رحل الطيب صالح جسداً وسيبقى ما بقي عربي يقرأ، ولا أدري إن ترك خلفه مالاً وبنين، لكنه دون شك ترك وراءه إرثاً لن يفنى ولن يموت.
رحل الطيب صالح مثلما عاش بسيطاً وصافياً، وعاد إلى تراب أم درمان مصغياً إلى خرير المياه.. عاد ليرقد إلى جانب مصطفى سعيد، والزين، وبنت مجذوب، وود حامد، ومريم، ومريود، وضَو البيت وغيرهم من شخوص رواياته الذين أوقعنا في حبهم مثلما وقعنا في حبه؛ ففي كل واحد منهم شيء منه، فلا يوجد نص لا يشبه كاتبه، وهذا ما أكد عليه في أحد الحوارات الصحافية بقوله: (لا أظن أن في مقدور الكاتب التنصل من الشخصيات التي يبدعها لأنها تنبع من خياله ومن تجارب عاشها أو تابعها في حيوات الآخرين).
رحل الطيب صالح بعد رحلة طويلة في مجال الأدب والثقافة والصحافة ما حدا بنقاد كثر إلى تسميته بـ (عبقري الرواية العربية)، لاسيما وأن روايته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وأكسبته شهرة عالمية، وصنفت ضمن قائمة أفضل مائة رواية في القرن العشرين، ووصفتها الأكاديمية العربية بأنها أهم رواية عربية في القرن العشرين. وظلت المقياس الذي تقارن به قيمة أعمال أخرى تالية تناول فيها روائيون عرب الصدام بين الشرق والغرب.
ورغم ما حظي به الطيب صالح من اعتراف عالمي، ظل يحتفظ بأخلاق العربي الأصيل، ويحمل روح الإنسان القروي البسيط، ولم يرغب يوماً في أن يكون غير (ابن قرية على ضفاف النيل، وامتداداً لبادية تقطنها قبيلة عربية من رعاة الإبل) كما قال عن نفسه.. مبتعداً عن الأضواء والمساجلات الإعلامية، متفادياً الإعلان عن نفسه والاستسلام للأضواء، كحال معظم السودانيين، وما فتئ يكرر حتى وفاته فضل رجاء النقاش عليه: (إنني مدين له لأنه كان أول من نبه إلى عملي).
لن استطرد في حديثي عن الطيب صالح، فأنا لست في مقام من سيضيف جديداً على ما قيل في حق هذا المبدع العربي الكبير، بيد أن جل ما يمكن أن أقوله، هو مفارقة تعرفي على روايات الطيب صالح. كنت حينئذ في مرحلة الدراسة الثانوية حين لفت انتباهي على رف إحدى المكتبات العامة، كتاب يحمل عنوان (مريود)؛ فاستعرته لا لأني متابع لأعمال الطيب صالح أو مفتون برائعته (موسم الهجرة إلى الشمال)، وإنما فقط لأن عنوان الكتاب، الذي لم (يُشكَّل) لامس شيئاً في نفسي.
في غرفتي بالسكن الداخلي تصفحتُ الكتاب على عجل للبحث عما أو من المقصود بكلمة (مريود) لأكتشف أن بطل رواية (مَرْيُود) لا علاقة له بجدي، الذي كان يحمل لقب (مُرَيَّود) ـ تصغير مرود. فـ (مريود) السودانية مفردة مشتقة من (الرَيِّد) وهي دارجة سودانية تعني (الحب) والعهدة هنا على الراوي، فهذا ما أفادني به، أثناء إعدادي هذه الشهادة المتواضعة، زميلي في العمل وشيخي في الترجمة الأستاذ الزاكي عبد الحميد، رئيس قسم الترجمة في شركة تنمية نفط عمان.
خيبة أملي في ألا يكون لقب جدي عنواناً لرواية الطيب صالح، لم تُثْنِني عن قراءة الرواية، ومن ثم قراءة عدد من رواياته وفي مقدمتها (موسم الهجرة إلى الشمال)، و(عرس الزين) التي شاهدتها أيضاً في فيلم سينمائي أخرجه الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات حيث عُرض في مناسبة لا أتذكرها الآن بالولايات المتحدة الأمريكية بحاشيتين عربية وإنجليزية.
ومن غرائب المصادفات أن الطيب صالح زار مدينتي صور، في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، حين كان يعمل مديراً إقليمياً بمنظمة اليونيسكو في باريس، وأثناء تجواله في حي (المصفية) بالمدينة القديمة مر هو ومرافقوه بماحة (دكان صياغة) شيخ الصائغين عبد الله ود إسماعيل، أحد أشهر صاغة الخناجر في عمان، فدخل الطيب الماحة وسلم على صاحبها وافترش الأرض وتناول التمر والقهوة وتجاذب أطراف الحديث مع الشايب ود إسماعيل حول صياغة المشغولات التراثية.. لاسيما السيوف والخناجر، ودوّن بعض المعلومات والتقط صوراً للقطع المتوفرة في الماحة بحكم الغرض من زيارته كموظف بمنظمة اليونيسكو، ومن بين القطع التي لفتت انتباهه سيف (يماني) تفنن ود إسماعيل في تزيين غمده ومقبضه بالقطع والمشغولات الفضية.. كان معلقاً على الجدار فوق رأس الصائغ، فأستأذن الطيب صالح صاحب الماحة لمعاينة السيف.
وبعد أن تمعن في صناعة الجراب من الخارج سحب نصل السيف من غمده، فكان سيفاً يمانياً.. مستقيما حاداً شديد اللمعان، فمرر أصابعه على طول النصل وهو يتغنى ببيت شعر من قصيدة للمتنبي يقول فيه:
تُهاب سيوف الهند وهي حدائد فكيف إذا كانت نزارية عربا
بيد أن دهشة الطيب صالح إعجاباً بإتقانه الصنعة لم تكتمل قبل أن تتحول إلى اندهاش، فظل فاغراً فاه بعد أن سمع الصائغ ود إسماعيل يُعيد البيت نفسه مستبدلاً كلمة (حدائد) بـ (حدائب) وهو يضغط كفه بقوة على الحد الخارجي لنصل سيف هندي، ثم ازدادت دهشة الطيب صالح عرضاً عندما استمع إلى شرح ود إسماعيل لبيت المتنبي واقتنع به.. علماً أن الطيب صالح عاشق للمتنبي ودرس أشعاره، وحفظها، واطلع على كل ما كتب عنها وعن حياة ابي الطيب.
هذه الواقعة أتى عليها الطيب صالح بعد 15 عاماً من زيارته لصور في القاهرة، حيث قال: (جمعتني مائدة غداء أقامها الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بالدكتور محمود مكي أستاذ الأدب الأندلسي في جامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية، وقادنا الحديث إلي ساحل أبي الطيب المتنبي، وذاك لعمري بحر لا أبالي إن أنا ألقيت بنفسي في خضمه، وذكرنا قصيدته في مدح سيف الدولة التي مطلعها:
فديناك من ربع وإن زدتنا كرباً فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وفيها ذلك البيت الذي تجده في طبعات الديوان كلها مكتوبآ هكذا:
تُهاب سيوف الهند وهي حدائد فكيف إذا كانت نزارية عربا
وذكرت لهم ما علمنيه صانع السيوف العماني في بلدة (صور) منذ نحو خمسة عشر عاماً أن المتنبي لم يقل حدائد بـ (الدال) ولكنه قال حدائب بـ (الباء) وشرح لي أن السيف الهندي أحدب أو محدودب يقطع من جهة واحدة في حين أن السيف العربي مستقيم ذو حدين ويقطع من جهتين. فذلك موضع المدح. وقد أعجبني الشرح ورضيت به، لكن الدكتور محمود مكي رفض ذلك جملة وتفصيلاً مفضلاً ما ذهب إليه جمهرة شرَّاح المتنبي إلى أن الشاعر يرمي إلى تفضيل سيف الدولة على سيوف الحديد).
لقد تمسك الطيب صالح بوجهة نظره، مع علمه أنه سيخسر الرهان حيث قال:
(الدكتور محمود مكي مع علمه وراءه مجمع اللغة العربية وجمهرة شراح المتنبي وأنا أقف أعزل ليس معي سوي صانع السيوف العماني).
رحم الله الطيب صالح ورحم الله الشيخ عبد الله ود سماعيل.
محمد مبارك خميس عيد العريمي (اسم الشهرة: محمد عيد)
ولد في وادي المر سنة 1954. وتربى في مدينة صور بالمنطقة الشرقية من سلطنة عمان
باشر قراءة القرآن الكريم في الهواء الطلق تحت ظل شجرة
وواصل دراسته الأساسية متنقلا بين مدن الخليج العربي
تابع دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية حيث نال شهادة بكالوريوس علوم في الهندسة الصناعية.
التحق بالعمل لدى شركة تنمية نفط عمان، وتعرض عام 1982 لحادث سير وهو في طريقه إلى موقع عمله بحقول النفط بالصحراء العمانية أسفر عن إصابته بشلل رباعي، وبعد تأهيله عاد للعمل في مجال الترجمة بالشركة نفسها وما يزال.
صدر له عدد من المؤلفات.. أبرزها:
• «مذاق الصبر.. سيرة الذات والمكان» الصادر عن دار الفارابي ببيروت سنة 2001، سجل فيها تجربته مع الاعاقة. كتب عنه نقاد وكتاب كثر من بينهم الشاعرة والاديبة الدكتورة سعيدة خاطر الفارسي، الناقد والكاتب ناصر الغيلاني، الاديب والطبيب اللبناني سليم صابر، والناقد والكاتب الليبي عبدالحكيم المالكي. وقال عنه الناقد والكاتب العراقي المعروف د. ضياء خضير: «هذا كتاب فريد في بابه، يحتل، أو ينبغي أن يحتل، مكانة متميزة بين الأعمال الأدبية الخليجية والعربية المشابهة»، وقد ترجم الى اللغة الانجليزية. وصدرت الطبعة الثانية من الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005 والطبعة الثالثة عن المؤسسة ذاتها في 2006.
• حـز القيد (رواية) صدرت طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005 والثانية سنة 2006 عن المؤسسة ذاتها.
• بين الصحراء والماء (رواية)، صدرت طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مسقط 2006
• تعريب رواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2006
• أشرف على اعداد كتاب «عمان.. الانسان والمكان»: شركة تنمية نفط عمان، مسقط 2009
• قوس قزح (مجموعة قصص ونصوص قصيرة) صدرت عن دار الانتشار العربي، بيروت 2010