في حوار جرى مؤخراً حول مستقبل الجامعات ذكر مسؤول جامعي رفيع المستوى: (لم يعد التعليم الجامعي العالي مقتصراً على اكتساب المعلومات والمعرفة الأكاديمية الصرفة فحسب)؛ مثل هذا القول حظي برضى الكثيرين ممن كانوا يستمعون إليه.
وقد أشار أساتذة جامعيون إلى أن اهتمام الطلبة الجامعيين ينصب بشكل رئيسي على الحصول على درجات علمية مهنية Vocational وأن الحكومات تتوقع أن تعمل الجامعات وفق احتياجات المجتمع، لكن الدراسات العليا ذاتها بدأت تبتعد عن تشجيع المنح الدراسية والتعليمية ودعمها وتنحو بدلاً من ذلك نحو التدريب المهني رغم تصدي النخبة الجامعية القليلة التي ظلت تقاوم بعناد أي توجه ربما يقلق برجها العاجي! إضافة إلى ذلك بدأت دوائر صنع القرار خارج الجامعة ترفض فكرة أن الجامعة ينبغي أن تتحدد بمشروعها الفكري.
منذ وقت قريب ألقى شاب يعمل في مجال الشبكات الإلكترونية في إحدى مؤسسات الأبحاث محاضرة ارتجالية مباشرة حول ابتعاد الأكاديميين حيث أشار إلى أن (السياسات المخطط لها هي الكل في الكل)، وعليه فإن سائر الأفكار المتميزة تنطلق من ناس من أمثاله.
يبدو من ذلك أننا نجد أنفسنا وسط نقاش من طرف واحد يتعلق بطبيعة الجامعة. ونقول هنا (طرف واحد) لأن مناصري الفكرة التقليدية المتعلقة بالجامعة آثروا إما الإبتعاد أو الصمت! والقضية هنا تبدو مشوشة للغاية أيضا بسبب الأساليب التي تطرح القضايا بموجبها.
وعلى خلاف بريطانيا تشهد الولايات المتحدة مناقشات جادة حول دور الجامعة مقارنة بدور المفكر من خارج الوسط الجامعي، فمؤيدو مفهوم الفكر العام يرون بأن الأكاديميين الذين يضعون قدماً في الجامعة وأخرى في المجتمع يمكنهم أن يؤدوا دوراً هاما في جعل البحث العلمي في متناول أوسع شريحة من الناس. أما مناوئو الفكرة فيخشون من أن توجه الجامعة نحو دور أكثر عمومية سوف يؤدي إلى الإضرار بالبحث العلمي والتدريس.
وقد شهد هذا الجدل والنقاشات تأثيرات مختلفة، فالكثير من الجامعات شجعت هيئاتها التدريسية على المشاركة الفاعلة في النشاطات المجتمعية إنطلاقاً من القناعة بأن تحقيق سمعة إعلامية كبيرة أمر جوهري لضمان حيوية مؤسستهم التعليمية ونجاحها. ثم إن وجود أسواق تنافسية تجعل من الوسط الإجتماعي عاملاً مهماً ومحفزاً للجامعات في سعيها نحو التميز والإزدهار.
لقد عمدت مؤسسات تعليمية عليا مثل جامعة شيكاغو University of Chicago إلى تخصيص بعض برامجها للدراسات العليا لغرض تدريب الناس لتبوأ أدوار اجتماعية عامة، كما تشعر هذه الجامعة بالزهو الكبير لانتماء نخبة من رجال الفكر الذين لديهم امتدادات وإسهامات مجتمعية واضحة إليها من أمثال جون ديوي John Dewey وسوزان سونتاك Susan Sontag وألان بلوم Allan Bloom. كما أن جامعة أتلانتيك فلوريدا Florida Atlantic University في بوكا راتون Boca Raton قد خطت خطوة أخرى إلى الأمام واستحدثت برنامج دكتوراه يربط بين اختصاصات مختلفة interdisciplinary في موضوع التعقليّة الاجتماعية public intellectualism. من هنا يمكن تفسير مثل هذا الدعم المتذبذب للمفكر العام باعتباره محاولة من جانب السلطات ذات العلاقة لبلورة دور جديد للجامعة.
وبهذا الخصوص يرى جيفري ويليامز Jeffrey Williams الذي يدرس اللغة الإنكليزية في جامعة ميسوري University of Missouri أن الاحتفاء بالمفكر الاجتماعي العام هو في الواقع (خرافة لإعادة الشرعية إلى المجامع العلمية academy). وتخشى الكثير من الجامعات الأمريكية على شاكلة قريناتها البريطانيات أن تبتعد قليلاً عن اختصاصاتها الأكاديمية لأن مثل هذه الصلة القوية في معناها الأكاديمي تجعل بعض أعضاء هيئة التدريس يسعون للبرهنة على أن مايقومون به من أعمال أمر ذو جدوى وأهمية.
يتضح من ذلك أن هذا الجدل لم يظهر للوجود بسبب البرنامج الذرائعي pragmatic الذي تتبناه السلطات الجامعية فالكثير من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات يبدون قلقا إزاء دورهم الفكري ففي عصر الإدارات الجامعية managerialism يصعب على العلماء والباحثين إيجاد صوت لهم، أضف إلى ذلك الجدل الذي انطلق مع إعادة طبع كتاب راسيل جاكوبي Russell Jacoby الموسوم (المفكر الأخير) The Last Intellectual الذي يشير إلى أن الكثير من الأكاديميين ينتابهم القلق الشديد حيال علاقتهم بعامة الناس فالكتاب يطرح تساؤلات حول الذرائع الفكرية التي يطلقها الأستاذ الجامعي، لكنه لا يتباكى على الأيام الجميلة الماضية إنما جاء دعوة للمفكرين لإصلاح العامية الدارجة وإعادة إثبات أنفسهم في الحياة العامة.
لا غرابة إذن أن يكون النقاش الجاري حول دور المفكر أكثر تطوراً في الولايات المتحدة منه في بريطانيا فمنذ الثمانينيات من القرن الماضي انشغلت الأوساط الأكاديمية الأمريكية كثيراً بالمناظرات السياسية، وفي سنوات حكم الرئيس الأمريكي ريغان تعرضت الكليات الإنسانية لهجمات كثيرة بسبب توجهاتها الثقافية المسيّسة. ومثّل محتوى التعليم الجامعي واحداً من المواضيع المركزية الهامة في إطار (المعركة) الثقافية حامية الوطيس حينئذ. ومن بين الأسماء الهامة التي لمعت في تلك الفترة كل من سونتاك وهنري لويس غيتس Henry Louis Gates وإدوارد سعيد ونعوم تشومسكي Noam Chomsky الذين كان لهم دور ريادي في المناظرات الثقافية والسياسية في الولايات المتحدة.
لكن الوضع في بريطانيا على خلاف ذلك إلى حد كبير فلا يوجد ثمة من يتهم الجامعة البريطانية بكونها تشكل مرتعاً لأي شيء كان. ثم أن الدور الإجتماعي للمفكر البريطاني في أيامنا هذه أكثر هامشية من أي وقت مضى تسعفنا الذاكرة في تذكره، ثم أن الدور المتلاشي تدريجياً للجامعة البريطانية في الحياة الفكرية للمجتمع قد توافق مع التوسع الهائل للتعليم العالي هناك. وفي أيامنا هذه ترتبط مفردة (فكري) على الأرجح مع تعبير (حقوق الملكية) أكثر من ارتباطها بتعبير (أكاديمي واقعي).
إن انهيار الدور الفكري للجامعة البريطانية لا يمت بصلة لعبارة (البرج العاجي) فالجامعات غدت معرضة أكثر من ذي قبل للضغوط الخارجية كما أن الإملاءات السياسية بدأت تؤثر على البحوث الجارية في الجامعة فضلاً عن أن الجهات الممولة بدأت تربط ما تمنحه من أموال بالبحوث التي تنسجم مع البرامج الخاصة بها، ثم أن الضغوط السياسية الرامية إلى تحويل الجامعة إلى أداة للتضمين الإجتماعي تهيمن على الحرم الجامعي.
من جانبها تقوم السلطات الجامعية البريطانية بتشجيع الهيئات التدريسية على التواصل مع الناس خارج الجامعة ليس بصفة مفكرين إنما بصفة (خبراء). لكن الخبراء ليسوا مفكرين بالضرورة حيث لا نتوقع منهم اهتمامهم بالفكر الذي لا يلتقي مع بحوثهم ذات الصلة بحقولهم المعرفية بل إن بعض القيادات الجامعية تدفع بأساتذتها إلى الابتعاد تماماً عن أداء مثل هذا الدور. وقد وجهت قيادات إدارية جامعية النقد إلى أحد زملائي من الأساتذة لأنه كتب رسالة إلى إحدى الصحف تطرق فيها إلى موضوع اعتبروه خارج مجال اختصاصه وخبراته الأكاديمية لكونه انتقد ما تعرض له العراق من قصف يرون فيه موضوعاً بعيداً جداً عن مدى إدراك ومعرفة أحد العلماء الإختصاصيين في مجال العلوم الاجتماعية.
يمكن القول هنا إن المعتقدات والمثل العليا وأنماط السلوك في جانبها الإداري التي تهيمن على الحياة الجامعية قد عملت على تشكل القاعدة التي تستند عليها ثقافة التفكير النقدي وربما تؤدي برامج البحوث المفروضة إلى حد كبير إلى إضعاف الإستقلال الفكري الذي يمثل أفضل إسهام إيجابي للأساتذة الجامعيين بصفتهم أصواتا مستقلة.
القضية الحقيقية إذن لا تتعلق بمدى إسهام الأساتذة الجامعيين في النشاط الاجتماعي العام إنما بدورهم العام بصفة خبراء فنيين أو مفكرين.
إن بمقدور أولئك الأساتذة أن يقدموا إسهامات كبيرة في الحوارات والجدل الدائر حول البرامج والسياسات المتّبعة بمنأى عن الرؤية قصيرة المدى التي يتبناها السياسيون وما يرتبط بهم من برامج رغم أن القضايا السياسية تتصف بأبعادها المتعددة الأمر الذي يقتضي تفكيراً وتأملا جديين، أضف إلى ذلك أن الانشغال بأمور السياسة يتطلب تدقيقاً شاملاً لمشكلة ما وبخلاف كل ذلك فإن ما يقوم به الأساتذة من إسهامات سيؤدي بكل بساطة إلى جعل الجدل العام أكثر سطحية، صحيح أننا نحتاج إلى مفكرين حقيقيين في أوساط المجتمع لكننا أيضا نحتاج إلى استقلالية واضحة المعالم لإنضاج الحوارات والجدل، وعلينا أن نغادر الأبراج العاجية التي يتوارى فيها البعض لنؤسس لمؤسسات تعليمية لا تتردد أحيانا في تطوير بعض الأفكار لما تنطوي عليه من إثارة للأهتمام.
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.