بلغت القصة القصيرة أوج نضوجها في منتصف القرن التاسع عشر وعند نهايته على يد أنطون تشيخوف
الثورة التي أحدثها تشيخوف هدفت إلى خلق قصة قصيرة تغير بموجبها السرد القصصي.
وربما نستطيع القول هنا أن سائر القصص القصيرة التي كتبت بعد وفاة تشيخوف قد تأثرت به كثيراً بشكل أو آخر
انطلقت القصة القصيرة في القرن التاسع عشر أثر حملة مفاجئة كاسحة صاحبت طبع المجلات وبلغت نموذجها المتكامل بصدور قصص أنطون تشيخوف Anton Chekhov لتصبح لاحقاً واحدة من الأشكال الأدبية البارزة في القرن العشرين.
وقبل الشروع بتاريخ القصة القصيرة دعونا نتطرق إلى مقدمة ذات صلة بالموضوع، ففي بالي صورة ذهنية لمجموعة من سكان الكهوف (النيانديرتال) Neanderthals (أو فرقة مشابهة لهم من كائنات تشبه البشر) تجثم حول نار متقدة عند مدخل كهف قبيل حلول المساء. يقول أحدهم على الفور: (لن تصدقوا ما حصل لي هذا اليوم!). وقبل أن يشرع هذا الراوي بسرد حكايته يلقي المتجمعون العظام المقضومة جانباً ويسود السكون في المكان حيث يجلس الأطفال ويصغي سائر أفراد القبيلة إلى الراوي بانتباه كبير.
هذا الحكواتي إضافة إلى النادرة والاستغراق في الذكريات الأثيرة والدعابة المطولة والتذكر الحاد تمثل في الواقع منشأ القصص القصيرة التي نقرأها ونكتبها في وقتنا الحاضر. ويمكن القول إن رواية القصة بشكل أو بآخر تتصل أتصالاً وثيقاً بخطابنا الإنساني الذي يهدف بين أمور أخرى إلى تدوين تواريخنا الشخصية وكذلك تخيل الاحتمالات التي تأسرنا وترعبنا وتجتذبنا وتؤنبنا وتدغدغنا، هذا فضلاً عن مجمل العواطف التي تحملها قصة رائعة.
إن ما أوردته آنفاً يتسم بالخيال كما يصعب إثباته. مع ذلك أشعر أن مثل هذا التمهيد لابد أن يساهم في ايضاح ما تتمتع به القصة القصيرة من قدرة عجيبة. وهذا اللون الأدبي يبدو أكثر طبيعية لنا قياساً بالأشكال الأطول منه فالحكاية أو النادرة التي تستغرق ساعات عديدة تؤدي إلى انصراف المستمعين لها بعد فترة وجيزة. والقصص التي يسردها بعضنا للبعض الآخر تتصف بقصرها وبشكلها المحدد. ولننظر إلى ما يحصل لدى سرد أية حكاية: فراوي الحكاية وإن لم يمتلك خبرة تذكر في سرد حكايته يجد نفسه / نفسها مكره على اختيار بعض التفاصيل وحذف أخرى والتركيز على بعض الأحداث وتجاهل الأحداث التي لا تتصل بالموضوع أو التي تستغرق وقتاً طويلاً. فضلاً عن ذلك يمكن أن يتجاهل بعض الشخصيات الرئيسية أو يشرع في وصفها أو يتباطأ في ذلك بهدف الوصول إلى خاتمة لحكايته بشكل من الأشكال، وهذا يعني أن عملية تحرير شاملة تحصل في عملية السرد تشمل الاختيار والإيضاح وتعزيز الاستنباط وهذا ما يجعل من كذبة مقنعة تصبح قصة قصيرة متكاملة. ويبدو أن القصة المحكمة تجيب عن شيء عميق للغاية في طبيعتنا وكأن شيئاً متميزاً قد تم استحداثه أو أن شيئاً جوهرياً من خبرتنا الحياتية قد تم تقديره استقرائياً أو أن إحساساً مؤقتاً قد يتولد ليتناسب مع رحلتنا المشتركة المضطربة المتجهة صوب القبر ومن ثم النسيان.
