في أوائل الستينات من القرن الفائت توصل عدد من الصحفيين الشباب في الولايات المتحدة الأميركية – خلال عملهم كمراسين ميدانيين لعدد من الصحف والمجلات الأميركية الشهيرة التي تخاطب النخب المثقفة – إلى إكتشاف مهم مفاده أن المقال أو التحقيق الصحفي – الذي ينطلق من الواقع – ينبغي أن يصاغ على نحو يمكن قراءته مثل قصة مشوقة، وأنه يمكن في الصحافة وفي النثر غير الفني (نون فيكشن) استخدام كل التقنيات الروائية وبضمنها الوصف، والحوار، وتيار الوعي، وتطبيق هذه التقنيات في وقت واحد، أو الواحدة تلو الأخرى، مما يضفي على النص جاذبية تثير اهتمام القارىء وتدفعه إلى التفكير.
لم تكن تجارب هؤلاء الصحفيين تقليداً لفن الرواية، بل محاولة للتعبير عن الظواهر الجديدة في المجتمع الأميركي على نحو صادق وجذاب يترك أثراً عميقا في نفس القارىء، وبذلك اتسعت الحدود التقليدية للصحافة والنثر الفني (الرواية، والقصة) في آن واحد. وعرف هذا الإتجاه الجديد بـ (الصحافة الجديدة) وأعقب هذا الإكتشاف المثير ظهور جنس أدبي جديد اطلق عليه اسم (الرواية غير الخيالية – نون فيكشن نوفيل) وهي بصفة عامة، تصور شخصيات حقيقية وأحداث واقعية من الحياة، باستخدام تقنيات السرد القصصي. وهوجنس مرن، يقع على تخوم الصحافة والأدب أو بتعبير أدق يمزج بينهما.. ويطلق عليه أحياناً الاسم الدارج (فاكشن) من الكلمتين الإنجليزيتين (فاكت – حقيقة أو واقعة) و(فيكشن ـ رواية أو خيال).
لم يتعمد روّاد الصحافة الجديدة استعارة التقنيات الروائية عن قصد، بل اكتشفوا هذه التقنيات بتلقائية عند محاولتهم تناول القضايا الساخنة وجعل المادة الصحفية صادقة إلى أقصى حد ممكن ومثيرة، برسم صورة حية لما يحدث في الواقع ومنح القارىء شعوراً بالإندماج فيها بكل أحاسيسه.
ازدهرت الصحافة الجديدة بين عامي (1962 – 1973) أي في العقد الصاخب الذي حدثت فيه تغييرات عميقة في المجتمع الأميركي، تجلت في تطور نمط الحياة ومظاهره الجديدة. كان ذلك زمن الإحتجاجات والتظاهرات الحاشدة ضد الحرب في فيتنام، وزمن الثورات (الطلابية، والجنسية، والعرقية)، وحركة اليساريين الجدد، وظاهرة الهيبيز، أو باختصار: زمن الثقافة المضادة.
(الصحفيون الجدد) الذين تبنوا الإتجاه الجديد لم يكونوا يكتبون مقالاتهم وتحقيقاتهم الصحفية من وحي الخيال ولا يستقون المعلومات من هذا المصدر أو ذاك، بل كانوا يكتبون ما عايشوه في مواقع الأحداث، بعضهم سافر إلى فيتنام ليس مراسلاً صحفياً عادياً، بل مشاركاً في جبهات القتال، والبعض الآخر عمل في هذه المهنة أو تلك، أو انخرط في مجموعة معينة من أجل دراستها من الداخل مثل (الهيبيز، أو تجار المخدرات.. الخ)، ومثل هذه الحالات كثيرة للغاية. أي أن الصحفي الجديد كان مشاركاً فعالاً في (القصة) التي يكتبها أو شاهدا عليها في الأقل.
