بقلم د. روحي عبدات
أيقظتني أمي في ذلك اليوم البارد، نزعت عن جسدي الصغير غطائي الدافئ، وأحلامي الوردية، ألبستني أفضل ما لدي، مشطَت شعري، غسلت وجهي وأعدت لي بعض الطعام. هذا يومٌ انتظرتُه طويلاً، حدثني عنه الكبار كثيراً، لدرجة رسمت عنه لوحات جميلة، علقتُها في معرض ذاكرتي الطفولية. هل أنا في طريقي إلى العيد الذي حلمت به منذ أشهر؟ قالوا لي إننا في العيد نلبس الجديد، ونأخذ معنا كل ما هو جميل، لنرى ما هو أجمل.
ومع أن النعاس لا يزال يغلب عليّ، واسيتُ نفسي بملابسي الجديدة، وحذائي الذي احتفظت به في علبته منذ أسبوع أو أكثر، فلم أجرؤ على انتعاله كي لا يتسخ، فقط كنت أطمئن عليه كل يوم، وأغلق عليه باب صندوقه منتظراً هذا اليوم، ليأخذني إلى حيث المكان الجديد. ولأن العيد يأتي مبكراً جداً، فلا بد من النهوض مبكراً وانتظاره، وإلا فسَيمرُّ دون انتظار.
ها أنا الآن شبهُ جاهز للخروج من البيت، ملابسٌ أنيقة، وحذاء لامع، وصندوق ثقيل لا أعرف ما الذي في داخله، ربما طعامٌ أو ألعاب، أحمله على ظهري تارة، وأجرّه على الأرض تارة أخرى. وعلى عجل، أخذَت بيدي أمي نحو الخارج، ولا تزال العتمة تخيم على المكان، والجميع هنا ينتظرون شيئاً ما سيحدث.
فجأة، تعالى صوت جلبة أمتلأ بها المكان، هديرٌ يقترب منّا أكثر فأكثر، وأنا الذي أحاول منع بقايا أحلامي الجميلة من الإفلات من رأسي، حيث بدأت بقايا الدفء تمحوها برودة الهواء الذي يصفع وجهي، وكفّي المرتجفة تتذكر القبض على صندوقي الكبير الذي أوصتني أمي بالحرص عليه عدة مرات.
أحاول معرفة ما حدث، أو أن أتنبأ بما سيحدث، ولكن الظلام لا يزال مخيماً على بقايا أحلامي، وفتات الدفء يتناثر حين يصفعه البرد. وما هي إلا لحظات، حتى ابتلع الحوت كل الصغار، نعم الصغار فقط. هل أنا في حلم أم حقيقة، أين هي أمي؟ أين صندوقي الكبير؟. الكل هنا مندهش ومرتبك وخائف، وكأننا على موعد واحد وقصة مماثلة حدثت لنا جميعاً.
أحاول النظر إلى الخارج، ولكن بطن الحوت مغلق من كل جانب، تلفّه الظلمة من الداخل، تغطي زمجرته على بكاء الأطفال ونحيبهم، يخوض بنا بحراً لجياً عميقاً ويتماوج بنا بحركاته المفاجئة بين وقت وآخر، تهتز أجسامنا الصغيرة تارة، وترتطم ببعضها تارة أخرى، خاصة عندما يقف على حين غرة أو يتحرك فجأة، أو عندما يصطدم بشيء ما من الأسفل، كل ذلك نشعر به في العمق. ومع كل هذا الضجيج، يبدو أن بعض الأطفال قد استسلمت أجسادهم للنوم، بانتظار أن تعود إليهم أحلامهم ويعود دفئهم مرة أخرى. أما أنا فأداري نعاسي، وألملم الدفء من أنفاس زملائي، وأقاوم الشعور بالمغص والدوار من حركة الحوت، بل والرغبة بالتقيؤ أحياناً، والحنين إلى أمي.
أين أنتِ يا أمي؟! لماذا لم تدخلي معي هذا المكان الموحش؟ لم يكن هذا الشيء شبيهاً بما حدثتِني عنه طوال الصيف! لم يكن هو ما انتظرته طويلاً، حلمت به طويلاً، كانت مخيلتي ترسم لوحة أفضل مما أنا فيه الآن بكثير!.
وفجأة، توقف الحوت، وساد الصمت، وبدأت كوةٌ صغيرة تنفتح من جسده شيئاً فشيئاً، حينها، التفتَ جميع الأطفال نحو بعض الضوء المتسلل إلى الداخل، البعض يمسح دموعه منتظراً ماذا سيحدث، والبعض الآخر يواري ما بقي من تنهيدات البكاء، أما من غلب عليه النعاس فقد استفاق الآن على أصواتٍ بدأت تتسلل إلى الداخل.
بدأت أمعاء الحوت الضخم بالانقباض والانبساط، ومع كل انقباضة يخرج طفل أو اثنان. ترى هل هو البر الآمن؟ ظل الحوت كذلك حتى أخرجنا جميعاً واحداً تلو الآخر، فاستقبلَنا أناس كبار أراهم لأول مرة، ولكنهم حشرونا مرة أخرى في غرفة صغيرة، فيها روائح لا تشبه شيئاً بالنسبة لي، كل ما أتذكره أنها تحوي كراس عديدة ورسومات لم أفهمها معلقة على الجدران، ومستطيلاً أكبر من جهاز التلفاز بكثير، وقبل أن نطلب منهم شيئاً يهوّن علينا عناء رحلتنا، طلبوا منا الجلوس، وطلبوا منا الهدوء، وطلبوا منا عدم الحركة، والسكوت، والسكون.
دلَفَت امرأتان تشبهان الأمهات إلى المكان البارد، وجه إحداهما يشبه وجه أمي، تأملتُ فيها خيراً، قُلت في نفسي: يبدو أنها ستنقذنا من هذا المشهد المظلم وستعيدنا إلى أمهاتنا، يبدو أنها متعاطفة معنا، تمسح وجوهنا بابتسامتها المشفِقة، كوننا مجرد مجموعة من الصغار اختطفهم الحوت من بطن الليل ورماهم في ذلك المكان البعيد مبكراً، بل مبكراً جداً، كان هذا عند توقيت بزوغ الأحلام الجميلة، انتزَعَنا من الدفء ليتركنا في العراء. نعم إنها هي من سيعيدنا إلى أحلامنا الصغيرة، وإلى أحضان أُسرنا الدافئة. لكن السيدة الأخرى الأكبر سناً، همست في أذنها مؤنّبة إياها، وكأنها تحذرها من الانهيار أمام هذا المشهد المؤثر، تحاول أن تُعلمها تجاهل مشاعرها، فهي المُجربة المعتادة على كل هذا منذ سنوات، هَمَست كلاماً لم أفهمه وأدارت ظهرها لنا متجهة نحو الباب.
تُرى ماذا قالت لها؟ لم أسمع ذلك بالضبط، ولكن أحد الصغار الذي أصبح صديقي فيما بعد قد كان قريباً منهما، وأخبرني بذلك بعد سنوات: لا عليكِ، سيعتادون على هذا الأمر، هكذا هم أطفال الأيام الأولى في الروضة الأولى!.
- دكتوراه الفلسفة في التعليم الخاص والدامج ـ الجامعة البريطانية بدبي
- يعمل حالياً في إدارة رعاية وتأهيل أصحاب الهمم ـ وزارة تنمية المجتمع ـ دبي.
- له العديد من المؤلفات حول التقييم والتأهيل النفسي والتربوي وتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة.
- باحث مشارك مع مجموعة من الباحثين في جامعة الامارات العربية المتحدة للعديد من الدراسات المنشورة في مجال التربية الخاصة.
- ألقى العديد من المحاضرات والدورات وشارك في الكثير من المؤتمرات حول مواضيع مشكلات الأطفال السلوكية، وأسر الأشخاص المعاقين، والتقييم النفسي التربوي، التشغيل، التدخل المبكر.
- سكرتير تحرير مجلة عالمي الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع في الإمارات.
- سكرتير تحرير مجلة كن صديقي للأطفال.
جوائز:
- جائزة الشارقة للعمل التطوعي 2008، 2011
- جائزة راشد للبحوث والدراسات الإنسانية 2009
- جائزة دبي للنقل المستدام 2009
- جائزة الناموس من وزارة الشؤون الاجتماعية 2010
- جائزة الأميرة هيا للتربية الخاصة 2010
- جائزة العويس للإبداع العلمي 2011