(سوف أروي قصة حقيقية تدور أحدثها حول أهمية التشخيص المبكر في حياة الأطفال ذوي الإعاقة بصفة عامة وأطفال اَضطراب طيف التوحد بصفة خاصة، وقد حدثت هذه القصة في شمال شرق المملكة المتحدة في مقاطعة نيوكاسل وبالتحديد في منطقة (درم) حيث كنت شاهدا علي أحدثها).
كانت زوجة صديقي (هيلين) ذات الأربع والعشرين ربيعاً في الشهر السابع من حملها الأول عندما تلقت النبأ السعيد بأن مولودها المرتقب ولد (ذكر) تماماً كما كانت تتمنى، فقد كانت هي وزوجها (فليب) يتمنيان أن يكون مولودهما الأول ولداً.
ولد الطفل ستيفن في ذات صباح مشرق جميل من يوم الأحد بعد ساعات قليلة من آلام المخاض لم تعقبها أي مضاعفات تذكر، وكان طفلاً جميلاً موفور الصحة وزنه عند الولادة في الحدود الطبيعية.
وبعد يومين رجع الأبوان السعيدان هيلين وفيليب إلى منزلهما في صحبة ابنهما الغالي، وقد تم إعادة ترتيب المنزل لتوفير الراحة للطفل الجديد. وكان الأبوان مستعدين لولوج عالم الأبوة وتقبل كل التغييرات المترتبة على ذلك كجزء من التجربة الجديدة كلياًّ، ولم يكونا يدركان أنهما لم يكونا مستعدين لما ستتكشف عنه الأيام.
وكما هو شأن الأمومة الصغيرة عادة، كانت الشهور الأولى حافلة بالمشاغل والراحة المتقطعة وإطعام الطفل، تذكر هيلين بصورة باهتة كيف كان ابنها يبكي بكاءً متصلاً ولكنها كانت تقول لنفسها إن جميع الأطفال يبكون ولم يكن هذا إلا تفكيراً يمر بخاطرها مراً سريعاً. بدأ القلق يساورها عندما بلغ ستيفن الشهر الخامس من عمره… (إن أول شيءٍ أذكره أن ستيفن لم يكن يرفع رأسه نحوي أو حتى يحاول النظر إليّ، كنت قد سمعت أن الأطفال يستطيعون التعرف على أصوات أمهاتهم ويستطيعون التجاوب معهن بصورة جيدة، وشعرت أن نظرات ابني خاوية وأنه لم يكن يضحك أو يبتسم، حاولت أن ألاعبه بإخفاء وجهي وإصدار أصوات مختلفة من الألعاب ولكنه لم يكن يبدو مهتماًّ، لم يتجاوب معي مطلقاً؛ لم يكن يسمعني).
(وبعد شهرين تقريباً كان أبي يحمل ستيفن ويتجول به وسررت عندما رأيته يرفع رأسه ثم تبعت بصره، كانت عيناه مركزتين على المروحة التي كانت تدور دون أن يرفع بصره عنها. وعندما كنا نأخذه إلى غرفة الجلوس كانت المروحة هي التي تجذبه دائماً، لقد كنت حائرة، هل يمكن أن يكون ابني عبقرياًّ صغيراً؟ ولكنه مع ذلك لم يكن ينظر إليّ ولا إلى أبيه).
كان الإحباط يتسلل إلى هيلين ويكبر في نفسها يوماً بعد يوم لأن (طفلها) بطيء ولكنها لم تستسلم. تعترف هيلين أنها حاولت أن تفرض على ابنها بعض مراحل النمو المبكرة، كانت تجعله يتقلب على نفسه وتريه الناس على أنه يفعل ذلك بنفسه، وتجعله يجلس مستوياً رافعاً رأسه وتقول إنه يصنع ذلك بنفسه، وتلف أصابعه الصغيرة بقوة حول لعبة وتظل ممسكة بها وتقول إنه يستطيع أن يمسكها بنفسه.
حين تستعيد بذاكرتها الحركات الأولى لابنها تقول هيلين: (لا أذكر ابني وهو يحبو، وبعد أيام قليلة فقط من الحبو وقف منتصباً بنفسه وكان في الشهر التاسع من عمره، ولم يمش ابني ولكنه ركض. كلما نظرت إلى ستيفن شعرت أنه طفل كغيره من الأطفال لأنه كان يبدو عادياًّ جداً مما رسخ في اعتقادي أنه سيكون بخير).
كانت هيلين متفائلة وكانت تأمل أن ابنها سيكبر مع الوقت وسيتعلم بصورة أسرع. ولكن تحطمت آمالها عندما اكتشفت أن ستيفن يحب العزلة وتنتابه نوبات طويلة من البكاء لأسبابٍ غير واضحة. تذكر هيلين أنه: (بكى ذات مرة بكاءً متصلاً وعندما جئت به قريباً من ستارة غرفة الجلوس ذات الألوان الصارخة انزعج بشدة حتى غادرنا المكان، وعلى العكس من ذلك لم يكن يبكي عندما كان يقع ويجرح نفسه، ولم يكن هذا منطقياًّ).
