هل التعبير الفني بشتى أشكاله حكر على فئة دون فئة! وهل البوح بمكنونات النفس البشرية قصر على فئة دون أخرى! لو كان الأمر كذلك فإن الأشخاص ذوي الإعاقة على اختلاف إعاقاتهم أحق بهذا اللون من ألوان التعبير.. فالإنسان عندما لا يستطيع الافصاح عن مشاعره أو اعطاءها ما تستحقه من كلمات وعبارات واضحة يتهم اللغة بأنها قاصرة عن احتواء مشاعره، وقد يتهم لسانه بأنه عاجز عن التعبير عما يختلج في صدره.. وفي حالات أخرى قد يصمت فلا ينطق بكلمة واحدة وفي داخله مشاعر لو سكبها لملأت مساحات قفر وغطت خواء ولن ينتبه لها إلا من وهب رهافة الحس وشفافية الفهم والنظرة الثاقبة للموجودات تتجاوز المساحات والخامات وكل التقنيات!
هل بمقدورنا أن نتصور ـ لو أن الشخص الأصم استطاع أن يعبر عن عالمه الصامت المقيت وفرديته المفروضة عليه ـ نوع الأدب الذي كان سينطق به.. أو لو أن الكفيف أمسك إزميلاً أو صلصالاً وبدأ يشكل من المواد مجسمات وأشكالاً فنية لم يرها مخلوق ولن تخطر ببال أحد غيره!
أو أن شخصاً من ذوي الإعاقة الذهنية أمسك بفرشاة ألوانه ونسي كل ما حوله وانقطع متسمراً أمام النافذة المفتوحة أمامه نحو أعمق ما في نفسه وأعمق ما يراه يبوح لها بإنسانيته خطوطاً وألواناً ومزجاً لا يخطر على بال أحد!
هل يستطيع المتحمسون للفن والابداع أن يتخيلوا الغنى والتنوع والتفرد والطرافة الذي سترفد بها حياتنا الفنية لو أتيح لهؤلاء أن يعبروا عن عوالمهم شبه المجهولة بالنسبة لنا ويطلقوا مكنوناتهم الحبيسة في فضاء حياتنا الذي كادت تستبد به الرتابة والتكرارات المملة!
لقد استطاعت هيلين كيلر الصماء الكفيفة أن تتخطى هذه الهوة السحيقة التي تشبه إلى حد كبير التخيلات الأسطورية للموت والحياة فكتبت للإنسانية قبل أن تكتب لنفسها وبأسلوب لم يكتب به أحد قبلها وهو ما دفع أستاذها ليقول لها: (إن لديك شيئاً خاصاً تقولينه، ولك طريقتك الخاصة في قوله) فجاءت كتاباتها تعبيراً عن روحها المحبة للخير والسعادة لكل البشر.. ونسمعها تقول: (في العالم طيش كثير، ولا مبالاة بالإنسان، وفرح قليل.. فلو تمكن الجشعون من أن يفكروا بشكل أفضل، فإنه يمكن للفقير المحتاج أن يعيش بشكل أفضل. وأنا ـ بالطبع ـ لست متفائلة، لأن هناك شروراً كثيرة في العالم، وفيّ أنا، ولست متشائمة أيضاً، لأن هناك خيراً في الله وفي العالم. أنا أؤمن بإمكان تحسّن العالم فقط، وأن الله قادر على أن يجعل العالم أفضل، وإنني أحاول ما في وسعي للمساعدة، وأتمنى أن أقدم أكثر وأكثر..).
واستطاع بشار الكفيف الأكمه أن يضع جانباً كل الصور الجميلة التي تنقلها العين المبصرة بتناسقها وألوانها المبهرة ويستعيض عنها بالأذن المرهفة المصورة فيرسم بها ما عجز المبصرون عن رسمه بعيونهم واختط بذلك منهجاً جديداً في التصوير البلاغي لم يسبقه إليه أحد عندما شبه الأشياء المحسوسة المرئية بحاسة السمع (المصورة) لديه!
قد يكون رهاناً طيباً للمعنيين بتنشيط وإغناء الحركة الفنية استثمار هذ الجانب لدى الأشخاص من ذوي الإعاقات المختلفة والاستفادة من هذه الخصوصية المتميزة والمعاناة المتفردة التي يفرضها فقدان حاسة من الحواس أو عضو من الأعضاء..
لقد أبدع فان جوخ أجمل لوحاته وهو يعاني من مرارة الحرمان واليأس القاتل! وقدم بيتهوفن أعظم موسيقاه على الاطلاق وهو الفقير الأصم المهجور من أعز الناس وأحبهم إليه..
في أسوأ الأحوال وأقلها طموحاً، فإن الاهتمام بالجانب الفني للأشخاص من ذوي الإعاقة ـ وكما جاء في كثير من الأدبيات ـ يعد أساساً لنموهم وتطوير المهارات اليدوية والحركية والحسية لديهم، يساعدهم على استرداد الثقة بأنفسهم ويسهل عليهم الاندماج في البيئة المحيطة والتواصل مع مجتمعهم..
وهذا أضعف الإيمان..