وإذا ثبت صحة هذا الأمر تماماً ترى لماذا استغرقت القصة القصيرة بصفتها شكلاً أدبياً كل هذا الوقت كي تشهد ما وصلت إليه من تطور؟ إن التاريخ الثقافي للقصة القصيرة المطبوعة لا يتجاوز تاريخ الأفلام السينمائية إلا ببضعة عقود من السنين. والجواب على ذلك نجده في العمليات الصناعية والديموغرافية فلقد وجدت القصة دوماً بصفة تقليد شفاهي اتخذ منحى بعيداً عن الجوانب الرسمية ـ لكن بعد أن تمكنت الطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر في الغرب من تعلم القراءة والكتابة على نحو واسع وبعد استحداث سوق لنشر المجلات والمطبوعات العامة لخدمة رغبات القراء وتطلعاتهم بدأت بواكير القصة بالظهور. أما قبل ذلك فلم يكن هناك أي منتدى طباعة حقيقي للون المعروف بالقصة القصيرة الذي تتراوح صفحاته بين 5 إلى 50 صفحة. وهذه الوسيلة الجديدة كشفت للكتاب قدرتهم على كتابة مثل هذا اللون الأدبي. من جانبهم أبدى القراء رغباتهم بقراءة القصة القصيرة واكتشف الكتاب فجأة أن لوناً أدبياً جديداً قد غدا طوع بنانهم. وما يدلل على ما أقوله هنا هو الطريقة التي انطلقت بها القصة القصيرة بشكل مضطرد لتبلغ نضجها الكامل فيما بعد. ولم تتعثر القصة في خطواتها الأولى ولم تمر بقرون بطيئة أثناء تطورها. تجدر الإشارة هنا إلى أن الفترة الممتدة من مستهل القرن التاسع عشر إلى منتصفه شهدت كتاب قصة مرموقين مثل هوثورن Hawthorne وبو Poe وتورجينيف Turgenev الذين تمكنوا من البداية من كتابة قصص قصيرة كلاسيكية خالدة الأمر الذي يدلل على أن القابلية على الكتابة كانت كامنة داخل الخيال البشري. وقد بلغت القصة القصيرة أوج نضوجها في منتصف القرن التاسع عشر وعند نهايته على يد أنطون تشيخوف.
هنا نطرح السؤال الآتي: من كتب القصة القصيرة الحقيقية الأولى ونشرها؟ في الواقع وجدت القصص والحكايات القصيرة لقرون عديدة بشكل أو آخر: على سبيل المثل لا الحصر شهرزاد وديكاميرون Decameron لبوكاشيو Boccassio وحكايات كانتربري Canterbury tales وكذلك ما ورد في الكتاب المقدس إضافة إلى الحبكات الثانوية في المسرحيات والروايات والمقطوعات الهجائية والكراسات والحكايات الطويلة المعروفة بـ (الساغة) Sagas (1) والقصائد القصصية والمقالات والصحف. لكن ما هو النص الأدبي الأول الذي يمكن أن نؤشر عليه ونصنفه ونوسمه بثقة: (هذه قصة قصيرة حديثة)؟ لقد أشار باحثون إلى ان شرف ذلك يعود إلى قصة (وولتر سكوت) Walter Scott الموسومة (الراعيان) The Two Drovers التي نشرت ضمن العمل الموسوم (أحداث كانونغيت التاريخية) Chronicles of Canongate في عام 1827، وهذه بداية مناسبة لأن القصة القصيرة تطورت سريعاً بعد هذه القصة لتأخذ صفة دولية على يد سكوت، فتأثيره الكبير لم يلهم جورج إليوت George Eliot وتوماس هاردي Thomas Hardy في بريطانيا فحسب، إنما أمتد إلى بلزاك في فرنسا وبوشكين Pushkin وتورجينيف Turgenev في روسيا وفينيمور كوبر Fenimore Cooper وهوثورن في أمريكا.
وإذا أخذنا في الحسبان ما تركه أولئك الكتاب من أثر هام على كل من فلوبير Flaubert وموباسان Maupassant وتشيخوف وبو وميلفيل Melville فإنه يمكننا حينئذ أن نتتبع المنابع الحقيقية لهذا الشكل الأدبي. والمشكلة الوحيدة في هذا الشأن أن القصة القصيرة في بريطانيا بعد سكوت لم تترعرع هناك فى منتصف القرن التاسع عشر مثلما تسيدت الرواية على سبيل المثال. أما الكتاب في فرنسا وروسيا وأمريكا فقد تركوا بصماتهم الواضحة في تلك الفترة، ولم تزدهر القصة القصيرة الحديثة في بريطانيا مرة أخرى إلا على يد روبرت لويس ستيفنسن Robert Louis Stevensen في الثمانينيات من القرن التاسع عشر ليتواصل التطور على أيدي الكتاب أج جي ويلز H. G. Wells وبينيت Bennett وجيمس وكبلنغ Kipling.
تأسيساً على ذلك وفي ضوء الكثير من المعطيات فإن البدايات الحقيقية للقصة القصيرة الحديثة قد نشأت في أمريكا حيث طبعت مجموعة ناثانيل هوثورن Nathaniel Hawthorne الموسومة (حكايات مكررة) Twice-Told Tales في عام 1837 والتي يمكن اعتبارها الإنطلاقة الأساسية للقصة القصيرة. وحين قرأ بو ما كتبه هوثورن أجرى أول تحليل حقيقي للاختلاف بين كل من القصة القصيرة والرواية حيث عرّف القصة القصيرة بكل بساطة بأنها (حكاية يمكن قراءتها في جلسة واحدة). ولا يبدو مثل هذا التعريف هيناً في معناه السطحي حيث أن بو يحاول أن يسلط الضوء على التأثير المتفرد والفضولي للقصة القصيرة وهو ما شعر به بقوة بفعل طبيعة قراءة القصة بمجملها في جلسة واحدة. ويواصل بو (على الكاتب عدم استخدام مفردة مكتوبة في القصة بأكملها لا ترتبط بالخطة الوحيدة المعدة سلفاً سواء حصل ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. إن تبني مثل هذه الوسيلة مصحوبة بمثل هذا الاهتمام والمهارة سوف يفضي إلى رسم صورة مفصلة تترك في ذهن من يتأملها شعورا بالرضا التام).
ولربما يكون بو تخطيطياً وتوجيهياً، أي أنه يرغب في (خطة معدة سلفاً) لأنها تمثل الصيغة المهيمنة للقصة القصيرة لكنه صارم جداً بخصوص التأثير الذي يمكن أن تحققه القصة القصيرة وهو (الشعور بالرضا التام). ومن الممكن أن تكون القصة القصيرة أكبر وأكثر ثراء وتعلقاً بالذاكرة مما تبدو عليه من قصر وما يترتب على ذلك من قدرة على الطرح. وإذا قرأنا قصص بو ومن بينها القصص التي تتناول الشرطة السرية مثل (سقوط منزل آشر) The Fall of the House of Usher أدركنا أنه يسعى لتطبيق ما كان يؤمن به ويدعو إليه. وأنا هنا أود أن أتوسع قليلاً في تعريف بو وأضعه بالصيغة الآتية: القصة القصيرة الحقيقية والمتكاملة تحقق تأثيراً شاملاً يتعذر اختصاره أو تحجيمه. وفي هذا المجال على نحو التحديد يحصل التميز الواضح بين القصة القصيرة والرواية حيث يختلف التأثير الناجم عن القصة القصيرة المحكمة عن تأثير الرواية المتميزة. وللقصص الحديثة البارزة صفات منها الغموض والإثراء المضلل حولها أي تعقيد الفكرة اللاحقة التي لا يمكن التحكم بها أو تحليلها. ومن الغرابة أن نلاحظ في هذا الخصوص أن الأثر الكلي دون شك أعظم بكثير من مجموع مكونات القصة المختلفة. ولربما سعى بو من دون قصد إلى تحقيق ذلك في بعض الأحيان غير أن الكاتب الذي سار على خطى بو واتصفت قصصه القصيرة بمثل هذه الوظيفة هو هيرمان ميلفل.