بلغ ستيفن الثانية والنصف من عمره وكان بطيئاً وأدنى من مستوى نمو الأطفال الآخرين، ولم يكن الأبوان مقتنعين بتطمينات الأهل والأصدقاء بأن الأطفال يختلفون ويتعلمون بسرعات مختلفة ثم قررا اللجوء إلى الاستعانة بأرباب الاختصاص في المجال.
تقول هيلين: (لقد أخذ الطبيب وقتاً طويلاً لعمل تقييم شامل لستيفن، كانت هذه هي المرة الأولى التي سمعنا فيها كلمة (التوحد) وظننا أنه يمكن أن يعالج ببعض الحبوب).
تصفح الأبوان الإنترنت وتحدثا مع أصدقائهم من الأطباء والمعلمين: (لقد مضت عدة أيام قبل أن ندرك أن ستيفن لن يكون الطفل الذي كنا نريده أن يكون).
ترجع هيلين بذاكرتها إلى السنوات الثلاث الأولى من عمر ستيفن وتقول: (إن كثيراً من التصرفات التي كان يقوم بها ستيفن والتي كنا نتجاهلها باعتبارها غير مهمة بدأنا ندرك مغزاها الآن، أذكر أنه كان ينظر بحدة إلى بقع معينة في السيراميك على أرضية المنزل، وكان يرفرف بيديه وكنت أظن أنه يقلد الطيور، وأذكر أيضاً أنني ذات مرة أخذته إلى الحديقة فبدأ يمشي في الحديقة ويمر وسط حشد كبير من الأطفال الذين كانوا يلعبون دون أن يظهر أي رد فعل على وجهه). بلغ ستيفن الثامنة من العمر، وبعد تشخيصه تبين أن لديه اضطراب طيف التوحد وتم إلحاقه بمدرسة خاصة.
إن حالات التوحد بدأت تنتشر بمعدلات متزايدة ومخيفة ويصيب التوحد الذكور من الأطفال أربعة أضعاف ما يصيبه الإناث.
ما هو التوحد؟
إن التوحد اضطراب عالمي منتشر في كل الدول والمناطق وبين الأجناس البشرية المختلفة بصرف النظر عن أساليب حياتهم ومستوياتهم التعليمية وخلفياتهم الاجتماعية، ولا تزال أسبابه غامضة حتى الآن، والدراسات جارية لمعرفة أسبابه مع التركيز على عدد من العوامل المختلفة من بينها العوامل الوراثية.
يصنَّف التوحد على أنه اضطراب عصبي دائم مدى الحياة وغالباً ما لا يمكن ملاحظته حتى يبلغ الطفل 18 – 36 شهراً من العمر، يمكن تشخيص التوحد من خلال الاطلاع على تفاصيل تاريخ حالة الطفل وتقييمه باستخدام معايير الاختبار ومراقبة سلوكه.
يوضح الدليل الصادر عن الجمعية البريطانية للتوحد بعنوان (السلوك المستعصي والتوحد) ثلاثة أعراض للتوحد تتمثل في عجز الطفل عن:
- التواصل الاجتماعي والإدراك
- التواصل غير اللفظي واللفظي
- المرونة في التفكير والسلوك بما في ذلك التخيل.
وتختلف هذه الأعراض في حدتها من فرد إلى آخر وتظهر لدى بعض الأفراد بصورة طفيفة ولدى بعضهم بصورة حادة.
من المعلوم أن هناك علاقةً وثيقةً بين التوحد وصعوبات التعلم، وقد أشارت الجمعية البريطانية للتوحد إلى أن ثلثي الأفراد الذين تم تشخيصهم بالتوحد لديهم درجةٍ معينةٍ من صعوبة التعلم، ولكن بالاستعانة بأنواع معينة من التعليم والتدريب يمكن تمكين بعض الأشخاص من ذوي اضطراب طيف التوحد من التعرف على العالم من حولهم، كما يمكن تدريب بعضهم حتى يعيشوا حياة مستقلة أو حتى يمكن تدريبهم على مهن معينة.
إن الأطفال الذين لديهم مشكلة التفاعل الاجتماعي والذين ثبت بالتشخيص فيما بعد إصابتهم بالتوحد قد يبدو عليهم نشاط مفرط زائد عن الحد أو على العكس هدوء مفرط زائد عن الحد، فبعض الأطفال لا يرفع بصره عند التحدث إليه ولا يرد بالابتسامة، وقد يظهر بعضهم شيئاً من الاهتمام عندما يحمله الكبار، وبعضهم لا يبدو عليه أي أثر في مشكلة التفاعل الاجتماعي حتى سن الثانية أو الثالثة ولا يوجد تأخير في مراحل نموهم المبكرة، وقد يشك الآباء أول الأمر في وجود مشكلة سمعية لدى الأطفال الذين تظهر لديهم مشكلة التفاعل الاجتماعي.
وفيما يتعلق بالتواصل غير اللفظي واللفظي، فإن الأطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد قد لا يناغون أو لا يظهر لديهم أنهم قد توقفوا عن المناغاة. قد يفتقد هؤلاء الأطفال إلى مهارات المبادرة وإن وجدت لديهم هذه المهارات فإنها قد تكون محدودة، في صغرهم قد يطلبون مساعدة الكبار بلمسهم أو سحبهم دون أن يكون هناك أي تواصل أو تعبير على الوجه، وقد يكون التواصل ضعيفاً لدى بعض الأطفال، وعندما تتقدم بهم السن قد تنمو لديهم عادةُ ترديد عبارات لا معنى لها بصورة متكررة. وقد يكون لدى بعضهم صوت رتيب أو تلحين للكلمات أو العبارات التي يرددونها، وبعضهم لا تنمو لديه القدرة على النطق على الإطلاق، وقد يكون لدى بعض الأطفال القدرة على النطق ولكنهم يجدون صعوبة في التواصل مع البيئة من حولهم بحيث يكون التواصل لديهم على مستوى التجريد خالياً من الطبيعة الشخصية، وبعضهم يظل يكرر أو يعيد نفس الأسئلة عن الموضوعات التي تقع في دائرة اهتماماته.
إن صعوبات التخيل والمرونة في التفكير تمتد لتغطي مشاكل أخرى تؤثر على النمو الطبيعي للطفل، وعند بدء ظهور الأعراض فإن الأطفال الذين يفتقرون إلى مهارات اللعب والتخيل التلقائية سوف يخسرون الكثير من فرص التعليم، ولا يكونون قادرين على التعامل مع باقي الأطفال وكذلك سيجدون صعوبة في اللعب التخيلي والألعاب بشكل عام، كما يجدون صعوبة في توقع الأحداث والتنبؤ بها.
يستجيب الأطفال الذين تم تشخيصهم بالتوحد بشكل معاكس لعدد من الخبرات الحسية، أو لا يستجيبوا البتة، فيكونون أحياناً ذوي حساسية مفرطة أو حساسية قليلة، فعلى سبيل المثال قد يتصرف الأطفال بشكل غير تقليدي كالبكاء ووضع الأصابع في الأذن جراء سماع صوت مفاجئ أو أصوات بترددات مختلفة، كما قد يتعلق بعض الأطفال بملابس معينة، وبعضهم الآخر قد يكون شديد الحساسية للتذوق أو الشم فيسعى دائماً للحصول على نفس الإحساس بتذوق أطعمة معينة وحتى أشياء غير الأطعمة مثل الأشياء المعدنية، وقد يقوم بعض الأطفال بتدوير أشياء معينة أو ينشغل بقطعة صغيرة من اللعبة أو يقوم بصف عدد من السيارات أو الجنود بطريقة معينة، أو ينجذب إلى الضوء أو الظل بشكل غير طبيعي، وقد يقوم بعضهم بالدوران حول نفسه أو برفرفة يديه، كما قد يكون عند بعضهم عدم وعي بقواعد السلامة أو قد يخافون من أنشطة جديدة يمارسونها لأول مرة، قد يظهر بعض الأطفال عدم استجابة للألم أو مبالغة في بعض الأحيان عند الإصابة بجرح بسيط.
كل ما سبق من صعوبات هي أعراض لسلوكيات غاية في التعقيد والصعوبة وتشكل تحدياً للأخصائيين والعاملين والمربين، كما وتختلف الأعراض من طفل إلى آخر، يتعرض هؤلاء الأطفال لنوبات غضب وسلوكيات عدوانية ضد الغير أو الذات، وقد يتصرف بعضهم بسلبية ولا مبالاة، وفي النهاية يكون كل منهم في عالمه الخاص.
إن خصائص التوحد مختلفة ومتباينة ولا يوجد نمط واحد لهذه الخصائص وما سبق من خصائص لا يجتمع في طفل واحد.
وبالنظر إلى ماضي هيلين المؤسف (كنت أتمنى أن أعرف مسبقاً أن هناك شيء ما يدعى التوحد، كنت ساعدت طفلي بأخذه إلى أخصائي قبل شهور مضت).
وكما نستشهد من تجربة هيلين الشخصية وكل ما سبق على أهمية ما يوصي به الاخصائيون بأنه عند الشك بوجود أي نمط غير طبيعي أو أي اختلال عن المنحى للتطور لا بد لنا من طلب المساعدة لأن التدخل المبكر يؤدي إلى نتائج أكثر ايجابية.
الحياة التي تعيشها (هيلين) في منطقة (درم) التابعة لمنطقة نيوكاسل في شمال شرق بريطانيا متنوعة ما بين لحظات من الحزن والتعاسة والإحساس بالفقد كما أن هناك لحظات من الفرح تتمثل بأي إنجاز ينجزه (ستيفن) حتى ولو كان بسيطاً.
- معلم التربية الخاصة بمدرسة الوفاء لتنمية القدرات ـ فرع الرملة
- عضو الجمعية الوطنية البريطانية للتوحد
- حاصل على جائزة أفضل معلم تربية خاصة 2008 في دبي
- تمهيدي ماجستير الصحة النفسية جامعة طنطا