بعد 65 عاما من إنتاجه، ظل فيلم (الطريق) مخلصاً، كما يبدو لي، لقضاياه. هذا الفيلم ـ بنظري – أكثر الأفلام أهمية من ضمن أفلام عديدة أخرجها الإيطالي (فيديريكو فيلليني).
يتميز فيلم La Strada بأوضح شكل بسبب الظروف التي سبقت انتاجه أي الحرب العالمية – أنتج عام 1951- لذا ربما يوجد ظن أنه قديم ولديه القليل ليقدمه للمشاهد المعاصر.
حقاً من الصعب ألا نربط الفيلم بهزيمة ايطاليا، أو بمآسي الحرب العالمية عموماً، لكن قضايا الفيلم – كما سنرى – يمكن أن ترتبط بزمن أقدم بكثير / أو زمن يتجاوزنا أيضاً.
افتتح الفيلم بمشهد رمزي نادر يغلفه الحس العذري الرقيق، فقد عمد المخرج إلى توقيت بداية الفيلم على الشاطئ، وتصويره بزاوية جانبية نهاراً، في لقطة عامة بحيث نرى البحر والأمواج وهى تنساب بهدوء وجلال على الرمال، وامتداد الشاطئ البكر الذى تنمو على رماله النباتات… يخلو الشاطئ من الناس عدا شخصية وحيدة (جيلسومينا) ـ الممثلة جولييتا ماسينا – التى لا نرى وجهها خلال هذا المشهد، بل نرى ظهرها الذى يحمل أعواد البوص وحركتها الطفولية.. فكأن مشهد الطبيعة العذري الذى أمامنا هو لوحة مجسمة لنفسية الفتاة.
في اللقطة التالية، يدهشنا ويفجعنا في الوقت ذاته الوجه البريء المليء بالسذاجة والبساطة لجيلسومينا وهو يتقاطع مع الوجه الكئيب والشرس لـ (زامبانو) – أنطوني كوين – وبكاء الأم لموت ابنتها، وطلبها من جيلسومينا أن تحل محلها مع زامبانو.
بتلك الإشارات الرمزية العميقة، يفتتح فيلليني فيلمه، ويضيف إليه عملية شراء جيلسومينا، لينبهنا من البداية إلى ما سنواجهه من صراع بين البراءة والوحشية، والمتاجرة بالرقة من أجل لقمة خبز لأطفال جائعين.
يشكل الموقف في مشهد البيع قمة الاستهتار والتّردي والعبث بمصير إنسان، في دراما لفتاة ساذجة تعيش حياة البراءة أو حياة أحلام، لأن حواسها أضعف من أن تعامل العالم القاسي الذي يمثله زامبانو.
تلعب جيلسومينا محوراً أساسياً في الصراع الدائر، بل هى تقريباً محور هذا الصراع كله.. فتاة من إحدى القرى الايطالية الساحلية، على جانب كبير من الرقة والسذاجة تشع البراءة منها كشعاع من الشمس في يوم بارد، وجهها وحركاتها وتصرفاتها تناسب زمناً أكثر قدماً من زمنها الذي تعيش فيه.
يقودها مصيرها بعملية شراء، لتكون تحت رحمة زامبانو، إنه الشخصية الحيوانية المنغمسة بشكل مقيت في متعها الحسية، فيخنق عقله وروحه.. وتقوده حياته تلك إلى التدمير.
جيلسومينا رهيفة الإحساس، تشمئز روحها من جلافة زامبانو وخلو قلبه من أى جمال، إنها تحاول أن تقوده إلى عالمها، لكنه كبطل تراجيدي ينقاد أكثر لعالمه، ويدمر تصورات جيلسومينا بعالم جميل، ويستمر بدون حب بدون جمال في حياته المليئة بالعنف والغضب والقسوة.
يظهر قبس من ضوء في حياة جيلسومينا، بظهور (المجنون) ـ ريتشارد بيزهارت – شاب باسم الوجه يحب المرح ويحمل في قلبه تعاطفاً كبيراً، يعلم الفتاة مقطع موسيقى تظل تعزفه حتى النهاية.
شخصية (المجنون) تقف بالضد من زامبانو، القلب المليء بالرحمة ضد القلب عديم الرحمة، يدير المخرج الصراع بينهما في الفيلم بقوة، وتبعاً لفلسفته في الحياة، فبنية المجنون رغم خفتها ضعيفة، بينما أمامه خصم عنيد يشبه حيواناً بدائياً على هيئة إنسان تبلدت مشاعره، ينتهى الصراع بينهما بموت الرحمة والمشاعر.
قبس الضوء في حياة جيلسومينا ينطفئ، بمقتل (المجنون) بسبب الضرب العنيف الذى أصابه على يد زامبانو، فتصاب الفتاة بصدمة عنيفة، وتداعٍ كبير في بنيانها النفسي فيغلفها الصمت، وكل ما تسطيع ان تقوله (المجنون ليس بخير ) وهى نفسيا لا تتكلم عن الشخص الذى مات، بل تتكلم عن داخلها وحلمها بالجمال الذى دمر.
يصاب زامبانو بالخوف من إمكانية كشفها جريمته التى أخفاها، فيتركها نائمة، في منطقة نائية تحيط بها الثلوج ويهرب.
إن هذا المشهد يكشف عن سحق البراءة في عالم متوحش بدائي، مشهد يرمز لمجتمع بارد حيث الموت والعزلة المطلقة.
تأتي بعدها الخاتمة الفاجعة المتمثلة في موت الفتاة وحيدة وسط أسرة غريبة، وهى تعزف لحنها الوحيد المنسجم مع روحها البريئة.
وكما لعب زامبانو الدور الرئيسي في رسم تلك النهاية المحزنة للفتاة، فقد لعب أيضاً دوره في رسم نهايته.. العذاب والوحدة والندم.
ينتهى الفيلم كما بدأ على الشاطئ لكن في ليل مظلم، حيث يتقدم زامبانو إلى الماء ويغسل وجهه، كأنه يطهر نفسه من الخطايا، وسرعان ما ينكفئ على الرمال باكياً، تبتعد الكاميرا عنه تدريجياً، فيصغر زامبانو بجسمه في المشهد، ويظهر ضعيفاً وعاجزاً في جحيم وحدته.
هذا هو المشهد الضد لمشهد البداية، فالتصوير من زاوية جانبية جاء من الناحية الأخرى للتصوير في مشهد البداية، كما جاء الليل بدلاً من النهار، وعندما يتسع المشهد بتراجع الكاميرا، نرى الرمال الخالية من الأعشاب والزراعات، بينما امتلئ المشهد الأول بها، وعلى عكس الحركات البريئة الطفولية لجيلسومينا، تأتى حركات العذاب لزامبانو. إنه مكان يجسم الداخل النفسي.. الفزع والقلق والوحشة والبرودة والظلام.
إن فيلليني، يقدم لنا الحياة باعتبارها صراعاً مروعاً، واستطاع أن يجسم ذلك من خلال عالم ثلاث شخصيات في الفيلم، كصورة مصغرة لعالم كبير، ومن السمات المهمة لتجسيد ذلك الصراع، أنه يترك في نفوسنا إحساساً بمعاناة الإنسان والمكابدة المستمرة، فالسلسلة الحديدية التي يجب علي زامبانو أن يفكها… هى الرمز للسعي الأبدي التي تنطوي عليه الحياة الإنسانية، إنه يحيطها بصدره ويفكها بقوته مرة بعد مرة بنفس الطريقة التى لم تتغير أبداً في كل مشهد يظهر فيه أمام الجمهور.
فيلم يؤكد أن المعضلة الإنسانية التي تواجه الإنسان، يمكن أن تتحول إلى وضع غير قابل للحل، فموت جيلسومينا جاء بسبب تدمير روحها وسحق جمالها الداخلي. إن براءتها وسذاجتها المفرطة، هى نفسها التى منحت للعنف وسلوك الانسان البدائي القدرة على سحقها، وندم زامبانو وعذابه في النهاية ووحدته العميقة، هي أمور لا يمكن أن تسمح بالإرتداد إلى الوراء، لتغير الخاتمة المأساوية لكليهما.
حتى بعد خمسة وستين عاماً من إنتاج الفيلم فهو وفقاً للأفكار التي تضمنها، بصمة إدانة للإنسان المعاصر. فلا زال يدمر بعنف قيم الخير والجمال، ويرفض أي شكل من أشكال التفاعلات الاجتماعية السليمة، ففي داخل ذلك الإنسان المهندم والمطلع على المنجزات المتقدمة للعالم الحديث يكمن شكل حيواني بدائي مشوه.
إن زامبانو عام 1951 هو نفسه زامبانو عام 2016، وتبعاً لمسيرة عصرنا فهو نفسه الغد… كارثة اجتماعية، يتحفز للتدمير من أجل منافع ذاتية، ولا يهم بمن يلحق الضرر، وإذا كان قادراً على خلق جحيمه الذاتي، فنحن لسنا بمعزل عنه.. زامبانو ليس تاريخاً لفرد وحيد، بل هو حالة تتصف بالشمولية، ولا يمكن وضعه أبداً داخل إطار مبادئ وقيم انسانية، وما نراه أحياناً على وجهه من استقرار، في بعض مشاهد الفيلم، هو كطبيعة الثور في وقفته الساكنة قبل هجومه الحاد والشرس، حاملاً في كل حركاته صورة الإنسانية المدمرة في صراعها الحيواني.
غالبية مشاهد الفيلم صورت في الطبيعة، لا الأماكن المغلقة، ونادراً ما تظهر المدينة، وإن ظهرت فبشكل عام دون تفاصيل، لكن الطرقات والميادين والخلاء المتسع، وشاطئ البحر، هى التى تصدرت أغلب المشاهد، لتؤكد على مضمون الفيلم عن البدائية والوحشية في الإنسان، تلك التى تعمل عملها كثور هائج في التدمير، تدمير الآخرين، وما يمثلونه من قيم وجمال إنساني، ويتم ذلك إما بالمواجهة الجسدية، كما حصل مع المجنون، أو بالإهمال والأنانية والسحق النفساني، كما حصل مع جيلسومينا التي بحثت عن دفء مشاعر التعاطف الإنساني، فتركت وحيدة منبوذة وسط صقيع بارد.
سعيد رمضان على، إسكندرية، مصر
عمل في شمال سيناء، زار غزة عدة مرات ثم أقام فيها عدة سنوات وحاليا مقيم في الإسكندرية.
أصيب بالصمم في سن مبكرة، كان من أثره تركه الدراسة المنتظمة، فلم يستكمل تعليمه النظامي، لكنه استمر في الدراسات الحرة.
الأعمال والتكريم
- روح هائمة، رواية، دار نشر ميدلايت 1990، القاهرة.
- الأرض والنهر، مجموعة قصصية، دار نشر ميدلايت 1991، القاهرة.
- السينما المصرية والإعاقة، دراسة 2005، مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية.
- سيناء (الأهمية والمعنى) الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2008، القاهرة.
- رواية أمواج ورمال، دار نشر فكرة. 2009، القاهرة.
- مسرحية الانهيارات، دار نشر هفن، 2009، القاهرة.
- السمورة وأنا، سيرة روائية، دار الأدهم للنشر، 2013، القاهرة.
- مقالات نقدية في الأدب والسينما والفن التشكيلي الفلسطيني، نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، وعلى عدة مواقع مختلفة.
- كرم من الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر في مؤتمر الإسماعيلية الأدبي عام 1995.
- حصل على شهادات تقدير من المجلس الأعلى للشباب والرياضة بمصر في مركز إعداد القادة بالقاهرة عن أعماله في القصة القصيرة، والمسرح وذلك عامي 1995، 1996.
- كرمته الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي مدير عام مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية 2005 في ملتقى المنال عن دراسته (السينما المصرية والإعاقة)
- استضافه المؤتمر العلمي الأول حول قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة بالقاهرة عام 2009.
نقد ودراسات عنه
دراسة عن روايته روح هائمة للناقد محمد قطب نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي 1995.
دراسة عن مجموعته القصصية (الأرض والنهر) للناقد الدكتور محمد حسن عبد الله نشرت في كتاب مؤتمر إقليم القناة وسيناء الثقافي عام 1995.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للدكتور نادر عبد الخالق بعنوان البناء والتخطيط في مسرحية الانهيارات نشرت في جريدة الزمان مايو، 2019.
دراسة عن مسرحيته الانهيارات للناقد العراقي صباح الأنباري بعنوان (الانهيارات من بداية السقوط حتى نهاية الهزيمة) نشرت على موقع الناقد على النت.
دراسة في مجموعته الصمت للناقد سيد الوكيل، نشرت في كتاب أبحاث المؤتمر العلمي الأول، هيئة قصور الثقافة 2009، القاهرة.
دراسة عن رواية أمواج ورمال للناقد حاتم عبد الهادي نشرت في نشرة مؤتمر اليوم الواحد بالشرقية.
مقالات نقدية عن بعض قصصه القصيرة للناقد سمير الفيل نشرت بموقع القصة العربية.