(يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك)
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أحد علماء عصره الأفذاذ.. ترك أطماع الحياة. وأقبل غير مدبر على ما عند الله.. فكان زاهداً مخبتاً.. ورعاً متثبتاً.. ذاك هو التابعي أبو يزيد الربيع بن خيثم الثروي.. الذي أصابه الفالج (الشلل) فما فتئت سيرته تعبق بكثير من المواقف الإيمانية أمام ابتلاء جلل رحّب به بثبات وصبر ويقين.
لازم الربيعُ بن خيثم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه الذي ملأ صدره تقديراً له.. وإعجاباً به.. حتى أن قال ابن مسعود له يوماً: يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبّك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين.. كما قال عنه الشعبي: كان الربيع من معادن الصدق، وكان أورع أصحاب ابن مسعود.
وللهِ درّه.. فقد انهمرَ الإيمان كثّاً إلى قلبه.. استوطن عمقه وحفّ جوانبه.. ورفّ بين جوانحه.. ورغم أنّ الفالج قد ألحّ عليه.. وأجهض السهادُ راحة مقلتيْه.. فلم يضع جنبه ليلة على مضجعه.. يكابد ألمه ووجعه.. وهو يقول: ما أودُّ أن يكون مثل هذا الألم في مسلم أو كافر.
ويطرق قلب ابنته البارّة سؤال يخالط لواعجها.. لتحتسي من رقيق مشاعرها ما يدك قلبها المضطرم لحال أبيها.. حين حاك ثوب ليله بهجر رقاده: (يا أبتاه.. ألا تنام؟) فيرد عليها بحنو الأب.. وبروح الفارس المتأهب: (كيف ينام يا ابنتي من يخاف البيات!!؟؟).
ورغم أنه يعي كرم ربّه وجليل عطاياه.. فلم يكن يصلي صلاة مكتوبة إلا في المسجد.. فقد كان معلّق القلب والعقل به.. يأتي إليه محمولاً.. فأراد أصحابه نصحه لأن يؤدي صلاته في بيته؛ ذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد رخص له في ذلك.. لكن روحه تظل خجلى أمام ما تستمع من نداء الحقّ في حي على الفلاح، فأراد أن يلبي النداء ولو حبواً.
نعم.. لقد كان الربيع بن خيثم صبوراً على العبادة..إذا سجد خلته ثوباً مطروحاً وربما وقفت عليه العصافير.
ولعله قد أصر على احتساب الاجر عند الله تعالى.. بعد أن رحّب بمرضه أيما ترحيب.. فقد قيل له: لو تداويت.. فقال: لقد تداوى من قبلي أقوام كان فيهم مرضى وأطباء فما بقي المداوي ولا المداوى.. ذكرت عاداً وثموداً وأصحاب الرسّ وقروناً بين ذلك كثيراً تداووا فما عاش المريض ولا الطبيب.
ومن أجمل ما في سيرته رحمه الله حفظه لسرّه.. وضبطه لجهره.. وكتمانه لأمره.. وربما دخل عليه أحد وهو يقرأ القرآن.. فيغطي المصحف حتى لا يرى وهو يقرأ.. حيث قال: كل عمل لا يُراد به وجه الله يضمحل.
كما كان يعهد إليه بأن منطقه الذّكر.. وصمته الفكر.. ونطقه الشكر.. إذ يقول: أقلّوا الكلام إلا بتسع: تسبيح، وتكبير، وتهليل، وتحميد، وسؤالك الخير، وتعوذك من الشرّ، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءة القرآن.
وها هو مداد الومض والنبض يمتزج بدواةِ دعاءٍ كان يردّده الربيع بن خيثم يمثّل افتقاره لربه.. وإقراره لذنبه: (أشكو إليك حاجة لا يُحسن بثها إلا إليك.. وأستغفر منها وأتوب إليك).
فطوبي لك يا أبا يزيد.. فقد كنت بجميل فعالك وكريم خصالك وجمّ فضائلك أنموذجاً يقتدى لمن لم تنحه إعاقته على أن يكون علماً من أعلام الإسلام ومفخرة.. ورحمة من الله واسعة.