منذ فجر الحضارة أعاننا المسرح على اكتشاف أنفسنا وفهمها وعلاقتنا مع العالم من حولنا ومع الآخرين. وعلى إثر ذلك أصّل المسرح دوره في كونه قوة بارزة في العالم. في هذا الشأن يشير لودفك لويسون Ludwig Lewisohn 1955 – 1882:
(ظلت الدراما عبر العصور المختلفة لصيقة بأفكار الناس العميقة أكثر من أي شيء آخر فيما يتصل بطبيعة البشر وقدرهم وذلك من خلال تصويرها للروح البشرية بأفعالها ومعاناتها). وبخلاف بقية الفنون قاطبة فإن المسرح يركز بقوة على الأنسان (وجوده وعلاقته بالحياة) من خلال دراسة الطبيعة البشرية وعلاقتها بالمحيط الذي توجد فيه. وعليه فإن العناصر الأساسية للمسرح والدراما توجد في كل مجتمع.
نشير هنا إلى أن المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية لا يكترث كثيرا للفنون ومنها المسرح بل إنه يعتبرها تافهة، لكن مثل هذا التوجه لاينطبق على مجتمعات أخرى. أضف إلى ذلك أن المنظمات الدينية الغربية قد درجت على إدانة المسرح مما جعل الفنانين يسعون بجدية لتبرير ما يؤدونه من عمل وكذلك تبيان حالهم بصفتهم بشرا منتجين. مع ذلك يشهد المجتمع الأمريكي تحولا واضحا وهذا ما أشارت إليه (جين ألكساندر) Jane Alexander، الرئيسة السابقة للمؤسسة الوطنية الأمريكية للفنون، في مقابلة لها أجرتها معها صحيفة (صندي مورننغ) Sunday Morning حيث ذكرت أن المجتمع يعاني من (أزمة روحية) فالعنف يسود فيه وهو ينظر إلى الحنان بازدراء.
إن لكل إنسان على وجه البسيطة حسا فنيا. وللتدليل على ذلك ما عليك سوى النظر إلى الأطفال اليافعين الذين يتمتعون بصحة جيدة حيث تجدهم يرقصون ويغنون ويرسمون وينطلقون بعيدا في خيالاتهم. ويتميز الفنان بامتلاكه ذائقة فنية متطورة جدا وبدراسته الفن أو الأسلوب الفني وتطويره بشكل بيّن، فضلا عن مقدرته / مقدرتها على تحويل العمل الفني إلى رمز ثقافي أو شمولي. ثم إن الفنان يتخذ من فنه سبيلا للعيش لأنه يجد في داخله حاجة طاغية للتعبير عن مكنوناته؛ ويجد الكثير من الفنانين رغبة عميقة لديهم لأيصال ما ينجزونه من أعمال إلى المجتمع.
ولأن المسرح نسق إبداعي فإن جوهره يقرر طبيعته فضلا عن منجزاته. وعنصر الأبداع في المسرح يرتبط بالتعبير عن المعنى والمشاعر والروح بحيث تتاح للجمهور الذي يرتاد المسرح الفرصة للخوض في التجربة التي يريد الفنان المسرحي إقحامهم فيها. فلربما يرغب الفنان، على سبيل المثال، بجعل المتفرجين يتحسسون تجربة العيش داخل صندوق من الكارتون مرمي في زقاق ضيق بهدف دفعهم لتحسس المشاكل المدينية وفهمها. وفي الوقت ذاته ربما يسعى الفنان للتأكيد على القيمة الأخلاقية أو الشخصية أو العقلية للأشخاص لكون الشخص الذي يعيش في مثل ذلك الصندوق الكارتوني يتمتع بمثل تلك القيمة.
على أن التجربة المستقاة من المسرح تتخطى هذا الأمر، فمن طبيعة البشر الإبتعاد عن الآخرين الذين يختلفون عنا والعيش في أحوال مختلفة، لكن المسرح يسعى لكسر ذلك الحاجز ويمهد لتجربة عالم الشخص الآخر وفي الوقت ذاته إختبار أنفسنا في إطار العالم الذي نعيش فيه، بمعنى أن المسرح يعمل، من الناحيتين العاطفية والفكرية، على ربطنا مع العالم من حولنا بشخص آخر مع عالمه / عالمها، وبذلك يربط المسرح إنسانيتنا بأكملها.
وفي أواخر القرن التاسع عشر أكد ريتشارد واكنر Richard Wagner بأن المسرح هو الفن الذي تلتقي عنده سائر الفنون مثل الرسم والنحت والفن المعماري والموسيقى والكتابة وغير ذلك. غير أن الباحثين في ميدان المسرح في وقتنا الحاضر ينظرون إلى المسرح باعتباره شكلا فنيا قائما بذاته، ففي الوقت الذي يقتضي العمل المسرحي الإستعانة بأشكال فنية أخرى فإن المسرح بحد ذاته هو أكثر من مجموع تلك الأجزاء. في هذا السياق تشير سوزان لانكر Susanne Langer: (يتصف العمل الفني بكونه أكثر من مجرد نسق لأشياء معينة وإن كانت نوعية فهناك شيء جديد ينشأ من نسق النغمات والألوان لم يكن موجودا من قبل، وهذا هو رمز القدرة على الحس الفني وغيره).
لقد سعى الناس منذ زمن بعيد إلى سبر طبيعة المسرح وعمد الباحثون الاختصاصيون إلى دراسة المسرح من ثلاثة أوجه؛ الوجه الأول دراسة العلاقة بين الفنان والعمل الفني مع التركيز على الفنان ذاته. فعلى سبيل المثال يدرس أفلاطون Plato في كتابه الموسوم Ion ما يحصل للفنان حين ينتج عملا فنيا. ثم أن الزعم بأن النص المسرحي يعكس طبيعة المجتمع الذي كتب فيه الكاتب المسرحي نصه ينسجم مع هذا النهج ويفضي إلى طرق نقد تاريخية وسوسيولوجية وأخرى معنية بالسيرة الذاتية.
