إن العوامل السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، وما ألحقته بالإنسانية من أضرار فادحة، مادياً ومعنوياً، جعلت الإنسان العربي، والشاعر العربي خاصة، إزاء مجموعة من التناقضات مما دفعه إلى الخروج عن دائرة المألوف، والتمرد على قيم الثبات والجمود. فكانت القصيدة الشعرية محطة أولي أمام الشاعر، وميدان إبداعه.
فلجأ الشاعر العربي إلي استخدام الرمز وسيلة فنية للتعبير غير المباشر عما يريد. و تقنع بشخصية من شخصيات التاريخ فتشبث بها وانطلق منها نحو ذاته، معبرا بوساطة التقنع بها عن مكنونات نفسه، مبيحا عن طريق التقنع بتلك الشخصية عن أسراره إلي المتلقي وصارت تقنية القناع مظهرا من مظاهر الحداثة وما بعدها في الشعر العربي الحديث القناع لغة: (ما تتقنع به المرأة من ثوب تغطي رأسها ومحاسنها).
قال عنترة بن شداد:
إِنْ تُغْدِفي دُونِي القِناعَ فإِنَّنِـي طَـبٌّ بِأَخذِ الفَارسِ المُسْتَلْئِـمِ
أما تعريف القناع اصطلاحاً: (فهو وسيلة فنية لجأ إليها الشعراء للتعبير عن تجاربهم بصورة غير مباشرة، أو تقنية مستحدثة، فِي الشعر العربي المعاصر شاع استخدامه منذ ستينيات القرن العشرين بتأثير الشعر الغربي وتقنياته المستحدثة، للتخفيف من حدة الغنائية والمباشرة في الشعر، وذلك للحديث من خلال شخصية تراثية، عن تجربة معاصرة، بضمير المتكلم. وهكذا يندمج في القصيدة صوتان: صوت الشاعر، من خلال صوت الشخصية التي يعبر الشاعر من خلالها).
القناع نشأته وتطوره
القناع مصطلح مسرحي أساساً لم يدخل عالم الشعر إلا في مطلع هذا القرن ليؤدي وظيفة جديدة تختلف نسبياً عن الوظيفة التي كان يؤديها في مجال السرح.
أما القناع بصيغته الأدبية فقد كان على يد الشعراء الإنكليز سيما الشاعر (بن جونسون) الذي كتب أعمالاً مسرحية تنتمي إلى ما يطلق عليه (الأقنعة) من خلال مسرحيته (السواد المقنعة) عام 1605 والتي تقف في مقدمة أعماله في هذا المجال.
أما الإشارة الأولى للقناع كأسلوب تعبيري في الأدب العربي الحديث فقد كانت إشارة إلى دلالته وجاءت مكتوبة على غلاف مجموعة الشاعر (أدونيس) الشعرية الموسومة (أغاني مهيار الدمشقي) وفي هذه المجموعة لجأ أدونيس إلى طريقة جديدة في التعبير الشعري هي إبداع شخصية (مهيار الدمشقي) وعند ظهور كتاب (تجربتي الشعرية) للشاعر (عبد الوهاب البياتي) أصبح القناع مصطلحاً أسلوبياً يشير إلى الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجرداً من ذاتيته أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى أكثر الشعر العربي فيها.
ويعد البياتي رائد القناع سواء من حيث تحديد مصطلحه الدقيق أو من حيث استخدامه في شعره حتى أن أ. د. إحسان عباس يعتبر أن عماد التجديد في إبداع البياتي يعتمد على تقنية القناع ويعتبر السياب أيضاً من رواد القناع وذلك من خلال عدة قصائد للسياب اعتمدت على تقنية القناع مثل قصيدة (المسيح بعد الصلب).
أهم أنماط القناع
-
الشخصية الأدبية قناعاً:
وتتمثل من خلال قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي ـ مذكرات رجل مجهول:أنا عامل، أدعى سعيدمن الجنوب
أبواي ماتا في طريقهما إلى قبر الحسين
وكان عمري آنذاك.. سنتين
ما أقسى الحياة
-
الشخصية الدينية قناعاً:
وتتمثل في قصيدة الشاعر محمد القيسي (يوسف في الجب):صلبوني في الغربة يا حادي الركبقيدني أخواني
ورموني في الجب
قتلوني يا حادي الركب لأني أحببت
-
القناع الصوفي:
وتتمثل من خلال قصيدة الشاعر صلاح عبد الصبور:
تعالى الله هذا الكون لا يصلحه شيء
فأين الموت أين الموت أين الموت؟
تعالى الله هذا الكون موبوء ولا برء
ولو ينصفنا الرحمن عجل نحونا بالموت.
-
القناع الأسطوري:
ويتمثل في قصيدة الشاعر خليل حاوي (السندباد في رحلته الثامنة):
تتألف القصيدة من عشر مقاطع:
عدت إليكم شاعرا ً في قمة بشارة
يقول ما يقول
بفطرة تحسس ما في رحم الفصل
تراه قبل أن يولد في الفصول
-
القناع الذهني:
ويتمثل من خلال قصيدة الشاعر محمود البريكان (هواجس عيسى):
يخفي المسافرون
وجوههم في صفرة الظل ويحلمون
بالغد… الرجال متعبون يحلمون
بالبيع والشراء والفاقة والثراء
والأهل والبنين والوداع واللقاء
-
الطبيعة قناعاً:
ويتمثل في قصيدة الشاعر علي الشرقاوي (أنا وهي):
لن افاجئ لو قيل لي
إن هذا الجنون هي…
ففي كل ما كان وما سيكون
أنا حجر الزاوية
وأنا جحيم (لذيذ) على القلب
والنار كيف تسمى
إذا لم تكن
حامية
المصادر
- الرمز والقناع في الشعر العربي الحديث، كندي محمد علي، ص7-8
- لسان العرب، لابن منظور
- الرمز والرمزية في الشعر العربي، محمد فتوح أحمد، ص 139.
- قصيدة القناع في الشعر العربي، أطروحة ضياء الثامري، ص 11، 12، 13، 14 و15.
اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي