من أتيح له أن يتعمق فيما خلفه البردوني من آثار قيمة وما أحدثه في حركة الشعر العربي حتى يومنا هذا، يدرك عظم إرادة هذا الرجل المبدع الذي استطاع رغم عماه أن يتبوأ مكانة عالية في تاريخنا الأدبي الحديث والمعاصر. ويكفيه أننا عندما نتذكره في مناسبة رحيله نتذكر قمماً شامخة في أدبنا العربي كبشار بن برد وطه حسين.. جمعهم الكفف ووحد بينهم الالهام والابداع.
لقد اتشحت النفوس لفقده بالسواد وغطت كلمات تقريظه صفحات الجرائد اليومية وكلهم عدد مآثره وأثنى على مكانته ودوره ليس فقط في مجال الأدب والشعر والنقد بل تعداه إلى آرائه في السياسة ونقده الذي يأخذ بالايجابيات قبل السلبيات.. إلا أن قليلاً مما قيل فيه أتى على موضوع كففه وأثره في التراث الذي خلفه.. ولم يكن الحال هكذا مع من سبقوه من شعراء وأدباء مكفوفين، فكتب الكثير عنهم وعن أثر العين في شعر بشار وكذلك أثر الكفف في طه حسين وغيرهم.. فحريّ بنا ونحن نقف باجلال في هذه المناسبة أن نكون أكثر انصافاً لهذا الرجل الذي إن قيس ابداعه بابداع المبصرين لأعطي ضعف ما حصلوه بسبب ما نراه من اتقاد بصيرته مقابل فقدان بصره.
كتب الدكتور عبد العزيز المقالح عنه: (البردوني شاعر مجدد ليس في محتويات القصيدة فحسب، بل في بناء هذه القصائد القائم على تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية، وقد انتهى في السنوات الأخيرة إلى نوع من السريالية وهي أقرب ما تكون إلى ما يسمى باللامعقول).
رحل هذا المبدع يوم الاثنين الثلاثين من أغسطس / آب 1999 بعد مرض ألم به، وهو من مواليد عام 1929 في قرية البردون من أعمال الحداء في محافظة ذمار (150 كلم جنوب العاصمة صنعاء).
وجاء في نعي رئاسة الجمهورية اليمنية له: (من رواد الكلمة وقادة الرأي وأرباب القلم.. رحل المناضل الوطني الكبير والأديب والشاعر الكبير الأستاذ عبد الله البردوني عن عمر يناهر الـ 70 عاماً).
فقد بصره وهو في الرابعة من عمره بعد إصابته بمرض الجدري وعجزت أسرته وقتها عن معالجته. تلقى تعليمه الأولي في مدرسة الشمسية بذمار، ثم المدرسة العلمية بصفاء وتخرج من شعبة الغابة، وكانت الشعبة النهائية في منهاج المدرسة الأشبه بمنهاج الأزهر الشريف.
عيّن في المدرسة ذاتها مدرساً لتاريخ الأدب العربي والتاريخ السياسي، تعرض للسجن عدة مرات قبل ثورة 1963 بسبب قصائده المعارضة للطغيان والجبروت.
بدأ ينظم الشعر ولم يزد عمره عن 13 سنة، له 26 كتاباً منها 15 ديواناً شعرياً ترجم الكثير منها إلى اللغات الأجنبية، وأول دواوينه (من أرض بلقيس) سنة 1961، ومن مجموعاته الشعرية: في طريق الفجر، مدينة الغد، لعيني أم بلقيس، السفر إلى الأيام الخضر، وجوه دخانية في مرايا الليل، زمان بلا نوعية، كائنات الشوق الآخر، رواغ المصابيح، ترجمة رملية لأعراس الغبار وجواب العصور، وفي مجال الدراسات كتب في قضايا يمنية، رحلة في الشعر اليمني وفنون الأدبي الشعبي في اليمن، وآخر كتاب صدر له العام الماضي عنوانه: (شتات)، وقيد الصدور: الجديد والمتجدد في الأدب اليمني، رجال ومواقف ومن أول قصيدة إلى آخر رصاصة في حياة الزبيري.
حصل على عدد من الجوائز والأوسمة منها: تكريمه من قبل اليونسكو باصدار عملة فضية تذكارية تحمل صورته واسمه (سنة 1981)، وسام الأدب والفنون سنة 1982 من صنعاء، وذات الوسام في سنة 1984، جائزة سلطان العويس في دورتها الثانية وخصص قيمتها لإعادة اصدار كتبه السابقة وطرحها في الأسواق العربية بأسعار زهيدة، وآخر الجوائز جائزة البابطين الشعرية.