ويهدف النهج الثاني إلى دراسة العمل الفني حيث كان أرسطو Aristotle أول عالم يستخدم مثل هذا النهج في كتابه Poetics (الشعرية). وفي القرن العشرين اكتشف النقاد الجدد قيمة التحليل التجريبي في فهم الأعمال الأدبية. ورغم أن هذا النهج يساعدنا على فهم النص الدرامي المكتوب فإنه لايعيننا كثيرا على فهم المسرح بصفته أداء.
أما النهج الثالث فيسعى لدراسة العلاقة بين العمل الفني والجمهور (سواء كانوا من المتفرجين أو من القراء). وقد عمد افلاطون إلى استخدام هذا النهج لأول مرة في كتابه الموسوم (الجمهورية) The Republic. وفيما بعد ابتدع هوراس Horace مبادىء ومناهج سوكية في عمله الموسوم (فن الشعر) Arts Poetica حول العلاقة التي تربط بين الفن والجمهور وهي العلاقة التي خنقت الفن لقرون عديدة. وفي أيامنا هذه يبدي الكثير من العلماء والباحثين الاهتمام بالعلاقة بين العمل الفني والجمهور ويعتبرونها تجربة تربط بينهما.
أهمية المسرح
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا وجد المسرح؟ ولماذا يشكل المسرح جزءا لا يتجزأ من كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية؟ أين تكمن أهمية المسرح؟ في الواقع يكتسب المسرح أهميته من كوننا بشرا فحاجاتنا الأنسانية لا تقتصر على الطعام والأمان وكسب الاحترام والحياة فحسب، إذ أننا في حاجة ماسة لأن نبدع ولأننا خلقنا كي نكون مبدعين علما أن أوج الإبداع هو خوض التجربة.
والمسرح يأخذ طابعا تعبيريا فالفنانون المسرحيون يعمدون إلى ابتداع تجربة تتمحور حول علاقتنا بالعالم الذي يحيط بنا. ونحن في حاجة إلى أن نبيّن، من خلال التعبير، من نحن من خلال استكشاف العلاقة بين أنفسنا والله تعالى، وبين أنفسنا والناس الآخرين وبين أنفسنا والطبيعة وبين أنفسنا والمجتمع وكذلك بين انفسنا وأنفسنا ذاتها. إن مثل هذا التقصي الاستكشافي يؤدي إلى تجربة حرفية لكل من المتفرجين الذين يحضرون العروض وكذلك الفنانين، وبذلك يشارك أفراد الجمهور بالتجربة مما يجعلهم معبّرين أيضا. والممثلون، من جانبهم، يدركون مثل هذه الظاهرة باعتبارها (كهرباء) أو (في كونهم مرتبطين روحيا بالجمهور) أثناء أدائهم المسرحي. وبصفتنا بشرا فإننا نشعر بالدافعية لأن نستكشف ونفهم ونشعر ونعبّر عن أنفسنا في العالم الذي نعيش فيه.
ويتميز المسرح عن غيره من الفنون بارتباطه بالإبداع، أي خلق عالم ما. ثم أننا نشعر بالحاجة لتحقيق ذواتنا من خلال الإبداع. والمسرح بصفته شكلا فنيا يمثل قمة الإبداع لأننا نعمل على خلق عالم تام وحي يركز على أنفسنا بصفتنا بشرا. إن التجربة ذاتها التي يقوم بها كل من الفنان أو أفراد الجمهور تجعل العالم الذي تم استنباطه مفعما بالحيوية وربما يكون الموقف (ونعني به كتابة النص المسرحي والتمثيل الذي يؤديه الممثلون والجلوس في قاعة المسرح وغيرها) مختلقا لكن التجربة واقعية وحقيقية تماما.
ولأن التجربة حقيقية وحية فإن المسرح يبتدع العالم الذي نعيش فيه بشكل موضوعي. تأسيسا على ذلك، يمتلك المسرح المقدرة على تغيير حياتنا بشكل ملموس ويعيننا على خلق العالم خارج المسرح.
عراقي الجنسية
1951مواليد عام
حاصل على ماجستير لغة انكليزية
أستاذ مساعد في قسم الترجمة ـ كلية الآداب ـ جامعة البصرة ـ جمهورية العراق
المنصب الحالي مدير مركز اللغات الحية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة
الخبرة المهنية:
تدريس اللغة الانجليزية، لغة وأدبا وترجمة، في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة البصرة منذ عام 1981 ومن ثم التدريس بكليتي التربية والآداب بجامعة الفاتح في ليبيا منذ عام 1998 وبعدها بكليتي اللغات الأجنبية والترجمة والإعلام بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة اعتبارا من عام 2004. ويشمل التدريس الدراسات الأولية (البكالوريوس) والدراسات العليا (الماجستير) حيث أشرفت على عدة طلبة ماجستير فيما كنت أحد أعضاء لجان المناقشة لطلبة آخرين ، كما نشرت العديد من البحوث في مجلات علمية محكّمة.
الخبرة العملية:
العمل في ميدان الترجمة حيث نشرت أربعة كتب مترجمة إلى اللغة العربية كما نشرت المئات من المقالات والقطع والنصوص الأدبية المترجمة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ومنها مجلة المنال. كما عملت في مجال الصحافة والإعلام والعلاقات العامة وكذلك الترجمة في مراكز البحوث والدراسات في العراق وليبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة.