سألتني صديقة لي عن سبب ولعي بالشعر لأنها تظن أن الشعر لا يعدو كونه أكثر من وصف للطبيعة والأحاسيس الإنسانية واستخدام مفردات لا يعرف الناس معانيها أو عبارات لا يفهمها القراء!). أذهلتني وجهة النظر هذه ودفعتني للتيقن من احتمال إيمان الكثير من الناس بها، لكنني لحسن الحظ وجدت أن عدداً محدوداً فحسب يؤمن بهذا الرأي. بعد ذلك أخبرني أحد الأصدقاء بأن الشعر (وسيلة يلجأ اليها الأشخاص الانطوائيون للتواصل مع العالم لما يعتريهم من خجل يمنعهم من الإفصاح عن آرائهم بشكل مباشر أو هو وسيلة لنظم المفردات اللغوية شعراً أو استخدام المفردات بشكل يجعل بقية الناس يشعرون بالصمت!!).
شعرت بصوت مدو ينطلق من داخلي: (الشعر أبعد من ذلك بكثير. أنه لا يقتصر على الجانب الأدبي فحسب إنما يمتد إلى الجوانب الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية. ولعل من الجوانب المهمة ذات الصلة التي يهملها الناس قوة الشعر التي يمكن أن تستنفر لإحداث التغيير الاجتماعي أو زيادة الوعي إزاء الكثير من القضايا التي يغفل عنها الناس. وأحد الأمثلة عن ذلك جائزة الشعر الخاصة بحقوق الإنسان لعام 2005 التي نظمتها الشبكة الطلابية العالمية لحقوق الإنسان UHRSN تحت شعار: (اللاجئون ورسالتهم إلى أوربا). وقد تحمست كثيراً لمعرفة نتائج هذه المنافسة الشعرية وقراءة القصائد الفائزة. وقد أثارني كثيرا ما تحقق من نجاح في دمج الشعر بحقوق الإنسان وفي ربط اللغة الجميلة بالتغيير الاجتماعي.
جاءت القصائد المتميزة التي تم اختيارها من بين القصائد المتنافسة قوية ومؤثرة دفعتني لقراءتها كلمة كلمة طوال يوم كامل واستنشاق أحاسيسها. وقد عبرت إحدى تلك القصائد التي كتبها ماريون أوسيو Marion Osieyo بعنوان (العبور) Crossing عن الألم الذي يشعر به المهاجرون وعن القلق المؤلم الذي ينتابهم بسبب الفراق. تبدأ القصيدة بهذه الأبيات:
سمع قصصاً عن الناس،
في زوارق مقلوبة،
يبتلعون مياهاً مالحة في أكواب صغيرة
وعلى ألسنتهم:
(اللهم عونك!)
أدهشتني الصور الشعرية التي ضمتها تلك الأبيات رغم بساطة لغتها التي احتضنت معان عميقة. وتطرقت قصيدة ثانية إلى إيلان الكردي، ذلك الطفل السوري ذو الثلاث سنوات الذي غرق في مياه البحر الأبيض المتوسط. لقد أثارتني كثيراً صورة ذلك الطفل الصغير البريء المطروح دون حراك على الساحل! لكن القصيدة التي قرأتها والموسومة (إلى إيلان) للشاعرة لورا تايلور Laura Taylor أضفت المزيد على ذلك ففي حين أن الصورة آلمتني كثيراً فإن القصيدة عمقت ذلك الألم. تبدأ القصيدة:
أردتك أن تعرف
بأن عظامك الجميلة لم تذهب سدى
وبأن جسدك الصغير المرمي على الساحل
أيقظ العالم من سباته
ليراك هناك.
لقد جعلتني مسابقة الشعر لعام 2015 أنتبه إلى حياة اللاجئين وتطلعاتهم فقصيدة سوجيا جوزيف Sowjeya Joseph الموسومة (أنا هنا يا أوروبا) حفزتني للتعرف على ما يجول في أذهان اللاجئين من آمال وأحلام لا تحصى تتوارى خلف المخاوف والآلام التي تنتابهم. لقد دبجت القصيدة بلغة سلسة تنطلق منها التطلعات والأهداف والآمال المستقبلية فهؤلاء اللاجئون لا يتوجهون إلى منطقة جديدة وهم أسرى الخوف والذعر، إنما غدوا ينظرون إليها باعتبارها فرصة ذهبية للإندماج في المجتمع ليستعيدوا ما سرقته الشدائد منهم! يقول سوجيا جوزيف:
أنا هنا أوروبا،
لم أترك شيئاً خلفي
فلا بيت ولا أمتعة
ولا حتى صورتي الشخصية
لكن الأمل يحدوني
أن أجد السلام والقبول وبعض السعادة.
منذ سنوات طويلة بعث لي جدي وهو قارئ نهم للشعر قصيدة كتبها طفل أفريقي صغير. كانت قصيدة قصيرة مفرداتها عفوية موشاة بالعاطفة تحمل في طياتها الإرادة في التغيير وتسعى لنقل مظالم ثقافة بلده إلى أنظار العالم. لقد رشحت هذه القصيدة لتحرز لقب أفضل قصيدة لعام 2005. لقد جعلتني هذه القصيدة أتلمس قوة الشعر المطلقة في إحداث التغيير الاجتماعي وفي إماطة اللثام عن الأصوات المقموعة وفي زيادة الوعي. في أدناه القصيدة التي خطها يراع ذلك الطفل الأفريقي:
ولدت أسود البشرة
وحين كبرت بقيت أسودا
حين أقف في الشمس أظل أسودا
وحين أشعر بالفزع أبقى أسودا
وحين أمرض يلازمني السواد
وحين أموت لا يتغير لوني الأسود.
وأنت أيها الإنسان الأبيض
فلونك القرنفل عند الولادة
وحين تكبر تغدو أبيض
وحين تقف في الشمس يحمرّ جلدك
وحين تصاب بالزكام تزرق سحنتك
وحين تفزع يصفرّ لونك
وفي مرضك تغدو أخضرا
وحين تموت تغدو رماديا
وأنت تدعوني ملوّناً بعد هذا؟!
نخلص إلى القول إن الشعر لا يعني استخدام مفردات لا يفهم نصف الناس معناها أو وصف أفكار وأحاسيس لا تمت بصلة لأحد. إن رسالة الشعر في تقريب الناس بعضهم مع بعض الآخر وفي مناشدة الإنسانية الكامنة في كل واحد منا.
المصدر: هنا