لقد كره ميلفل كتابة القصص وقال إنه كتبها للحصول على المال فحسب. غير أن القصة الحديثة تكاملت على نحو مفاجئ تماماً في العديد من قصصه مثل (بينيتو سيرينو) Benito Cereno و(بارتلبي الكاتب) Bartleby the Scrivener والتي نشرت ضمن (حكايات بيازا) Piazza Tales في عام 1856. وفي قصص ميلفل يمكن للقارئ أن يطالع الأمثلة الأولى للقدرات غير المألوفة التي ميزت القصة القصيرة.
وإذا قيض للقارئ أن يستوعب وكذلك يستمتع بما يطرحه ميلفل في (بينيتو سيرينو) فإنه سوف يفهم ويستمتع بقصص مثل (دكتور جيكل والسيد هايد) Dr. Jekyll and Mr. Hyde لستيفنسن Stevensen و(المساهم السري) The Secret Sharer لكونراد Conrad و(بيت ذو شرفة دنيا) House with the Mezzanine لتشيخوف و(تلال مثل فيلة بيضاء) Hills Like White Elephants لهيمنجواي و(المقدمة) Prelude لمانسفيلد وقصة (الكاتدرائية) لكارفر Carver و(ربيع في فيالتا) Spring at Fialta لنابوكوف Nabokov و(اطلق النار أنت ميت) Bang Bang You Are Dead لسبارك Spark وغيرها الكثير. ومن غير الممكن تلخيص أو إعادة صياغة التأثير الشامل لمثل تلك القصص. لقد تمكن ميلفل من وضع المعايير المتعلقة بمتطلبات القصة القصيرة ومهد لوضع المعايير التي يتم بموجبها الحكم على كتاب القصة القصيرة البارزين الآخرين.
وقد باشر تورجينيف أيضاً بنشر قصصه القصيرة في الخمسينيات من القرن التاسع عشر وهو ربما ينافس ميلفل في ريادة الشكل الحديث للقصة القصيرة، غير أن إسهام تورجينيف البارز يتمثل في شروعه فيما انتهى إليه تشيخوف. ترى لماذا يوصف أنطون تشيخوف (1860 -1904) بأنه أعظم كاتب قصة قصيرة شهده العالم؟ إن سائر الإجابات على مثل هذا السؤال تبدو غير كافية لكننا نقول بكل بساطة أن تشيخوف في قصصه الناضجة التي نشرها في تسعينيات القرن التاسع عشر أحدث ثورة في ميدان القصة القصيرة من خلال تحويل مسار القصة. لقد نظر تشيخوف إلى الحياة وفهمها على اعتبارها كافرة وعشوائية وعبثية وأن سائر التاريخ هو تاريخ النتائج غير المقصودة. وقد علم على سبيل المثال أن طيبة المرء لا تمنع من تعرضه للمعاناة القاسية وكذلك الحيف وأن الشخص الكسلان يمكن أن يتقدم دون بذل جهود تذكر وأن الاعتدال يمكن ان يكون قوة شيطانية كبيرة! وقد أفلح تشيخوف من خلال نبذ الحبكة التي تعتمد البداية – الوسط – النهاية التي يتم التعامل معها ببراعة، كما رفض الحكم على شخصياته من خلال عدم السعي الحثيث لبلوغ ذروة الحدث climax أو البحث عن حل قصصي محكم جعل قصصه تبدو نابضة بالحياة. ويمثل تشيخوف نهاية الصفحة الأولى للقصة القصيرة الحديثة، فمنذ وفاته كان تأثيره هائلاً ومباشراً فقد أصبحت القصة القصيرة في القرن العشرين تشيخوفية النزعة على نحو شامل تقريباً فجويس سلك منحى تشيخوف وكاترين مانسفيلد أخذت منه الكثير أما ريموند كارفر Raymond Carver فقد اعتمد عليه اعتماداً أساسياً. وربما نستطيع القول هنا أن سائر القصص القصيرة التي كتبت بعد وفاة تشيخوف قد تأثرت به كثيراً بشكل أو آخر ولو أن كتاب القصة القصيرة في العشرين سنة الأخيرة بدأوا يبتعدون عن منهج تشيخوف المعروف.