لم يكن الكاتب والصحفي الأميركي الشهير (توم وولف ـ ولد عام 1931) أول من أطلق مصطلح (الصحافة الجديدة) على هذا الأسلوب الصحفي المثير للجدل – كما يعتقد البعض -، فهو يقول إنه قرأ في عام 1962 في مجلة (اسكواير) مقالاً للكاتب (هاي تاليس) تحت عنوان: (جو لويس ـ ملك في عنفوان الشباب) يختلف تماماً عن المقالات الأخرى في أسلوب صياغته وكان أشبه بسرد قصصي من حيث احتوائه على مشاهد عاطفية وحوارات حميمة بين رجل وزوجته في المطار. ويضيف وولف: (إذا غيّرنا هذا المقال قليلاً ستكون لدينا قصة قصيرة متكاملة الأركان). كان انطباع (وولف) الأول أن المقال غريب، والحوار متصنع، وحتى المَشاهد يمكن أن لا تكون لها أي علاقة بالواقع، وأن الكاتب لا يعرف كيف يكتب مقالاً جيداً!. وكان هذا رأي عدد من الكتاب والصحفيين أيضاً. لأن الصحافة وفن السرد القصصي – في رأيهم – على طرفي نقيض.
ثم كتب (جيمي بريسلين) في عموده الصحفي انطباعاته عن حادثة كان شاهداً عليها – بأسلوب قصصي، ولم يكن حظه أفضل من حظ سلفه. ويعلق وولف على ذلك قائلاً: (إن النظرة التقليدية إلى الفن كالنظرة إلى الدين أو إلى شيء مقدس. والروائي الفنان، صاحب المعجزات المقدسة هو الذي يأتيه الإلهام مثل ومضة خاطفة تنير ذهنه فيبدع عملاً فنياً.. هكذا كان يعمل عمالقة الرواية في العالم. أما الصحافة فلا شأن لها بالإلهام ولا بالعبقرية). ولكن رغم هذه النظرة التقليدية ومحاولات النيل من الأسلوب الصحفي الجديد، إلا أنه حقق نجاحاَ باهراً بين القراء وحرك المياه الراكدة في الصحافة الأميركية).
وتتابعت المقالات والتحقيقات الصحفية وفق الأسلوب الجديد الممتع وأخذ هذا الإتجاه الصحفي يترسخ وينتزع الإعتراف حتى من المعارضين له في بداية ظهوره. وفي الفترة ذاتها ظهرت روايات وثائقية ذات قيمة فنية عالية، لعدد من الروائيين الأميركيين المشهورين، منها رائعة ترومان كابوتي (بدم بارد) الصادرة في عام 1965 ورواية نورمان ميلر (جيوش الظلام) الصادرة في عام 1967.
أنطولوجيا الصحافة الجديدة
في عام 1973 نشر (توم وولف) كتاباً تحت عنوان: (أنطولوجيا الصحافة الجديدة)، يتضمن دراسة تؤرخ لهذه الإتجاه الطليعي في الصحافة الأميركية، ومقتطفات من روايات (نون فيكشن) – اختارها بالتعاون مع زميله (أ. جونسون) لعدد من الروائيين الأميركيين المعروفين (كابوتي، هانتر تومبسون، نورمان ميلر، هاي تاليزي، جون ديديون) وغيرهم.
يقول وولف في دراسته: (إن الرواية الأميركية في الستينات وصلت إلى طريق مسدود لأن الكتّاب أداروا ظهورهم للواقعية الإجتماعية، وانغمسوا في الفرويدية، والسيريالية، والكافكاوية، وفي عالم الأساطير. بدل أن يكتبوا على غرار زولا وديكينس وثاكري، وبلزاك).
ويضيف قائلاً: (تخلى الروائيون عن الحياة الأميركية الجديدة، ولم يبق أمام الصحفيين إلا أن يملأوا الفراغ باستخدام تقنيات الرواية الواقعية الإجتماعية، وأصبح واضحاَ أن الصحفين امتلكوا ناصية تقنيات الكتابة بمستوى الروائيين القديرين. والصحافة الجديدة كانت تلبي متطلبات العصر وأكثر إمتاعاً للقارىء).
