نحو الباب وأشاحت نظرها عنه وقفلت عائدة إلى مكتبها تدوّن وتكتب وتغوص في أحلامها الميتورة وكأنها لا تسمع الباب الحثيث. وأردفت وكأنها تواسي نفسها وصوته يصل إليها من خلف الباب: إفتحي الباب تمارا أرجوك لا تعاندي دعيني أدخل، أردقت والدموع تنهمر بغزارة لم تعهدها: هو يستحقّ أفضل من هذا الحلم الضائع على عتبة أنوثتي الجاحدة!
ولد في 18 أيلول / سبتمبر 1954 في بلدة مجدل المعوش ـ الشوف – جبل لبنان – لبنان.
أنهى دراسته الثانوية سنة 1973.
أصيب سنة 1982 بمرض مزمن وتورّم في المفاصل ممّا حدّ من حركتها.
أنهى دراسة الطب سنة 1987 في جامعة روما.
أنهى تخصصه سنة 1993 في علم الروماتيزم وفي علم المناعة والحساسيّة.
عاد إلى لبنان في تشرين الثاني من سنة 1993 لمزاولة مهنة الطب.
أصيب سنة 1997بقصر في النظر نتيجة الداء المزمن.
تحوّل إلى الكتابة سنة 1998 في محاولة لإعادة تأهيل النظر.
صدرت الطبعة الأولى من ديوانه الشعري "كلمات مشاكسة" في 11 آذار / مارس من سنة 2002.
له مقالات عدّة في جريدتي النهار والديار اللبنانيّتين وفي مجلات محلية عدة.
له قراءات في كتاب مذاق الصبر للكاتب محمد عيد العريمي (دراسة موضوعية تحليليّة), صدرت مع الطبعة الثانية للكتاب، كما في جريدة الوطن في سلطنة عمان وفي مجلة المنال التي تصدر عن مدينة الشارقة الشارقة للخدمات الإنسانية.
يعمل منذ عودته إلى لبنان، في مستشفى الحايك – سن الفيل – بيروت ـ لبنان.
نال ميدالية تقدير في أسبوع الكتاب من إدارة معهد الرسل آذار / مارس 2003.
نال شهادة تقدير من رابطة خريجي معهد الرسل في مهرجان الفكر والفنّ آذار / مارس 2004.
نال في 28 آذار / مارس 2005 جائزة الشارقة الأولى للمعوقين المبدعين عن روايته: (على طريق البصر),.
صدرت قصة قصيرة له بعنوان: (رحلة من الجنوب إلى الجنوب), عن حرب تموز / يوليو 2006 في مجلة (المنال), في عددها الخاص الذي حمل الرقم 206 لشهر سبتمبر / أيلول ـ المجلد العشرون سنة 2006.
صدرت أوّل طبعة لروايته على طريق البصر سنة 2007 عن منشورات مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
نال تكريم وتقدير الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب في كانون الأول / ديسمبر 2007 .
شارك في أيلول / سبتمبر 2007 في المهرجان العالمي الأول للشعر في باريس.
يشارك بنتاجه الأدبي في عدة مواقع ومنتديات أدبية عربية.
عضو في الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب.
عضو في إتحاد: (شعراء العالم),.
عضو في إتحاد شعراء بلا حدود.
يتنقل ما بين إيطاليا ولبنان للعلاج.