تمر بعد أيام الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الكاتب والروائي عبد العزيز مشري الذي توفاه الله في السابع من مايو سنة 2000 عن عمر ناهز السابعة والأربعين.
ويعد الراحل من الجيل الثاني من الكتاب السعوديين والمثقفين الطليعيين الذين اتسمت تجربتهم بالمغايرة والجدة والأصالة، وقد أثرى الساحة الإبداعية بمجموعة أعمال قصصية وروائية بلغت حوالي عشرة مؤلفات.
ولد ـ رحمة الله عليه ـ في قرية محضرة بالباحة عام 1374 هـ وعمل محرراً ثقافياً في ملحق المربد الذي كانت تصدره جريدة اليوم، كما شارك في بعض المنتديات والمهرجانات الأدبية داخل المملكة وخارجها وأصدر مجموعة أعمال سردية وهي: موت على الماء، أسفار السروري، قال المغني، الزهور تبحث عن آنية، الفيوم ومنابت الشجر، الوسمية، الحصون، أحوال الديار، ريح الكادي، بوح السنابل، صالحة، جاردينيا تتثاءب في النافذة، مكاشفات السيف، الوردة.
كما ساهم في كتابة المقالة الصحفية عبر زاويته (تلويحة) في أكثر من صحيفة سعودية، كان آخرها (الجزيرة) وعبر ملحقها الثقافي الذي آثر الراحل الكتابة فيه لأربع سنوات خلت.
ويعد الراحل ـ إضافة إلى تميزه في الكتابة الروائية ـ التي أشاد بها الناقد المصري الدكتور علي الراعي واصفاً روايته الفيوم ومنابت الشجر بأنها تضع كاتبها في مصاف كتاب الرواية في العالم العربي ـ في طليعة كتاب القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية والوطن العربي، متميزاً بعالمه المستوحى من البيئة، وقدرته على استحضار التفاصيل، ولغته الشعرية المعبرة.
ولا يكاد المثقفون السعوديون يجمعون على تميز كاتب في التجربة المعاصرة قدر اجماعهم على تميز الخط الإبداعي للمشري. كان أبرز من كتب عن طبيعة الحياة في القرية الجنوبية، بل أبرزهم، حيث نقل عبر تجربته الروائية والقصصية منظومة العادات والتقاليد والقيم والمكونات الحضارية لهذه القرية في أعماله، كما استوحى طبيعة إنسانها ومزاجه وحسه الإنساني.
كما كانت تجربة المرض جلية في إبداع المشري، حيث استمدها كمقومات إبداعية نقل عبرها أدق تفاصيل الإحساس الإنساني ساعة المرض بتلك الشفافية المتناهية والوصف الواقعي المنتقى والحساسية الاستثنائية، وكذلك تجربته في التحرير الثقافي عبر جريدة اليوم، للحد الذي أنتج مجموعة كتاب ومثقفين كان الراحل قد استوعب وجودهم ونشاطهم الثقافي وقدمهم للساحة الثقافية عبر ملحق الجزيرة الثقافي.
وقد ارتبط الراحل بعلاقات احترام وتقدير بالغ من المثقفين السعوديين بمختلف فئاتهم وتوجهاتهم، وكان محور العلاقة من قبله الأدب والاحترام المتناهي وتقبل وجهة نظر المخالف والحيوية في قبول الرأي الآخر والتفاعل المعرفي الخلاق مع الآراء بمختلف توجهاتها.
وتبلغ إرادته الأسطورية في مواجهة المرض حداً كان مثار إعجاب وإكبار الآخرين، إذ ظل يكتب حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
يقول الدكتور معجب الزهراني معلقاً على هذا الجانب: (مرت بي فترة وأنا عاجز تماماً عن أن أرى عبد العزيز أو أن أقرأ أو أسمع شيئاً عنه كنت أضعف بكثير من ألمي، وأقوى بكثير من أية مثابرة لإخفائه أو التصريح به، كنت أثمن كل ما يكتب عنه وإليه وهو في ذروة جديدة من ذرى معاناته المتصلة اتصال إبداعه وحضوره، لكنني لم أستطع المشاركة في هذا النوع من الكتابة لأن لعبد العزيز عندي صورة تختلف كلياً عن عبد العزيز الذي يكتب عنه الآخرون. لم أستطع أبداً الفصل بين الكائن والكاتب فيه، ولا بين النص والشخص المشري، كلاهما من الألفة التي بحيث لا يمكن استحضار أحدهما دون الآخر، ومن المحال استحضارها خارج فضاء الحياة الخفيفة المرحة البسيطة العميقة التي تحفل بها كتاباته).
وكان صديقه ورفيق دربه علي الدميني من أبرز من احتفى بتجربته وعني بانتاجه (كائناً وكاتباً) وكان من أبرز نصوصه الشعرية التي كتبها له (قصيدة لذاكرة القرى) ومنها:
مثلما سيطل الغريب على محضره
سيطل ابن مشري على نفسه في البيوت التي
نبتت من عروق الجبال
وسيسألها عن فتى ذاهب لحقول البدايات
حيث تسيل ورود الطفولة،
فوق عيون الحصى
مثلما تتنامى على شجرة
وسيبسط كفيه قرب المساء
لتأوي إليه العصافير
من غابة اللوز، والطلح، والعنب الفارسي
والرعيني كما تهطل المغفرة
كان إبداع المشري موضعاً للعديد من الدراسات النقدية وتناول انجازه القصصي والروائي باعتباره ملمحاً مستقلاً في مسار الإبداع السردي في المملكة وقد تناول أدبه بالدراسة الناقد الدكتور محمد صالح الشنطي، والدكتور معجب الزهراني، والدكتور حسن النعمي، والدكتور يوسف نوفل، والأستاذ عابد خزندار، والأستاذ أحمد بوقري، والأستاذ حسين بافقيه، والأستاذ معجب العدواني، والأستاذ عبد الحفيظ الشمري، والأستاذ أحمد سماعة، والأستاذة فوزية أبو خالد، والأستاذ حسن السبع والأستاذ فاير أبا.
ولا يكاد يذكر واقع السرد في المملكة حتى يكون اسم المشري أبرز رموزه، ولم يتوقف إبداعه عند القصة والرواية بل امتلك تجربة تشكيلية ثرية حيث مارس الراحل الرسم بالألوان مثلما أبدع الرسم بالكلمات، وقد قام بتنفيذ الرسومات الداخلية للمجموعة الشعرية الأولى للشاعرة فوزية أبو خالد (إلى متى يختطفونك ليلة العرس)، كما رسم لوحات بعض أغلفة أعماله النثرية مثل: ريح الكادي، والحصون، وموت على الماء، والزهور تبحث عن آنية.
ويعتبر شقيقه الأستاذ أحمد بن صالح مشري والشاعر علي الدميني من أقرب أصدقائه إلى نفسه، وقد نشرت الجزيرة أطول حوار صحفي ثقافي حول تجربة المشري الإبداعية والحياتية أجراه الأستاذ علي الدميني إبان تكريمه في جمعية الثقافة والفنون بالباحة، ثم نشر في كتاب ابن السروي وذاكرة القرى.
رحم الله عبد العزيز رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.