ومع قصص تشيخوف والقصص التي شهدها القرن العشرين دخلت القصة القصيرة عصرها الذهبي، وصفة (الذهبي) مناسبة تماماً ففي العقود الأولى من القرن العشرين كان بمقدور كتاب القصة أن يكونوا من الأثرياء خاصة في أمريكا فقد تزايدت أعداد المجلات كثيراً وتعاظمت رغبة القراء بقراءتها وتضاعفت الأعداد المطبوعة وشهدت أجور الكتاب تزايداً كبيراً جداً فعلى سبيل المثال دفعت صحيفة (ساتردي أيفننغ بوست) Saturday Evening Post مبلغ أربعة آلاف دولار لسكوت فيتزجيرالد Scott Fitzgerald لقاء نشره قصة واحدة وهو مبلغ يزيد عن 20 ضعفاً للمبلغ الذي يمكن أن يدفع لكاتب في وقتنا الحاضر.! وفي تلك الفترة التاريخية بدأت شعبية القصة القصيرة بالانتشار الملحوظ كما أنها خضعت لضغوط الحداثة modernism وتأثيرها حيث بدأ هذا الجنس الأدبي يتغير على نحو صارخ إلى حد ما، فقد تميزت بعض أنواع القصة القصيرة عن غيرها كما بدأت انماطها بالتزايد.
منذ بضع سنوات كتبت مقالة في صحيفة (الغارديان) البريطانية طرحت فيها تصنيفاً تقريبياً للقصة القصيرة وتوصلت إلى تحديد سبعة أنواع مختلفة. وحتى مستهل القرن العشرين كان هناك تقليدان رئيسيان هما: القصة التي تعتمد الحدث في حبكتها والقصة التشيخوفية. والنمط الأول (الذي ابتدعه وليام كيرهاردي William Gerhardie) يشير إلى الأسلوب الذي تتبناه القصة ذات الحبكة والتي ازدهرت في الفترة التي سبقت تشيخوف قبل أن يسود نموذجه للقصة التي تفتقر إلى الشكل. ولا شك أن غالبية القصص القصيرة، حتى في وقتنا الحاضر، تندرج ضمن واحدة من النموذجين المذكورين. ومن هذين النموذجين انبثقت نماذج أخرى في العقود اللاحقة. وربما تكون القصة الحديثة أكثر تلك الأشكال شيوعاً حيث يتحول الغموض المتعمد والمربك في الغالب إلى مزية بارزة بصرف النظر عن شفافية الأسلوب الذي تكتب به. ويعتبر هيمنجواي أفضل من أسهم في هذا التوجه كما أن تأثيره على قصة القرن العشرين بعد تشيخوف هو الأكبر تقريبا.
ومن بين أنواع القصص القصيرة التي صنفتها تلك التي تدعى بالقصة الملغزة cryptic story التي تحتضن معنى مبهماً يتعين على القارئ أن يحل غوامضه والذي يكمن ظاهرياً داخل النص المباشر. وهذا النمط يعرف أيضاً بـ (القصة المكبوتة) suppressed story ويمثل تطوراً متأخراً، وربما يكون ذلك أول ابتعاد واضح عن النموذج التشيخوفي العظيم. ومثّل هذا النمط من الكتابة في منتصف القرن العشرين كتاب مثل نابوكوف وكالفينو Calvino وبورخيس Borges رغم أن رديارد كبلنغ Rudyard Kipling في قصص مثل (السيدة باثيرست) Mrs. Bathurst (1904) و(ماري بوستكيت) Mary Postgate (1917) كان قد تميز بكتابة القصة المكبوتة في فترة مبكرة.
