يلقى الأدب الوثائقي في السنوات الأخيرة اهتماماً واسعاً، سواء في الأوساط الثقافية أو لدى القراء في شتى بلاد العالم. ويتمثل ذلك في الإقبال المتزايد على الرواية الوثائقية أوغير الخيالية، والمذكرات الشخصية، وسير حياة المشاهير وبعض الأنواع الأخرى من الكتابة التي تدخل ضمن مفهوم (نون فيكشن ـ واقعي أو غير خيالي). ويمكن تفسير هذا التحول نحو أدب الحقيقة، بأن القارئ المعاصر يشعر بالتعب من أوهام الحياة، ومتعطش للأدب الواقعي. وأن التقنيات الفنية للرواية التقليدية قد استهلكت وابتذلت، وهي عاجزة عن الوفاء بحاجة التعبير بالقوة المطلوبة والعمق المنشود عن الأحداث الدراماتيكية لعصرنا الراهن، ولا بد من البحث عن وسائل تعبيرية جديدة لتجسيد الواقع الجديد، الذي يتغير أمام أنظارنا بوتائر متسارعة. وسنحاول في هذا البحث المركز استجلاء بعض أوجه الاختلاف والتشابه بين الرواية الخيالية والرواية غير الخيالية التي يطلق عليها في الأدب العالمي اسم (الرواية الفنية ـ الوثائقية).
قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاً بين الرواية الخيالية، والرواية الفنية – الوثائقية، حيث نجد في النوع الأول أن المؤلف يتخفى وراء قناع الراوي العليم ويستخدم مجموعة من التقنيات الفنية التقليدية لنسج الأحداث، ورسم الشخصيات الوهمية، وتصوير ما تقوم به من أعمال، والتحكم في لغة الحوار، وهي في مجملها تشغل مساحة واسعة في الفضاء السردي. أمّا مؤلف الرواية الفنية – الوثائقية فإنه لا يتدخل في سير الأحداث وكل شيء في الرواية واقعي وحقيقي ويقوم على ملاحظات المؤلف وتأملاته.
إن التناقض الظاهري بين هذين النوعين من فن الرواية يزول إذا عرفنا أن العمل الأساسي للمؤلف في النوعين كليهما هو انتقاء المواد وهيكلتها وصياغتها فنياً وجمالياً. وإن كان ثمة اختلاف واضح في مدى استخدام عنصر الخيال. ولكن ليست هناك حدود فاصلة بينهما. فهما ذات طبيعة واحدة.
عصر أدب الحقيقة
في السرد القصصي الخيالي يقوم المؤلف بتغيير المادة الخام وتحويلها ومزجها بالخيال لصياغة مادة جديدة، تختلف عن المادة الخام إلى حد كبير، وباختلاق المواقف والشخصيات الوهمية والتلاعب بها وتحريكها حسب رؤيته. وقد جَرَّبَ كتاب الرواية الخيالية كل الموضوعات الحياتية والحبكات الممكنة في البناء الروائي والأنواع الرئيسية من الصراعات، وخصائص الشخصيات، وحتى أساليب الكتابة الروائية
يقول الروائي الإنجليزي البارز جون فاولز: إنه يشعر بالإشمئزاز من ذلك الكذب الذي لا مفر منه، الذي يشكل أساس الأدب الروائي الخيالي.
كان القرن العشرون حافلاً بأحداث دراماتيكية لم تكن تخطر على البال، ولم يكن بمقدور أي كاتب أن يتنبأ بها أو يجسدها، مهما كان خصب الخيال. لذا فإن، مؤرخي ونقاد الأدب لا يزالون يتساءلون كيف تسنّى لأيليا اهرنبورغ أن يتنبأ في روايته البكر (مغامرات خوليو خرينيتو) – الذي صدر في عام 1921 – بظهور الفاشية وصنع القنبلة الذرية. ولكن هذه الحالات نادرة، لأن الأدب – على النقيض من الحياة – منطقي وعقلاني ومنسق.
كيف يمكن تفسير ظهور النازية في بلد متحضر مثل ألمانيا – الظواهر غير المنطقية لا يجوز تصويرها بتقنيات الأدب التقليدي من قبيل التحليل النفسي مع انتقال المؤلف إلى موقف البطل.
لقد كتبت مئات الروايات الفنية عن أهوال التعذيب في معسكرات الاعتقال الستالينية، والعمل القسري في أصقاع سيبيريا، في ظروف قاسية، فوق طاقة البشر، من برد وجوع وإنهاك روحي وجسدي. ومع ذلك فإن قصص (حكايات كليما) الواقعية للكاتب الروسي شالاموف، التي تستند إلى معاناة الكاتب الرهيبة وذكرياته الأليمة عن فترة الاعتقال، هي التي عرّت بقوة وعمق نادرين وحشية النظام الستاليني، الذي ألقى بملايين الأبرياء في غياهب السجون والمعتقلات الرهيبة، وقد قضى شالاموف نفسه 17 عاماً في معتقل كليما في سيبيريا. وأطلق سراحه بعد العفو الخروشوفي الذي شمل القسم الأكبر من السجناء والمعتقلين، الذين ظلوا يتذكرون في كل يوم، بل في كل لحظة، وحتى آخر يوم في الحياة، ما عانوه من تعذيب وإذلال وإهانة.
شالاموف على النقيض من سولجينتسين، يعتقد أن التعذيب لا يطهّر الإنسان بل يجرده من إنسانيته. هذه القصص الواقعية المرعبة يقشعر لها البدن ويعتصر القلب لفظاعتها، وهي أبلغ وأقوى من آلاف الروايات الفنية المتقنة الصنع، وقد ترجمت (حكايات كليما) إلى عشرات اللغات الحية في العالم، وقال عنها مؤرخو ونقاد الأدب في الغرب، إنها من أفضل ما كتب من قصص في القرن العشرين.
لمحة عن تأريخ الرواية الفنية ـ الوثائقية
الروايات التاريخية والسير الذاتية غالباً ما تستخدم الطرق السردية لروايات الخيال (فيكشن) في تصوير الأحداث الحقيقية، كما أن معظم كتاب الرواية الكلاسيكية استخدموا تجاربهم الحياتية كمادة خام للكتابة ولكن من وراء قناع الشخصيات، واختلاق المشاهد والمواقف في سبيل جعل النص شائقاً وممتعاً. ونحن نتذكر هنا قول جوستاف فلوبير الذي تحدث عن رواية (مدام بوفاري) قائلاً: (إن ايما هي أنا). في حين أن الرواية الفنية – الوثائقية تقوم على الموضوعية والحياد وقد يزيل المؤلف نفسه من الصورة تماماً. لقد كتب العديد من الكتاب الكلاسيكيين نتاجات تستند إلى أحداث حقيقية ولكنها لم تكن روايات بل قصصاً صحفية وريبورتاجات طويلة.
كان الكاتب والصحفي الأرجنتيني رودولفو والش، أول من كتب رواية فنية ـ وثائقية في العام 1957 تحت عنوان (المذبحة) عن جريمة قتل حقيقية. ولكن هذه الرواية لم تلق نجاحاً كبيراً.
الرواية الفنية ـ الوثائقية كجنس أدبي لم يتم الاعتراف به على نطاق واسع، إلا في العام 1965 بصدور رواية (بدم بارد) للكاتب الأميركي ترومان كابوتي. كان كابوتي قد قرأ في الصحف عن جريمة قتل، وأثارت هذه الجريمة ـ لسبب غير معروف ـ اهتمامه الشديد. وسافر إلى البلدة التي وقعت فيها الجريمة وأجرى مقابلات صحفية مع القاتلين ريتشارد هيكوك وبيري سميث. وقضى عدة سنوات في متابعة هذه القصة وأمضى وقتاً طويلاً مع من لهم علاقة بها وفي الاستماع إلى التسجيلات ومشاهدة الأفلام الخاصة بالجريمة، وقراءة محاضر جلسات المحاكمة. وقال إن كل شيء في الكتاب مطابق للواقع..
وكان هذا يعني أن المؤلف قادر على خلق شخصيات روائية من الواقع، مما يجعل تفاصيل الرواية دقيقة للغاية. كما أن الطريقة الموضوعية التي اتبعها كابوتي تدل على أن المؤلف لم يغير أي شيء يذكر في الظروف المحيطة بالجريمة والتي وصفها في روايته.
إن رواية (بدم بارد)، رغم أحداثها الحقيقية، عمل إبداعي رائع ومشوق ويتسم بقيمة فنية عالية، وقد برهن كابوتي أن المهارة الفنية في البناء الروائي والصياغة والأسلوب الرشيق المقتضب والمتقن هي التي تخلق الرواية ذات القيمة الفنية العالية، سواء كانت خيالية أم واقعية تستمد أحداثها من الحياة اليومية.
بعد تجربة كابوتي الناجحة، جرّب العديد من الروائيين الأميركيين والأوروبيين هذا الجنس الأدبي، منهم هنتر تومسون في رواية (جحيم الملائكة) 1966، ونورمان ميلر في رواية (جيوش الليل) 1968 – وهي من أفضل روايات الكاتب، وقد نال عنها أرفع جائزة أدبية أميركية وهي جائزة (بوليتزر)، مما أثار حفيظة كابوتي الذي كانت روايته (بدم بارد) أفضل بكثير من رواية (جيوش الليل) بشهادة الزمن – وتوم وولف في رواية (الفحص الكهربائي لحمض الإسعاف البارد). وسولجنيتسن في رواية (أرخبيل الغولاغ). ولم يكن هذا النوع من الروايات ظاهرة عابرة أو مؤقتة، لأننا نرى اليوم انها أخذت تنافس بقوة الرواية الخيالية وتزيحها عن عرش الرواية.
مفهوم الرواية الوثائقية في الأدب العربي
مفهوم الرواية الفنية ـ الوثائقية في الآداب الأوروبية والأميركية، يختلف جذرياً عن الرواية الوثائقية أو التسجيلية العربية، التي يكتفي فيها المؤلف بتسجيل الحوادث والعرض المباشر للواقع كما تفعل كتب التأريخ، من دون إنتقاء الأحداث والمواقف والتفاصيل الدالة ومن دون الصياغة الفنية والجمالية للرواية.
السمة الرئيسية للرواية الفنية ـ الوثائقية، هي رصد الواقع عبر معالجة خلاقة، ورسم صورة حية ومشرقة للأحداث، قد تكون أكثر تشويقاً وإثارة من الرواية الخيالية.
ليس في الأدب العربي اليوم عموماً، وفي الأدب العراقي خصوصاً، رواية فنية ـ وثائقية – بالمعنى المعروف لهذا المصطلح في الأدب العالمي – ترتفع إلى مستوى الروايات الغربية أو الروسية من هذا النوع ، رغم أن بلدان الشرق الأوسط شهدت أحداثاً دراماتيكية مروعة تستحق أن يكتب عنها مئات الروايات الفنية – الوثائقية، أما محاولة البعض اللجوء إلى الخيال لتجسيد تلك الأحداث، فإن أقل ما يقال عنها أنها تثير الاستغراب، إن لم يكن الاشمئزاز، لأن تحريف الواقع المأساوي وتجميله هو تغطية لقسوته ولاإنسانيته، مهما كانت نيات أصحاب مثل هذه المحاولات حسنة وبريئة.
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.