قراءة في ديوان: جرار الضوء للشاعر: محمد غبريس
توطئة
في هذه القراءة أحاول أن أغترف بعضاً مما في جرار محمد غبريس من ضوء، لأعيد تسليطه مرة أخرى علي مفاتيح التأويل التي ألقاها في طريقنا ـ بقصد أو بدون ـ والتى أظنها منتشرة في نصوصه الشعرية التي يتضمنها ديوانه، على الرغم من أن جراره مضيئة، إلا أن هناك أحيانا زوايا عتمة تتخلل ثنايا ومنحنيات الجرار، حيث يصبح من الضروري أن نقتفي أثر تلك العلامات التى تمنحنا إياها الذات الشاعرة بين فترة وأخرى، لتجعل من فعل القراءة متعة ادراكية، فالقدرة على استخلاص ما تشير إليه الدلالة ـ حتى في أبسط صورها ـ يحدث حالة من الوجد لدى المتلقي.
إذن سوف أحاول أن أتلمس بعض ما خبأته الذات الشاعرة في جرارها، وسوف أطل على جرار غبريس من ثلاثة نوافذ؛ الأولى رؤية سيميائية دلالية، والنافذة الثانية تتعلق بأسلوب الكتابة، أما النافذة الثالثة فسوف تتعرض للغة الكتابة. وفي ظني أن هذه النوافذ الثلاث كفيلة لتطرح رؤية ما حول ما قدمه غبيرس في نصوصه، ولا أتوقع أنني سوف أمر على تلك النوافذ بالترتيب، فربما أكرر المرور من نافذة أو أبعد قليلاً عن أخرى وذلك حسب ما تقتضيه القراءة.
يطرح غبريس من خلال ديوانه (جرار الضوء) تجربة ثرية، تحتفي بمخزون الذكريات بشكل مختلف ومغاير، حيث نجده يطل علينا برؤيته الخاصة للفعل الإنساني، ومحاولة التعبير عنه في معادلة تجمع بين العمق والرقة، بعيداً عن الفلسفة اللغوية، وتداخل التراكيب التي لا تؤدي ـ فى معظم الأحيان ـ إلا إلى ذاتها فقط، فالطرح هنا أقرب ما يكون إلى مقطع عرضي يشمل ومضات من خبرات حياتية، تتجاور أحياناً وربما تتباعد، تتماس فيها خيوط الذكريات مع الواقع المعاش، بشكل تتابعي أحياناً، وأحياناً أخرى بشكل متواز، فالحديث عن الذكريات هنا لا يتخذ منحى تقليدياً يعتمد على سرد الماضي واجتراره والتباكي عليه، بل هو رؤية لهذا الماضي من منطلق الواقع المعاش بعيداً عن عقد المقارنات بين ما كان وما هو كائن، ومن ثم كان لهذا التراوح تأثير واضح على لغة الكتابة التى تبنت ـ في أغلب المواضع – ثنائية التعبير كبديل للمقارنة التى أحياناً ما تكون غير منصفة.
1
يحاول الشاعر هنا – الحديث متعلق بالذات الشاعرة بعيداً عن شخص الشاعر، ربما تشابها في عدة أمور أو اختلافاً – يراهن علي خبيئته التي أودعها باطن الجرار، هذه الخبيئة التي يغترف منها بقدر ما يريد، وقد أودعها ذكرياته ومشاعره وأحلامه وحتى اخفاقاته، حيث تتشابك كل الخيوط، وتتقاطع معظم الطرق، حتى يصبح من الضروري ايجاد خارطة تساعدنا في التجول بين المتشابك والمتقاطع لنصل إلى نسق دلالي منتج، ومن ثم لعبت المفردة دوراً هاماً فى آلية الكتابة، حيث كان الاحتفاء بالمفردة عنصرا واضحا في الطرح اللغوي، الذي لم يخل من الاشارة إلى هذه المفردة البطل إما من خلال السياق الدلالي، أو علي مستوى المفردة بذاتها، إذن ليس من المستغرب أن تأتي عناوين كل القصائد علي شكل مفردة لغوية، مثل: (ميلاد، كفاك، اعتراف، صهوة، رصاص، أبي، نور…)، لذا فملمح التكثيف يظهر بوضوح من خلال هذه العناوين المختزلة التي ربما تساهم في استيعاب هذا الكم الهائل من الذكريات وإعادة طرحها بصورة مكثفة، بحيث لا تنال من مضمونها الدلالي.