ويشرح وولف في دراسته التقنيات الأربع الفعالة التي اكتشفها هو وزملاؤه الرواد، وهي حسب أهميتها:
-
تسلسل المشاهد:
تنظيم النص الصحفي بشكل متسلسل والإنتقال من مشهد إلى آخر من دون فواصل استطرادية.
-
الحوار:
تمكن رواد الصحافة الجديدة أن يكونوا مشاركين أو في الأقل شهوداً مباشرين على هذا الحدث أو ذاك في حياة شخوصهم وكتابة حواراتهم كاملة. الصحفيون، كما الروائيون في بداية حياتهم الأدبية اكتشفوا عن طريق التجربة والخطأ، أن الحوارات الواقعية غير المنقحة التي لا تخلو من كلمات عامية وأصوات مثل (آه، أوه) تجتذب القارىء بشكل أقوى بكثير من أي مونولوجات وهي تصور الشخوص على نحو أكمل وأسرع من أي وصف.
كان بوسع ديكينس أن يصوّر البطل على نحو يخيل للقارىء أنه يراه شاخصاً أمامه، رغم أن هذا الوصف لم يكن يتعدى جملتين أو ثلاث، والجزء الأكبر من تشكيل صورة البطل كان عن طريق الحوار). أما عند الصحفيين الجدد فإن الحوار كان طبيعياً للغاية وصريحاً، في حين أن الروائيين كانوا يحاولون جعله غامضاً ومبطناً..
-
وجهة النظر:
عرض الحدث أو الأحداث من وجهة نظر الشخص الثالث (هو). وكل مشهد يقدم من وجهة نظر إحدى الشخصيات التي بوسع القارىء بسهولة أن يضع نفسه مكانها. وبفضل هذا يشعر كأنه يرى بعينيه ما يحدث. ولكن الضمير (هو) لا يستطيع النفاذ إلى دواخل الشخصيات.
الصحفيون الجدد كتبوا أيضاً بالضمير الأول (أنا) الذي يعد أكثر الضمائر قدرة على الكشف عن مكنونات الذات ـ كما في السير الذاتية والمذكرات وبعض الروايات. ولكن أحياناً كانت تظهر مواقف حرجة نتيجة لإستخدام الضمير الأول. كان على القارىء أن ينظر إلى ما يجري بعيون الراوي أي الصحفي نفسه ـ ولكن مثل زاوية النظر هذه كانت تبدو غير مناسبة وغير مقبولة. كيف استطاع الصحفي كاتب النص غير الخيالي أن يتغلغل بكل هذا العمق في أفكار شخص آخر؟. الجواب بسيط، حسب رأي وولف: ينبغي معرفة الدوافع التي تحركهم، وبماذا يفكرون عن طريق توجيه الأسئلة إلى الشخص بحيث تتسنى معرفة أفكاره وشعوره وأشياء أخرى.
-
تفاصيل الحالة:
ويتلخص في وصف ما يميز الشخص من إيماءات وحركات وعادات وطبائع، وأسلوبه في الحياة، وعلاقاته في العائلة وفي محل العمل، وآرائه ومعتقداته وغير ذلك مما يميزه عن الآخرين. النص الزاخر بهذه التفصيلات ليس من أجل غاية جمالية، بل لأنها تعطي للواقعية قوة مثل التقنيات الأخرى. وهذا يفسر قدرة بلزاك على خلق الشعور بمشاركة القارىء فيما يجري.
قارىء روايات بلزاك يشعر بالقرب الشديد من الشخوص. لماذا؟ لأن بلزاك كان يستخدم هذا الأسلوب مراراً وتكراراً. ففي روايات بلزاك الناضجة كل تفصيل يدل على الشخصية، مما يجعل القارىء يفكر بوضعه ومكانته في المجتمع وتطلعاته وطموحاته ومخاوفه وإنجازاته واخفاقاته. هكذا يستولى بلزاك على اهتمام القارىء.
والميزة الأساسية للشكل الصحفي الجديد ـ حسب وولف ـ أن القارىء يعلم أن ما يتحدث عنه الصحفي قد حدث فعلاً في الواقع، وأن هذا ليس ثمرة خيال الكاتب.
الصحافة الجديدة في الميزان:
إن معظم النصوص التي اشتملت عليها (أنطولوجيا الصحافة الجديدة) ممتعة حقاً (نتاجات ترومان كابوتي ونورمان ميلر وهانتر تومبسون). ولكن لا يمكن القول أنها مكتوبة وفق التقنيات أوالقواعد الأربع التي تحدث عنها (وولف) في دراسته، وبضمنها نصوص (وولف) نفسه.
صحيح أن وولف يؤكد أنه لا توجد أية قواعد مقدسة للصحافة الجديدة، ولكن ثمة بون واضح بين النتاجات المنشورة في الأنطولوجيا وبين القواعد المذكورة. والغريب أن وولف سمح لنفسه في الملاحظات التي كتبها في (الأنطولوجيا) حول نصوص كل من كابوتي وميلر، أن يوجه لهما نصائح حول كيفية كتابة قصة ناجحة! رغم أن هذين الكاتبين العملاقين كانا يتصدران الصف الأول من الروائيين الأميركيين في النصف الثاني من القرن العشرين. ويقال إن وولف كان متأثراً برواية كابوتي الوثائقية (بدم بارد) سواء خلال عمله في الصحافة أو بعد اتجاهه لكتابة روايات من هذا النوع. ثم أن الكثير من الكتاب الذين ساهموا في الأنطولوجيا لم يعتبروا أنفسهم من الصحفيين الجدد، ولم يكن العمل الصحفي بالنسبة إلى كابوتي أو ميلر عملاً أساسياً بل نشاطاً جانبياً، فهما روائيان قبل أن يكونا صحفيين. يقال أحياناً إن أسلوب الصحافة الجديدة لا يصلح للموضوعات السياسية والإقتصادية، والعكس هو الصحيح، لأن العديد من الصحفيين الجدد كتبوا نصوصاً واقعية بأسلوب أدبي حول الحرب في الفيتنام وعما يحدث في عالم البزنس.
خلال العقود اللاحقة تخطت الصحافة الجديدة حدود الولايات المتحدة الأمريكية وأخذت تنتشر في الصحافة الأوروبية وفي صحافة العديد من بلدان العالم. ويطلق على (الصحافة الجديدة) أحياناً في أيامنا هذه اسم (الصحافة السردية) أي صحافة التحقيقات والنصوص الوثائقية الطويلة نسبياً، المصاغة بأسلوب أدبي ذي وضوح وجمال والتي تنشر في العادة في المجلات التي تخاطب المثقفين. وثمة مجلة روسية اسمها (ستوري ـ القصة) متخصصة في هذا المجال.
ورغم ظهور الأنترنيت والصحافة الرقمية – التي تنشر النصوص القصيرة الواضحة بعيداً عن التقنيات الأدبية – إلا أن الصحافة الجديدة أو السردية تشهد في أيامنا هذه ازدهاراً، مما يدل على أن هذا الأسلوب أو النمط الصحفي، لم يكن ظاهرة عابرة أو نزوة لعدد من الصحفيين، بل إثراء للصحافة الجادة والأدب الواقعي في آن واحد.
(من المحرر:
أُنطولوجيا: (اسم) (الفلسفة والتصوُّف) قسم من الفلسفة مرادف لعلْم ما بعد الطبيعة، يبحث في طبيعة الوجود الأوليَّة، عِلْم الوجود، عِلْم الكائن ـ قاموس المعاني).
جودت هوشيار، مهندس وباحث وكاتب عراقي معروف، أصدر العديد من الكتب الفكرية والأدبية القيمة، منها (ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ) وبموازاة نشاطه الهندسي، كتب مئات الدراسات الفكرية في الصحف والمجلات الرصينة في العراق والعالم العربي. متفرغ حالياً للدراسات الفكرية. نتاجاته تنشر في الصحف والمجلات العربية والعراقية والكردية ومنها (الإتحاد) و(التآخي) و(كل العراق) و(صوت الآخر) وغيرها.. يتقن اللغات العربية والكردية والتركية والروسية والإنجليزية.