وقصة الرواية القصيرة mini-novel story تمثل أيضاً إحدى أنواع الحبكة المعتمدة على الحدث وهي تحاول أن تحقق في صفحات قليلة ما تحققه الرواية في المئات من الصفحات. ويمكن اعتبار قصة (برامج عيد الميلاد الخاصة) Christmas Specials للكاتب تشارلز ديكنز نماذج مبكرة لهذا النمط رغم أن الكثير من كتاب القصة القصيرة يتعاطون معه بين الفينة والأخرى (ومنهم تشيخوف). والنمط الثاني من القصة المعروف بـ (القصة الشعرية / الأسطورية) poetic / mythic story يعتبر نوعاً نادراً قياساً بالأنواع الأخرى، فقصص كل من ديلان توماس Dylan Thomas ودي أج لورنس D. H. Lawrence تنسجم تماما مع هذا النمط، أما قصص جي جي بالارد G.J. Ballard التي تتناول الرحلات القاتمة إلى الفضاء الداخلي فهي تتناغم مع هذا الشكل أيضاً. وفي هذا النمط بالذات تقترب القصة القصيرة كثيراً من الشعر الغنائي، وهي بذلك تسعى بكل وضوح لتحدي الخلاصة السهلة. وينظر إلى قصص بالارد القصيرة الهائلة، التي يمتد أثرها من خمسينيات القرن الماضي، إلى الوقت الحاضر، باعتبارها واحدة من المحاولات الناجحة للتملص من قالب تشيخوف القصصي.
والنوع القصصي الأخير الذي يمتد حتى وقتنا الحاضر يدعى القصة السيرية biographical story، وهو تعبير يشمل القصص التي تتحرك على نحو متقطع وتتعاطى مع الجوانب الواقعية أو التنكرية على اعتبارها فناً غير روائي. وغالباً ما نلاحظ استخدام معوقات الكتب غير الروائية في هذا النمط الأخير (مثل الهوامش والأحاديث الجانبية للمؤلفين والصور الإيضاحية والاقتباسات والتغييرات التي تطرأ على خط الطباعة والإحصاءات والتحايل النصي وما إلى ذلك)، وهذا يمثل أحدث تطور طرأ على شكل القصة القصيرة وحصل في أمريكا في تسعينيات القرن الماضي حين نرى عدداً من الكتاب الشباب وقد تحمسوا لتبني هذا النوع لعل من أشهرهم ديف أكيرز Dave Eggers وديفيد فوستر والاس Dave Foster Wallace ووليم تي فولمان William T. Vollman. أما على ايدي الكتاب الأقل تمكناً فمن السهولة أن ينحدر مثل هذا النوع إلى التوجهات النزوية وبالغة الرقة على نحو متصنع (وهي تستحق تقريباً التصنيف الفرعي الذي ترتبط به). وقصة السيرة الذاتية أيضاً ترسم صورة أناس حقيقيين لعالم القصة أو تتناول سلسلة أحداث خيالية لأناس حقيقيين. ويمكن النظر إلى ذلك باعتباره مسعى من القصة ذاتها في عالمنا الحديث الذي يعج بوسائل الدعاية والأفلام الوثائقية والصحافة والأخبار المتداولة طيلة 24 ساعة لاستعمار بعض تلك الأرجاء وغزو العالم المبني على الحقيقة وإبقاء القصة الخيالية في موقع صلد تماماً من خلال أضعاف الخط الذي يفصل الحقائق الراسخة عن تلك المستحدثة تماماً مثلما يفعل آكل لحوم البشر حين يلتهم دماغ عدوه كي يجعله أقوى! ورغم أن هذا النموذج قد تأثر بالنموذج التشيخوفي فإنه ربما يكون أكثر التوجهات البارزة التي أخطتها القصة القصيرة الحديثة.
ولأنني كنت أحد الحكام الذين كلفوا بتقييم القصص القصيرة المتنافسة على (جائزة القصة القصيرة الوطنية) The National Short Story Prize التمهيدية فقد عكفت على قراءة العشرات من القصص القصيرة في غضون الأشهر القليلة الماضية مما أتاح لي الفرصة المؤاتية إلى حد ما لتشخيص حالة القصة القصيرة المعاصرة. والشيء المثير للاهتمام هنا أن الأسلوبين الرئيسيين في أعلاه ما يزالان مهيمنين وخاصة ما يتعلق بتشيخوف. أما الأنماط الأخرى فقد جاهدت أيضاً لتترك بصمتها في الساحة الأدبية لكنها لم تحقق سوى نجاح محدود حيث يبدو أن الإنجاز الذي تحقق في مستهل القرن العشرين شكّل نوعاً من محطة راحة لكتاب القرن الواحد والعشرين. وتضم القائمة الموجزة التي تحتوي على خمس قصص وفق تصنيفي البديل بشكل مؤقت قصة واحدة من النمط الذي يحتوي على حدث يستند إلى حبكة وقصتين مؤلفتين على النمط التشيخوفي ورواية قصيرة فضلاً عن قصة ملغزة. لكن المعيار كان عالياً إلى حد كبير وهو مؤشر على أن القصة القصيرة بلغت حينئذ مكانة مرموقة. ورغم بروز صعوبات تحول دون نشر القصص القصيرة في هذا البلد وفي بلدان أوروبية أخرى فإن السوق الأمريكي ما يزال واسعاً ومربحاً كما أن تنامي دورات الكتابة الإبداعية في الولايات المتحدة وفي بريطانيا ربما يؤدي إلى تبلور الصفحة القادمة لتاريخ القصة. وتتصف القصص القصيرة أيضاً بسرعة كتابتها نسبياً وبكونها أداة تعليمية متكاملة. وأظن أن هذه الحقيقة توضح سبب توجه الكثير من الكتاب الأمريكان الشباب لهذا الشكل الكتابي فضلاً عن تزايد دور الطباعة التي تتولى نشر القصص، وهو ما تسعى إليه أيضاً دور النشر التي تعمل على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.
إن ميل القراء لقراءة القصة القصيرة، والذي تجذر أبان فترة القرن والنصف الماضية، ظل على حاله في واقع الأمر رغم أهواء دور النشر. ويتمثل السبب مثلما ذكرت سابقاً بوجود توجه لاشعوري في أذهاننا للقصة القصيرة غير أن الثورة التي أحدثها تشيخوف هدفت إلى خلق قصة قصيرة تغير بموجبها السرد القصصي. وقد غدت مظاهر معينة مثل العشوائية وتعذّر التفسير والحذف الاتفاقي، بالنسبة لتشيخوف، شكلاً فعلياً للقصة القصيرة وتم التخلي عن (التصميم الجميل وتلاعب المؤلف بالسرد والخاتمة التي تكيّف وفق حاجة معينة) وأصبح لدينا على نحو مفاجئ أسلوب قصصي يتماشى مع أنماط الحياة العشوائية والاتفاقية التي يتعذر تفسيرها والتي درجنا عليها.
من جانبها لم تكن فرجينيا وولف كاتبة قصة قصيرة متمكنة (وهذا ربما يبرر غيرتها البالغة من كاترين مانسفيلد)، لكنها كانت مصورة فوتوغرافية هاوية رغم ما اتصفت به من براعة وموهبة. وقد قالت عن الفن الفوتوغرافي (أليس من الغرابة أن يلاحظ المرء الكثير في الصورة مما لا يجده في الواقع؟!). ومثل هذا الرأي كما أظن يعيننا على التعاطي مع ما تتمتع به القصة القصيرة من قدرات وجاذبية فهي تقدم لنا لقطات خاطفة عن الوضع الإنساني والطبيعة البشرية، وحين تكون تلك القصص متقنة ومؤثرة فإننا عندئذ نحظى بفرصة نادرة لأننا نرى فيها أكثر مما نراه (في حياتنا الواقعية).
- حكاية أيسلندية قديمة تزخر بالأعمال البطولية. (المترجم)
المصدر:
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.