في بداية النصوص تظهر محاولة ما، يبدو أنها لإرساء التعارف مع من يتطلعون إلى ما بداخل الجرار، فلا تسمح الذات الشاعرة للفضول أن يعتريهم كثيراً، فتأتي المبادرة مفاجئة للمتلقي وموعزة إليه بأن البوح سيكون عن طيب خاطر دون الحاجة إلى سؤال، فالأعوام المليئة بالمشاهد المختلفة تتدفق وتنساب بسلاسة، فنجده في نص (ميلاد) يقول:
لا تسألوني
كم مضى من عمرك المبتل
بالأحلام
إني الآن
أسبح في خيالات الثلاثين
التي تقتادني للبوح والذكرى
يمرالوقت كالريح الشريدة
يجيء على طريقته
بصمت وانفلات
تظهر هنا سطوة الوقت التي تدفع للبوح والذي بدوره يولد نوعاً من التداعي للذكريات حيث يصبح الوقت بطلاً يأتي كيفما يشاء ليطرح بطريقته الخاصة حالة دافئة ممتزجة بالحنين لتلك الفترات السابقة، وحالة الحنين هنا ليست بالتقليدية أو كما نعهدها من انتصار للفائت بكل أشكاله، وأن ما انقضى لا يمكن تعويضه وأنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، لكن الأمر هنا مختلف فنجد نبرة اللوم تظهر بين فترة وأخرى، وأن هناك أشياء كان يجب القيام بها وأخرى لو تركت لكان أفضل. إذن نحن أمام حالة من التماس الدائم مع الذكريات.
2
وهذه الحالة تظهر فى مواضع كثيرة في الديوان، لذا يمكن أن نطلق عليها سمة من سمات هذا العمل، وأظن أن هذا الحنين بهذا الطرح يخرج من كونه تباكيا على ما فات مغموراً بعاطفة جياشة نحو الفائت، إلى نسق دلالي أكثر اتساعاً يحتمل أن تتجاور فيه الجمالية الشعرية في التعبير مع مصداقية الطرح.
وفي في نص (مسودة) يقول:
عرفتك
بعد أن ضيعت من عمري
سنينا
باحثاً عن صيغة أخرى
تليق بنا
فلم أعثر على لحن
ولكني
عثرت على مسودة
لنصف قصيدة غضبى
وبعض خرائط
للذكريات
وفي النص نفسه أيضاً يقول:
من أين جئت إلي
من ألقاك في لغتي
لمحتك بين أشجار الصنوبر
تعثرين علي
لكن المسافة غير قابلة
لأي خطى
هكذا يمنحنا الشاعر فرصة للتأويل وإعادة انتاج انساق دلالاية متعددة، وهذه ميزة تمنح النص ثراء ومرونة، لنجد أنه من الممكن – بل أجده من الطبيعي – أن تتماس هذه الأنساق الدلالية مع إسقاطات المتلقي الذي يسعى فى كثير من الأحيان أن تتشابه استنتاجاته الدلالية الخاصة به مع ما يثيره النص من تأويل ـ بغض النظر عما إذا كان الشاعر يريد هذا الطرح بعينه أم لا -، فالقصدية ليست معياراً لجمالية الدلالة، واستجداء التأويل من النص بالقوة، يؤدى إلى إضعافه دلالياً، في حين أنه إذا ما اتكأ النص على أرضية من التنوع والامتداد والبدائل التي تكسر آفاق توقع المتلقي وتكون قادرة على إدهاشه، هنا يمكن للمنظور الدلالي أن يكون أكثر عمقاً واتساعاً وتظهر هذه الملامح فى نصوص غبريس بكثرة.
3
ومع تعدد المواضيع التي تتعرض لها نصوص غبريس في ديوانه (جرار الضوء)، إلا أن النزعة الرومانسية لا تغيب عن أسلوب الكتابة، بل هي مكون أساسي من مكونات التناول الأسلوبي، حتى في أكثر المواضيع التصاقاً بالواقع، يبرز الملمح الرومانسي ليطبع بصمته على مشهد الكتابة، نجده في نص (بيروت) يقول:
هنا بيروت لاهثة
وحيرى
تلملم دمعها طيراً
فطيرا
هنا ويل لأمتنا
تخلت
هنا الشهداء يقتطفون
فجرا
كلانا فرقتنا الحرب
ظلما
وعاث بنا الهوى الغربي
عمراً
وتهنا بعد ذلك
لا عيوني
رأتك للحظة
لا القلب سُرا
يدور التناول هنا حول جرح الوطن وما لحق به من انكسارات، وربما ما ينتظره أيضاً من إخفاقات، حيث ثمة مزج بين هذا الجرح العام وبين الجرح الشخصي، الذي هو بدوره من نتيجة لجرح الوطن، وهذا المزج بين العام والخاص يحدث نوعا من التماهي بين الذات والوطن، فلا تكاد تفرق بين أي من الجرحين، فكلاهما مؤلم وقاس وعميق، كلاهما يؤرق ويثمر نزفاً وكلاهما أيضاً طرف لمعادلة وازنت وساوت بين العام والخاص وجاءت فى طرح لغوي بسيط، لعبت فيه المفردة دوراً هاماً، حيث أضفت على الحزن مسحة من نبل وسمو، في إطار رومانسي رقيق لا يخلو من بعض أشعة ضوء تأتي من الماضي الكلاسيكي، جعل معه من الصعب إدراك الفروق بين تلك الجروح، فقط الألم النبيل هو سيد الموقف، وهو وجه الشبه الذي لا اختلاف عليه.
4
توقعت أن تعلو نبرة السردية باعتبارها أسلوباً يتواءم مع ما تتناوله نصوص غبريس في ديوانه (جرار الضوء) من مواضيع وأفكار تتخذ من الذكريات واستدعائها والاشتغال عليها نهجاً رئيسيأ، إلا أن عنصراً آخر ظهر بكثرة في هذه النصوص ألا وهو المشهدية، حيث نجد أن معظم النصوص تستند على تلك الآلية التي تمنح خيالاتنا عيوناً لنرى بها ـ هذا إذا ما تم توظيفها بشكل جيد يخدم النص ـ وقد كان توظيفها هنا موفقا، حيث ساهمت في تجسيد الصورة الذهنية التي تطرحها النصوص، كما أنها أيضاً تعطي مساحة أرحب لخيال المتلقي لكي يشارك ايجابياً في إعادة انتاج أنساق دلالية تخصه هو – بعيداً عن طرح الشاعر ـ من المحتمل أن تتشابه هذه الأنساق الدلالية أو تختلف قليلاً أو ربما تتعارض تماماً.
ويقول في نص (أبي):
وحيداً هناك
يلم
بداياته وحكاياته
لا يكف
عن الصمت والذكريات
الحزينة
ويحمل أنشودة الحزن
في رئتيه
وأغنية من بقايا المدينة
كأن ابي يحرث البحر
في مقلتيه
يشق طريقاً إلى الحلم
يصمد كي لا تميل
السفينة
تعاود الذكريات طرق الأبواب لتظهر معلنة عن تصدرها لطرح (غبريس) الشعري، إلا أن المشهدية أيضاً تتواجد لتؤسس لها مساحة في أسلوب التناول، في بداية المقطع ـ ومع التركيبة الاستهلالية (وحيداً هناك) – تشعر وكأن نوعا ما من السرد والحكي سوف يطرح، إلا أن الامر يسلك منحى آخر، لنجد أنفسنا أمام حالة تصويرية تلعب فيها المفردة ـ مرة أخرى ـ دوراً هاماً. من المنظور اللغوي، تأتي الأفعال المضارعة مثل (يلم، يحمل، يحرث، يشق… وغيرها) لتضفي علي تلك المشهدية دلالة ايحائية تجسد فعل الحركة وتضفي علية عمقاً بمثابة بعد ثالث يجعل معه من السهل إدراك البنية الحركية للغة النص، فهذا الذي يحمل بداخل رئتيه أنشودة حزن، وكأنه يحرث البحر بنظراته، هذا الذى هو عنوان الصمود وهو السند وقت الشدة، ليس فقط نوعاً من ذكر المحاسن أو الفضائل لكونه أباً، ولكنها حالة إعجاب بهذا النموذج الذي رغم وحدته قادر على فعل الكثير، قادر على المواجهة والصمود لفترة أطول.
5
جاءت مشهدية غبريس رقيقة، منسجمة مع أسلوب كتابته الذي يميل إلى تبني حالة عبارة عن مزيج متجانس بين الرقة والرومانسية، حتى في المواقف الصعبة – أو التي هكذا تبدو ـ فرغم مسحة الحزن التى تلف النص، إلا أنه حزن نبيل، استخدم للتعبير عنه بنية لغوية تجمع بين العمق الدلالي والبساطة التعبيرية، فالمفردات ليست بالمهجورة أو المعجمية، ولا أيضا بالمنحوتة أو المشتقة، ولكنها مألوفة وواضحة أيضاً، إذن من أين تأتى جمالية التركيب؟ الجواب يكمن في إعادة تشكيل العلاقات بين تلك المفردات، لتتنتج صياغة لغوية تركيبية مغايرة، فالإبهار ليس في المفردات بذاتها، ولكن في كيفية تكوين روابط جديدة بين هذه المفردات تمنح النص مرونة وتجدد، بحيث يجد المتلقي أفقاً ممتداً للتأويل.
في قصيدة (حلم) يقول:
لأول مرة
سيزوروني حلم الربيع
بكامل الأوصاف
يبصرني ولست أراه
أحاول حقنه بدمي وصوتي
لا أريد سواه!
أنا الآتي من المنفى
الملم ذكرياتي
خلسة
أهفو إلى لقياه
لأول مرة تنتابني
رغبات منتصر
سأخلع معطفي هذا المساء
وأرتدي رؤياه
سأسكب في جرار الضوء ذاكرتي
وأعبر في دفاتر دمعتي مسراه
تبدو نزعة الثقة فيما يحمله المستقبل أكثر وضوحاً، حيث ثمة تمرد على ما هو قائم من حالة سكون، حتى وإن كان هذا السكون لصيقاً بالذكريات، ففي أحيان كثيرة يتطلب الأمر إلقاء حجر في الماء الراكد، وقد كان، فاستشراف المستقبل وتغيير الوضع القائم في محاولة للتماس مع وهج الانتصار، كل هذه الاشياء أصبحت معطيات جديدة، يتقدم فيها القرار على التذكر وتحديد المواقف على الهلامية، إذن هو موقف يتبناه الطرح الشعري، ربما ليعادل به رتابة الواقع.
6
ربما رؤيه جديدة. تتناسب مع آنية اللحظة التي لم تعد تتسق مع حالة التذكر واستدعاء الماضي حتى على مستوى اللغة، فقد تغيرت أفعال الماضي التي كانت هي السمة السائدة إلى أفعال المستقبل (سيزوروني – سأخلع – سأسكب) ليتواءم هذا الطرح مع الرغبة في التغيير التي جاءت ليس للاعتراض أو التمرد على حالة الوله بالذكريات، ولكن لتؤسس مرحلة تالية لها، وتجعلها منطلقاً لما هو قادم، ربما يمثل هذا الطرح رغبة ما في الإبتعاد ولو قليلاً عن فكرة الجمود وعدم القابلية للتغير، وأنه يمكن أن تكون هناك أدوار أخرى تنتظر من يقوم بها بعد أن نلملم الذكريات ـ ولو مؤقتاً ـ استعداداً لما هو آت. هكذا كان طرح غبريس الشعري من خلال ديوانه (جرارالضوء) أقرب ما يكون إلى عملية غوص في أعماق النفس البشرية تبحث عما كان وتنتظر بتأهب ما هو قادم.
مترجم وناقد أدبي
من مواليد مصر عام 1975
تخرج من قسم اللغة الانجليزية – كلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1998
عمل في مجال الترجمة وتدريس اللغة الانجليزية
شارك في مؤتمرات أدبية وثقافية في الوطن العربي (تونس ـ ليبيا ـ الأردن ـ سوريا ـ بالإضافة الى مصر والإمارات),.
نشر تراجم ودراسات في بعض المجلات الادبية منها: (دبي الثقافية – الثقافة الجديدة – إبداع – أدب ونقد – الكرمة – الرافد),.
صدر له ديون شعر من وزارة الثقافة المصرية عام 2001
له دراسات نقدية بعنوان
– أزمة التلقي
– ترجمة الشعر .. إبداع مواز
– شكاوى الفلاح الفصيح .. جوهرة الأدب الفرعوني
– كتاب الموتى- سفر الخروج إلى النهار
له دراسات نقدية تطبيقية على أعمال بعض الشعراء بعنوان:
ـ احتفالية المفردة .. بناء آخر
ـ ثنائية البوح
ترجم إلى العربية:
ـ مختارات من الشعر الايرلندي المعاصر
ـ نماذج من الشعر الاسكتلندي الحديث
كما ترجم أيضاً نصوصاً من الشعر الياباني
يعمل الآن معلم لغة انجليزية بمدرسة الامل للصم ـ مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية